عن أبي هُريرةَ رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله ﷺ: «أيُّها الناسُ، إن اللهَ طيِّبٌ لا يَقبَل إلا طَيِّبًا،وإن اللهَ أمَر المؤمنين بما أمر به المرسَلين، فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، ثم ذكَر الرجُل يُطِيل السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السماء: يا ربِّ، يا ربِّ، ومطعمُه حرامٌ، ومشرَبُه حرامٌ، ومَلبسُه حرامٌ، وغُذِيَ بالحرام، فأنَّى يُستجاب لذلك؟!»

عناصر الشرح

غريب الحديث

أشعث: أي: متفرِّق الشَّعر، والمقصود: غير مُهتمٍّ بمَظْهَره[1]

أغبَر: يُخالط لونُه لونَ الغُبَار[2]

المراجع

  1.  قال الأصمعيُّ: الشَّعث: تفرُّق الشَّعر، فلا يكون ملبَّدًا. انظر: "غريب الحديث" لإبراهيم الحربي (2/ 589)، "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (2/ 478).
  2.  قال أبو موسى الأصبهانيُّ المدينيُّ في "المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث" (2/ 536): الأَغبَر: الذي يخالِطُ لَونَه غُبْرةٌ.

المعنى الإجماليُّ للحديث:

يروي أبو هريرة ر ضي الله عنه  عن رسول الله أنه قال: «أيها الناس، إن اللهَ طيِّبٌ»؛ أي: إنه تعالى طاهرٌ منزَّه عن النقائص. «لا يَقبَل إلا طَيِّبًا»؛ أي: حلالًا. «وإن الله أمَر المؤمنين بما أمر به المرسلين؛

فقال:

{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا}

[المؤمنون: 51]،

وقال:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}

[البقرة: 172]

أي: إن الله تعالى أمر عباده المؤمنين، ورُسُلَه بعمل الصالحات، وأَكْلِ الطيِّبات من الرزق.

«ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ»؛ أي: ضَرَب النبيُّ ﷺ  مَثَلاً لهذا الرجل: «يُطِيْلُ السَّفَرَ»: والسفر من أسباب إجابة الدعاء، ولاسيَّما إذا أطاله. «أَشْعَثَ أَغْبَرَ»؛ أي: أنه لا يهتمُّ بنفسه، فهو ثائر الشعر، أغبرُ من التراب؛ فكلُّ همِّه الدعاء. «يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السماء»: يرفعهما داعيًا متضرِّعًا لربِّه: «يَا رَبِّ يَا رَبِّ»: مؤمِّلاً إجابةَ الدعاء. «وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ»؛ أي: طعامه الذي يأكله حرام. «وَمَشرَبُهُ حَرَامٌ»؛ أي: شُربه الذي يشربه حرام. «وغُذِيَ بالحَرَامِ»؛ أي: أنه تغذَّى بالحرام الحاصل من فعل غيره. «فأنَّى يُستجاب لذلك؟!»؛ أي: فكيف يستجاب؟! يعني: يبعد أن يُستجاب لهذا، مع أن أسباب الإجابة موجودة.

الشرح المفصَّل للحديث:

هذا الحديث يُشير فيه النبيُّ ﷺ إلى مانعٍ من موانع استجابة الدعاء.

وفي قوله ﷺ: «إن الله طيِّب» تسميةُ الله بالطيِّب، وهو بمعنى: القُدُّوس المنزَّه عن النقائص، والرذائل، وقبائح الأفعال والصفات، وأصل الطِّيب: الزكاءُ والطهارةُ والسلامة من الخُبث، ومنه سُمِّيت المدينة طابة وطَيْبة؛ لطهارتها من الشرك، وإذا أُطلِق الطيِّب في حقِّ العبد، كان المراد منه المتعرِّيَ عن الجهل والفِسق، المتحلِّيَ بالعلم والصلاح[1]

فالله عزَّ وجلَّ طيِّب، وأفعاله طيبةٌ، وصفاته أطيبُ شيء، وأسماؤه أطيبُ الأسماء، واسمه الطيِّبُ، لا يصدُر عنه إلا طيبٌ، ولا يصعَدُ إليه إلا طيبٌ، ولا يقرب منه إلا طيِّب، فكله طيب، وإليه يصعَدُ الكَلِم الطيبُ[2]

وتسميةُ الله بهذا الاسم دليلٌ على أنَّ أسماء الله ليست كلُّها المحصورةَ في حديث الترمذيِّ: «إن لله تسعة وتسعين اسمًا، مائةً غير واحدٍ، مَن أحصاها دخل الجنة، هو الله الذي لا إله إلا هو، الرحمن الرحيم، الملك القدوس، السلام المؤمن، المهيمن العزيز، الجبار المتكبر...»[3]؛ فإن "الطيِّب" ليس في تلك الأسماء[4]

وقوله: «لا يَقبَل إلا طيِّبًا»؛ أي: لا يَقبَل إلا الكَسبَ الطيِّبَ؛ فإنه كونه طيِّبًا منزَّهًا عن الظلم يقتضي ألَّا يَقبل صدقةً من مال مغصوب، أو مسروق، أو أُخذ على غير وجه حقٍّ[5]

(يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا كَسَبۡتُمۡ وَمِمَّآ أَخۡرَجۡنَا لَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِۖ وَلَا تَيَمَّمُواْ ٱلۡخَبِيثَ مِنۡهُ تُنفِقُونَ وَلَسۡتُم بِـَٔاخِذِيهِ إِلَّآ أَن تُغۡمِضُواْ فِيهِۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيد )

[البقرة: 267]،

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:

قال رسول الله ﷺ: «ما تصدَّق أحدٌ بصدقة من طيِّب - ولا يَقبَل اللهُ إلا الطيبَ - إلا أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت تمرةً، فتربو في كفِّ الرحمن حتى تكون أعظمَ من الجبل، كما يُربِّي أحدكم فَلُوَّه أو فَصِيله»

[6]،

وعن ابن عمر رضي الله عنه قال:

سَمعتُ رسول الله ﷺ يقول: «لا تُقبل صلاةٌ بغير طُهُور، ولا صَدقةٌ مِن غُلُولٍ»

[7]

بل المراد أعمُّ من ذلك؛ فإنه سبحانه لا يَقبل من الأعمال إلا الطيِّب الخالص من الرياء والشرك والعُجْب، ولا يَقبل من الأموال إلا الطيِّب الحلال، كذلك في الاعتقاد، فلا يَقبَل الله تعالى شركًا به

 ولا كفرًا، ويَغفِر ما دونَ ذلك، ويدخل ذلك كله في عموم

قوله:

﴿ قُل لَّا يَسۡتَوِي ٱلۡخَبِيثُ وَٱلطَّيِّبُ ﴾

[المائدة: 100][8]

قوله: «وإن الله أمرَ المؤمنين بما أمر به المرسَلين»؛ أي: لا فَرْق بين الرسل وبين الأمم، فكلٌّ مأمورٌ بطلب الحلال واجتناب الحرام[9]. وفيه تعليةٌ لشأن المؤمنين؛ حيث وجَّه لهم ما أمر به المرسَلين، فهم أهلٌ لذلك لإيمانهم ورفعة درجتهم[10]

قوله: «ثم ذكر الرجُل يُطيل السفر» المقصود من هذا الرجُل هو الذي يُطيل السفر في الجهاد والحجِّ وغيرها من أسفار الطاعات؛ إذ الشَّعَث دليلٌ على الإحرام، فإنه لا يَجبُره شعثُه وغبارُه من إثم مَطعمِه ومَشرَبه. وإنما ذكَر ذلك لأن الحاجَّ قد أثَّر به السفر، وأخذ منه الجهد والبلاء، وأصابه الشعثُ، وعلاه الغبارُ، فهو يدعو حينئذٍ وهو ظانٌّ ظنَّ اليقين أنه مُستَجابٌ له؛ فكلُّ ما فيه من التعب والنَّصَب إنما هو لله وفي سبيل الله؛ لكنَّه لا يُستجاب له؛ لأنه متلبِّس بالحرام، وقوته التي رفَع بها يدَه إلى ربه نشأت من الحرام[11]

وقوله: «أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيه إلى السماء، يا ربِّ، يا ربِّ» فيه بيانٌ لبعض أسباب استجابة الدعاء، وإن كانت لم تُجْدِ نفعًا، وهي:

1- إطالة السفر، وإن كان السفر وحدَه يقتضي إجابةَ الدعاء؛ "لأنه مَظِنَّة حصول انكسار النفْس بطول الغُربة عن الأوطان، وتحمُّل المشاقِّ، والانكسار من أعظم أسباب إجابة الدعاء"[12]، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه،

أن النبيَّ ﷺ قال:

«ثلاثُ دَعَوات مُستَجابات لا شكَّ فيهن: دعوة الوالد، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم»

[13]

2- حصول التذَلُّل والتبذُّل في اللباس والهيئة؛ ولذلك كان النبيُّ ﷺ يخرج إلى الاستسقاء مُتبذِّلًا متواضعًا؛ فعن عبد الله بن زيد رضي الله عنه: «أن النبيَّ ﷺ استسقى فقلَبَ رداءَه»[14]، ومدُّ اليدَين إلى السماء؛ فقد روى سلمان الفارسيُّ رضي الله عنه، أن النبيَّ ﷺ قال: «إن ربَّكم تبارَك وتعالى حَيِيٌّ كريمٌ، يَستَحيي من عبده إذا رفَع يدَيْه إليه أن يردَّهما صِفْرًا»[15]

3- الإلحاح على الله، وتكرير ذِكْر ربوبيته، وهو من أعظم ما يُطلَب به إجابةُ الدعاء[16]

4- أكلُ الحلال، في قوله: «ومطعمُه حرامٌ، ومشرَبُه حرامٌ، ومَلبسُه حرامٌ، وغُذِيَ بالحرام، فأنى يُستَجاب لذلك؟!» دليلٌ على أن الأكلَ من الحلال شرطٌ في استجابة الدعاء.

وقوله: «فأنَّى يُستَجاب لذلك» معناه: كيف يُستَجاب له؟! فهو استفهامٌ وقَع على وجه التعجُّب والاستبعاد، وليس صريحًا في استحالة الاستجابة ومَنْعها بالكلية؛ إذ يجوز أن يَستَجيب اللهُ تَفضُّلًا وكرمًا منه سبحانه، ويجوز أن يَستَجيب ليكون ذلك إمْهالًا له، وقَطعًا لحُجَّته أمام الله. فيؤخَذ من هذا أن التوسُّعَ في الحرام، والتغذِّيَ به، من جملة موانع الإجابة[17]

ولهذا قال وَهْب بن مُنبِّه $: "مَن سرَّه أن يَستَجيب الله دعوتَه، فلْيُطِبْ مطعمَه"، وقال يوسف بن أسباط: "بلغنا أن دعاءَ العبد يُحبَس عن السموات بسوء المطعَم"[18]

وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: "كان لأبي بكر غلامٌ يُخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكُل من خراجه، فجاء يومًا بشيء فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلامُ: أتَدْري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنتُ تكهَّنتُ لإنسان في الجاهلية، وما أُحسِن الكِهانة، إلا أني خدَعْتُه، فلَقِيَني فأعْطاني بذلك، فهذا الذي أكلتَ منه، فأدخل أبو بكر يدَه، فقاء كلَّ شيء في بطنه"[19]

المراجع

  1.  انظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (3/ 535)، "الميسر في شرح مصابيح السنة" للتوربشتيِّ (2/ 655).
  2.  "الصلاة وأحكام تاركها" لابن القيم (ص 151).
  3.  رواه الترمذيُّ (3507)، وقال: حديث غريب... ولا نعلم في كبير شيء من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث، وضعَّفه الألبانيُّ في "ضعيف الجامع الصغير" (1945). وأصل الحديث متَّفَق عليه، رواه البخاريُّ (2736)، ومسلم (2677)، وليس فيه ذكر الأسماء.
  4.  انظر: "الفتاوى الكبرى" لابن تيمية (2/ 382).
  5.  انظر: "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهريِّ (3/ 385).
  6.  رواه البخاريُّ (1410)، ومسلم (1014).
  7.  رواه مسلم (224).
  8.  "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 259).
  9.  انظر: "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهري (3/ 385).
  10.  انظر: "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 142).
  11.  انظر: "الإفصاح عن معاني الصحاح" لابن هبيرة (8/ 128)، "الميسر في شرح مصابيح السنة" للتوربشتيِّ (2/ 655).
  12.  "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 269).
  13.  رواه أبو داود (1536)، والترمذيُّ (1905)، وابن ماجه (3862)، وقال الترمذيُّ: حديث حسن، وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح سنن أبي داود" (5/262).
  14.  رواه البخاريُّ (1011)، ومسلم (894).
  15.  رواه أبو داود (1488)، والترمذيُّ (3556)، وابن ماجه (3865)، وقال الترمذيُّ: حسن غريب، وصحَّحه الألباني في "صحيح سنن أبي داود" (5/ 226).
  16.  انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 269).
  17.  انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبي (3/ 60)، "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 275).
  18.  "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 275).
  19.  رواه البخاريُّ (3842).

النقول

قال النوويُّ رحمه الله: "وهذا الحديث أحد الأحاديث الّتي هي قواعد الإسلام، ومباني الأحكام، وقد جمعتُ منها أربعين حديثًا في جزء، وفيه الحثُّ على الإنفاق من الحلال، والنّهي عن الإنفاق من غيره، وفيه أنّ المشروب والمأكول والملبوس ونحو ذلك، ينبغي أن يكون حلالًا خالصًا لا شبهة فيه، وأنّ من أراد الدّعاء كان أولى بالاعتناء بذلك من غيره"[1]

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "وهذا الحديث أحد الأحاديث التي عليها قواعدُ الإسلام، ومباني الأحكام، وفيه الحثُّ على الإنفاق من الحلال، والنهيُ عن الإنفاق من غيره، وأن المأكول والمشروب والملبوس ونحوَها ينبغي أن يكون حلالاً خالصًا لا شُبهةَ فيه، وأن من أراد الدعاء كان أولى بالاعتناء بذلك من غيره، وفيه أن العبد إذا أنفق نفقة طيبة، فهي التي تزكو وتنمو، وأن الطعام اللذيذ غير المباح يكون وَبالاً على آكِله، ولا يَقبَل اللهُ عَمَله"[2]

قال ابن رجب رحمه الله: "وقد قيل: إنّ المراد بقوله: «لا يقبل اللّه إلّا طيّبًا» أعمُّ من ذلك، وهو أنّه لا يَقبَل من الأعمال إلّا ما كان طيِّبًا طاهرًا من المفسدات كلِّها؛ كالرّياء والعُجب، ولا من الأموال إلّا ما كان طيّبًا حلالًا، فإنّ الطّيّب يوصف به الأعمال والأقوال والاعتقادات؛ فكلُّ هذه تنقسم إلى طيّب وخبيث"[3]

قال القاضي عياض رحمه الله: "ومعنى تَسْمِيَة الله بالطيِّب هنا، ولم يأتِ في حديث الأسماء؛ أي: الْمُنزَّه عن النقائص؛ بمعنى القدُّوس، وأصل الطَّيِّب: الزَّكَاء والطهارة والسلامة من الخُبث، والاستطابة: التنظيف من القَذَر، والطهارة منه، وقيل: سُمِّيت المدينة (طابة وطَيْبة)، من الطِّيب، وهو تطهيرها من الشرك، وظهور الإسلام بها، وقيل غيره"[4]

قال ابن القيم رحمه الله: "والأسماء لله وحدَه، فهو طيِّب، وأفعالُه طيبةٌ، وصفاته أطيبُ شيء، وأسماؤه أطيبُ الأسماء، واسمه الطيِّبُ، ولا يَصدُر عنه إلا طيبٌ، ولا يصعَدُ إليه إلا طيبٌ، ولا يَقرُب منه إلا طيِّب، وإليه يصعَدُ الكَلِم الطيبُ، وفِعلُه طيِّب، والعمل الطيِّب يَعرُج إليه؛ فالطيِّبات كلُّها له، ومضافةٌ إليه، وصادرة عنه، ومنتهية إليه"[5]

قال ابن رجب رحمه الله: "فالمؤمن كلُّه طيِّبٌ، قلبُه ولسانُه وجسدُه، بما سكن في قلبه من الإيمان، وظهر على لسانه من الذِّكر، وعلى جوارحه من الأعمال الصالحة، التي هي ثمرة الإيمان، وداخلةٌ في اسمه؛ فهذه الطيباتُ كلُّها يقبلها الله عَزَّ وَجَلَّ. ومن أَعظَم ما يَحصُل به طِيبة الأعمال للمؤمن طِيب مَطعَمه، وأن يكون من حلال، فبذلك يزكو عمله. وفي هذا الحديث إشارة إلى أنّه لا يقبل العمل ولا يزكو إلّا بأكل الحلال، وإنّ أكل الحرام، يُفسد العمل، ويمنع قَبوله"[6]

قال ابن عثيمين رحمه الله: "«إِنَّ اللهَ تَعَالَى طَيِّبٌ»: كلمة (طيب) بمعنى طاهر منزَّه عن النقائص، لا يعتريه الخُبث بأيِّ حال من الأحوال؛ لأن ضدَّ الطيِّب هو الخبيث؛

كما قال الله عزَّ وجلَّ:

( قُل لَّا يَسۡتَوِي ٱلۡخَبِيثُ وَٱلطَّيِّبُ )

[المائدة: 100]،

وقال:

( ٱلۡخَبِيثَٰتُ لِلۡخَبِيثِينَ وَٱلۡخَبِيثُونَ لِلۡخَبِيثَٰتِۖ وَٱلطَّيِّبَٰتُ لِلطَّيِّبِينَ وَٱلطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَٰتِۚ )

[النور: 26]

ومعنى هذا أنه لا يلحقه - جلَّ وعلا - شيءٌ من العَيب والنقص؛ فهو - عزَّ وجلَّ - طيِّب في ذاته، وفي أسمائه، وفي صفاته، وفي أحكامه، وفي أفعاله، وفي كلِّ ما يَصدُر منه، وليس فيها رديءٌ بأيِّ وجه. «لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا»، فهو - سبحانه وتعالى - لا يقبل إلا الطيِّب من الأقوال، والأعمال، وغيرها، وكلُّ رديء فهو مردودٌ عند الله - عزَّ وجلَّ - فلا يقبل الله إلا الطيِّب، ومن ذلك: الصَّدَقة بالمال الخبيث لا يقبلها الله - عزَّ وجلَّ - لأنه لا يقبل إلا طيِّبًا؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح: «مَنْ تَصَدَّقَ بِعِدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ طَيِّبٍ، وَلاَ يَقْبَلُ اللهَ إِلاَّ الطَّيِّبَ، فَإنَّ اللهَ تَعَالَى يَأْخُذُهَا بِيَمِينِهِ، يُرَبِّيها كما يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، حَتَّى تَكُوْنَ مِثْلَ الجَبَلِ»[7]. فالطيِّب من الأعمال: ما كان خالصًا لله، موافقًا للشريعة، والطيب من الأموال: ما اكتُسِب عن طريق حلال، وأما ما اكتُسب عن طريق محرَّم، فإنه خبيث"[8]

قال ابن رجب : "والمراد بهذا أنّ الرّسل وأممهم مأمورون بالأكل من الطّيِّبات الّتي هي الحلال، وبالعمل الصّالح، فما دام الأكلُ حلالًا، فالعمل الصّالح مقبول، فإذا كان الأكل غيرَ حلال، فكيف يكون العمل مقبولًا؟! وما ذكره بعد ذلك من الدّعاء، وأنّه كيف يُتقبَّل مع الحرام، فهو مثال لاستبعاد قبول الأعمال مع التّغذية بالحرام"[9]

قال ابن دقيق العيد : "وقوله: «ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر...» إلى آخره: معناه - والله أعلم -: يُطيل السفر في وجوه الطاعات لحجٍّ وجهاد، وغير ذلك من وجوه البِرِّ، ومع هذا فلا يُستجاب له؛ لكون مَطعَمِه ومَشربِه ومَلبَسِه حرامًا؛ فكيف هو بمن هو مُنهمِكٌ في الدنيا أو في مظالم العباد، أو من الغافلين عن أنواع العبادات والخير؟!"[10]

قال النوويُّ : "قَوْلُهُ: «ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ...» إلى آخره؛ معناه - واللّه أعلم -: أنّه يطيل السّفر في وجوه الطّاعات؛ كحجٍّ وزيارة مستحبَّة، وصلة رحم، وغير ذلك"[11]

قال ابن عثيمين: "«وَإَنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤمِنِينَ بمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِيْنَ»؛ تَعْلَيةً لشأن المؤمنين، وأنهم أهلٌ أن يوجَّه إليهم ما أَمَر به الرسل؛

فقال - عزَّ وجلَّ - في أمر المرسَلين:

﴿يَـٰٓأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَٱعۡمَلُواْ صَٰلِحًاۖ ﴾

[المؤمنون: 51]،

فأمر الرسلَ أن يأكلوا من الطيِّبات، وهي التي أحلَّها الله - عزَّ وجلَّ - واكتُسِبت عن طريق شرعيٍّ، فإن لم يُحِلَّها الله؛ كالخمر، فإنه لا يؤكل، وإن أحلَّه الله؛ ولكن اكتُسِب عن طريق محرَّم، فإنه لا يؤكل، وأضرب لذلك مثَلين: الأول: رجل أَكَلَ من شاة مَيْتَة، فهذا لم يأكل من الطيِّبات؛ لأن الله تعالى حرَّم أكل الْمَيْتَة، وهذا محرَّم لذاته. الثاني: رجل غصب شاةً وذبحها وأكل منها، فحُكمها أنها ليست بطيِّبة، وهي محرَّمة لكسبها.

﴿واعملوا صلحا﴾؛ أي: اعملوا عملاً صالحًا، فأمرهم بالأكل الذي به قِوامُ البَدَن، ثم أمرهم بالعمل الذي يكون نتيجةً للأكل؛ لكنه قال: ﴿واعملوا صلحا﴾، وصالح العمل هو ما جمع بين الإخلاص والمتابعة؛ ولهذا رُوِي عن بعض السلف أنه قال: العمل الصالح ما كان خالصًا صوابًا؛ أي: خالصًا لله، صوابًا على شريعة الله.

وقال تعالى في أمر المؤمنين:

﴿ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ﴾

[البقرة: 172]،

 كما قال للرسل: (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)، فأمر المؤمنين بما أَمَر به المرسَلين.

إذًا؛ نقول: المؤمنون مأمورون بالأكل من الطيِّبات، والمرسَلون كذلك مأمورون بالأكل من الطيبات"[12]

قال ابن دقيق العيد : "وقوله: «يَمُدُّ يَدَيْهِ»؛ أي: يَرفَعُهما بالدعاء لله مع مخالفته وعِصيانه. قوله: «وغُذِيَ بالحرام» هو بضمِّ الغَين المعجَمة، وتخفيف الذال المكسورة. وقوله: «فأنى يستجاب له؟!»، وفي رواية: «فأنى يستجاب لذلك؟!»؛ يعني: من أين يستجاب لمن هذه صِفَتُه؟! فإنه ليس أهلاً للإجابة؛ لكن يجوز أن يستجيب الله تعالى له تفضُّلاً ولُطفًا وكَرَمًا، والله أعلم"[13]

قال النوويُّ : "قَوْلُهُ ﷺ: «وَغُذِيَ بِالْحِرَامِ» هو بضمِّ الغين، وتخفيف الذّال المكسورة، قوله ﷺ: «فأنّى يستجاب لذلك؟!»؛ أي: من أين يُستجاب لمن هذه صفته؟! وكيف يُستجاب له؟!"([14]).

قال ابن عثيمين : "«ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيْلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ...»؛ يعني: ضَرَب النبيُّ ﷺ  مَثَلاً لهذا الرجل: «يُطِيْلُ السَّفَرَ»، والسفر من أسباب إجابة الدعاء، ولاسيَّما إذا أطاله. «أَشْعَث أَغْبَرَ»؛ يعني: أشعث في شعره، أغبر من التراب؛ أي: أنه لا يهتمُّ بنفسه؛ بل أهمُّ شيء عنده الدعاء. «يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاء» ومَدُّ اليدين إلى السماء من أسباب إجابة الدعاء؛ كما جاء في الحديث: «إنَّ اللهَ حَيِيٌّ كَرِيْمٌ، يَسْتَحِيي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفعَ يَديْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا»[15]. «يَا رَبِّ يَا رَبِّ»: نداء بوصف الربوبية؛ لأن ذلك وسيلة لإجابة الدعاء؛ إذ إن إجابة الدعاء من مقتضيات الربوبية. «وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ»؛ يعني: طعامه الذي يأكله حرام؛ أي: حرام لذاته أو لكَسْبِه. «وَمَشرَبُهُ حَرَامٌ»؛ يعني: شُربه الذي يشربه حرام، إما لذاته أو لكسبه. «وغُذِيَ بالحَرَامِ»؛ يعني: أنه تغذَّى بالحرام الحاصل من فعل غيره. «فَأَنَّى» اسم استفهام، والمراد به الاستبعاد، يعني: يَبعُد أن يُستجاب لهذا، مع أن أسباب الإجابة موجودة. وهذا للتحذير من أكل الحرام، وشربه، ولُبسه، والتغذّي به"[16]

قال ابن تيمية : "بل من أَنفَق من الحرام، فإنّ اللّه تعالى يذمُّه، ويستحقُّ بذلك العقاب في الدّنيا والآخرة"[17]

قَالَ وَهْبُ بْنُ الْوَرْدِ: "لو قمتَ مَقامَ هذه السّارية، لم ينفعْكَ شيء حتّى تَنظُر ما يَدخُل بطنَك حلال أو حرام"[18]

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ النِّبَاجِيُّ الزَّاهِدُ : "خمسُ خصال بها تمام العمل: الإيمانُ بمعرفة اللّه عزّ وجلّ، ومعرفةُ الحقِّ، وإخلاص العمل للّه، والعمل على السّنّة، وأكل الحلال، فإن فقدتَ واحدةً، لم يرتفع العمل؛ وذلك أنّك إذا عرفتَ اللّه عزّ وجلّ، ولم تعرف الحقَّ، لم تنتفع، وإذا عرفتَ الحقَّ، ولم تعرف اللّه، لم تنتفع، وإن عرفت اللّه، وعرفت الحقَّ، ولم تُخلص العمل، لم تنتفع، وإن عرفت اللّه، وعرفت الحقَّ، وأخلصت العمل، ولم يكن على السّنَّة، لم تنتفع، وإن تمَّت الأربع، ولم يكن الأكل من حلال، لم تنتفع"[19]

 

المراجع

  1.  "شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 100).
  2.  "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص 41، 42).
  3.  "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 259).
  4.  "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (3/ 535).
  5.  "الصلاة وأحكام تاركها" لابن القيم (ص 151).
  6.  "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 260).
  7.  أخرجه البخاريُّ (1410)، ومسلم (63).
  8.  "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص 141، 142).
  9.  "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 260).
  10.  "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص 41، 42).
  11.  "شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 100).
  12.  "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص 142، 143).
  13.  "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص 41، 42).
  14.  "شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 100).
  15.  رواه أبو داود (1488)، والترمذيُّ (3556)، وابن ماجه (3865)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1635).
  16.  "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص 143، 144).
  17.  "مجموع الفتاوى" (8/ 542).
  18.  "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 263).
  19.  "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 262، 263).

مشاريع الأحاديث الكلية