فقه
1- يُخبِر النبي ﷺ أنَّ الله تعالى طيِّبٌ مُنَزَّهٌ عن النقائص والعيوب. وأصل الطِّيب: الزكاءُ والطهارةُ والسلامة من الخُبث[1]
ولذلك فلا يَقبَل الله تعالى إلا الطيِّب من الأعمال والنفوس؛ فلا يُقرِّب منه سبحانه مَن كان خبيثَ النَّفسِ يَحمل البغضاءَ والضَّغينةَ للناس، ومَن كان يُخالِق الناس بخُلق بَذِيء، ومَن نبَت جسدُه مِن أكل الحرام.
كذلك لا يَقبَل سبحانه من الأعمال إلا الطيِّب، فلا يقبل عملًا دخَله الشِّرك والرياء، ولا يَقبل صدَقةً من مالٍ أُخِذ بغير وجه حقٍّ،
«ما تصدَّق أحدٌ بصدَقةٍ من طيِّب - ولا يَقبَل اللهُ إلا الطيِّبَ - إلا أخَذها الرحمن بيمينه، وإن كانت تَمْرةً، فتَرْبو في كَفِّ الرحمن حتى تكون أعظمَ من الجبل، كما يُربِّي أحدكم فَلُوَّه أو فَصِيله»
- والفَلوُّ ولدُ الحصانِ، والفصيلُ ولدُ الناقةِ- وقال أيضًا: «لا تُقبَل صلاةٌ بغير طُهُور، ولا صَدقةٌ مِن غُلُولٍ»[3]
ويَدخل في الخبيث الذي لا يَقبله اللهُ تعالى أن يَعمَد الرجلُ إلى أسوأ ما في ماله ليُخرِجه عن زكاة ماله،
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ}
2- ثم بيَّن ﷺ أنَّه لا فرق في الأمر بإطابة المطعم والمشرب والمَلْبَس بين الأنبياء والمرسلين وبين أتباعهم من المؤمنين؛ فكما أَمَر اللهُ تعالى جميعَ النَّاس بالأكل من الطيِّبات والعمل الصالح، فكذا أمَر أنبياءَه ورسلَه، فالكلُّ مأمورٌ بطلب الحلال وترْكِ الحرام.
3- ثم أخبر ﷺ أنَّ الأكلَ من الحرام عاملٌ من عوامل عدم استجابة الدعاء مع توافُر أسبابها؛ فقد يَخرج الرجل مسافرًا في أحد أسفار الطاعات؛ كالحج أو الجهاد أو الدعوة أو نحوها، تبدو عليه آثار السَّفر والإجهاد، فشَعْرُه متفرِّقٌ غير مُهَذَّبٍ، وعلى وجهه وثيابِه آثارُ الغُبار، يرفع يديه إلى السماء داعيًا مُلِحًّا على الله أن يَستجيب له، غير أنَّه عاكفٌ على الحرام؛ فأكلُه وشُربه ومَلْبَسُه وغذاؤه من الحرام؛ فكيف يُستجاب لمثل هذا؟!
وقوله: «فأنَّى يُستجاب» استفهامٌ وقَع على وجه التعجُّب والاستبعاد، وليس صريحًا في استحالة الاستجابةِ ومَنْعها بالكُلية؛ إذ يجوز أن يَستَجيب اللهُ تَفضُّلًا وكرمًا منه سبحانه، ويجوز أن يَستَجيب ليكون ذلك إمْهالًا له وقَطعًا لحُجَّته أمام الله. فيُؤخَذ من هذا أن التوسُّعَ في الحرام والتغذِّيَ به من جُملة موانع الإجابة[4]
اتباع:
1- (1) المؤمن كلُّه طيِّبٌ؛ قلبُه ولسانُه وجسدُه، وذلك بما سكَن في قلبه من الإيمان، وظهر على لسانه من الذِّكر، وعلى جَوارحه من الأعمال الصالحة، التي هي ثمرة الإيمان، وهي داخلة في اسمه كذلك، فهذه الطيِّباتُ كلُّها يَقبلها الله تعالى[5]، فعلى المسلم أن يَزداد إيمانًا حتى يزداد طيبًا وزكاءً.
2- (1) يُحبُّ اللهُ تعالى أن يَرى اقتداءَ عبده به في بعض صفاته التي لا تختص به؛ كالرحمة واللُّطف والعفو ونحوها؛ يحبُّ أن يرى عبده مُقتديًا به في رحمته ولُطفه وعفوه، وكذلك يُحِب أن يكون عبدُه طيِّبًا بعيدًا عن النقائص والرذائل.
3- (1) على العبدِ أن يحِرص على إطابة مَطْعمه ونفسه وعمله؛ حتى يحبَّه الله ويتقبَّل عمله؛ قال وَهْبُ بنُ الورد رحمه الله: "لو قُمتَ مَقامَ هذه السَّارية [أي في المسجدِ]، لم ينفعْكَ شيءٌ حتَّى تَنظُر ما يَدخُل بطنَك حلال أو حرام"[6]
4- (2) إذا أراد المُعلِّمُ والمُرَبِّي أن يَفعل تلميذُه شيئًا ما، فعليه أن يكون قدوةً له فيه، فكما يأمره بالحرص على الجماعات، فلْيَكن أوَّلَ الحاضرين إلى الجماعة، وإذا حثَّه على التطوع بالنوافل، كان واجبًا أن يَراه تلميذُه كذلك. ولهذا أخبر ﷺ أنَّ المرسلين مأمُورون بطلب الحلال وترك الحرام شأنُهم شأنُ جميع المؤمنين، لا فرْقَ بينهما.
5- (2) في الحديث إعلاءٌ لشأنِ المؤمن؛ حيث وجَّه الله تعالى لهم ما أمَر به المرسَلين، فهمْ أهلٌ لذلك لإيمانهم ورِفعة درجتهم[7]
6- (3) أخبر ﷺ أنَّ السَّفرَ من بواعث إجابة الدعاء؛ إذ هو مَظِنَّةُ حصول انكسار النفْس بطول الغُربة عن الأوطان، وتحمُّل المشاقِّ، والانكسارُ من أعظم أسباب إجابة الدعاء[8]،
«ثلاثُ دَعَوات مُستَجابات لا شكَّ فيهن: دعوة الوالد، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم»
فإذا كان المسلمُ على سفرٍ فلْيُكثِر من الدعاء؛ فإنه حَرِيٌّ أن يُستجاب له.
7- (3) من بواعث إجابة الدعاءِ رفع الأيدي في الدُّعاء مُتضرِّعًا خاشعًا؛
«إن ربَّكم تبارَك وتعالى حَيِيٌّ كريمٌ، يَستَحيي من عبده إذا رفَع يدَيْه إليه أن يردَّهما صِفْرًا»
فعلى المسلم أن يرفع يده في الدُّعاء في المواضع التي رفع فيها النبيُّ ﷺ يده.
8- (3) الإلحاحُ في المسألة من أسباب إجابة الدُّعاء، فلا يَعجَل المسلمُ في دعائه فيدعو مرةً ثم يترك الدعاء، بل يُكثِر من الدعاء ويُلحُّ على ربِّه الكريم،
«يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ؛ يَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي»
9- (3) أكل الحلال من أعظم أسباب إجابة الدعاء، والأكل من الحرام مانعٌ من ذلك. ولهذا قال وَهْب بن مُنبِّه رحمه الله: "مَن سرَّه أن يَستَجيب الله دعوتَه، فلْيُطِبْ مَطْعمَه"، وقال يوسفُ بن أسباطٍ رحمه الله: "بلغَنا أن دعاءَ العبد يُحبَس عن السماوات بسوء المَطْعَم"[12]
10- (3) إذا كان الرجلُ مسافرًا في طاعة من الطاعات، عاكفًا عليها، ولا يُستجاب له لمجرَّد أنَّ طعامه من الحرام، فكيف بمن هو مُنهمِكٌ في الدنيا أو في مَظالِم العباد، أو من الغافلين عن أنواع العبادات والخير؟![13]
11- حرَص السَّلف رضوان الله عليهم على إطابة مَطْعَمهم، والبُعد عمَّا أورث شكًّا في حِلِّه وحرمته؛
فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت:
"كان لأبي بكر غلامٌ يُخرِج له الخَراج [أي: يعطيه كل يوم ما عيَّنَه وجعَله عليه من كسبه]، وكان أبو بكر يأكُل من خَراجِه، فجاء يومًا بشيء فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلامُ: أتَدْري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنتُ تكهَّنتُ لإنسان في الجاهلية، وما أُحسِن الكِهانة، إلا أني خدَعْتُه، فلَقِيَني فأعْطاني بذلك، فهذا الذي أكلتَ منه، فأدخل أبو بكر يدَه، فقاءَ كلَّ شيء في بطنِه"
12- قال الشاعر:
نحْنُ نَدْعُو الإلهَ في كُلِّ كَربٍ = ثُمَّ نَنساهُ عِندَ كَشْفِ الكُروبِ
كَيْفَ نَرجُو إجابةً لدُعاءٍ = قَدْ سَدَدْنا طَرِيقَها بالذُّنوبِ؟!
المراجع
- انظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (3/ 535)، "الميسر في شرح مصابيح السنة" للتوربشتيِّ (2/ 655).
- رواه البخاريُّ (1410)، ومسلم (1014).
- رواه مسلم (224).
- انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبي (3/ 60)، "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 275).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 260).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 263).
- انظر: "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 142).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 269).
- رواه أبو داود (1536)، والترمذيُّ (1905)، وابن ماجه (3862).
- رواه أبو داود (1488)، والترمذيُّ (3556)، وابن ماجه (3865).
- رواه البخاري (6340)، ومسلم (2735).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 275).
- "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص 41، 42).
- رواه البخاري (3842).