عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّـهِ ﷺ: «لَـمَّا قَضَى اللهُ الخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ، فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّـهِ ﷺ: «لَـمَّا قَضَى اللهُ الخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ، فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي
لما قدَّر الله عزَّ وجل تقديرَ خلقِ المخلوقات، أي قبل أن يخلق الله الخلق كما بينته رواية أخرى [1]: كتب في اللوح المحفوظ الذي كتب فيه جميع أقدار الخلق [2]، أو كتب في كتابٍ آخرَ عظيم عنده.
وهذا الكتاب محفوظٌ وموجود عند الله تعالى فوق عرشه، وعرشُ الله خلقٌ عظيمٌ لله تعالى، فوق السموات السبع، وتحمله ملائكة عظام لله تعالى، والعرشُ يقصد به سرير المُلْك.
وذلك من أدلة علوِّه سبحانه، وأنه فوق سماواته على عرشه سبحانه
﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾
[طه: 5].
3. كَتَب عزَّ وجلَّ في ذلك الكتاب: «إنَّ رحمتي غلبت غضبي»، ومعنى ذلك أنَّ نصيب خلقه من الرحمة أكثر من نصيبهم من الغضب؛ فهي التي تصيبهم غالباً في مواقفهم المختلفة
﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ﴾
[فاطر: 45]
ولولاها لما استحقَّ الجنَّةَ أحدٌ من الخلق: «لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الجَنَّةَ» قَالُوا: وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " لَا، وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ»[3].
ومن سبق رحمته تعالى أنه يمهل العصاة، ويلهمهم الاستغفار، حتى إذا استغفروا غفر لهم.
اطمأنّ بالله تعالى، فكما كتب في اللوح المحفوظ مقادير الخلق، فقد كتب فيها الرحمة، فلا تحزن على ما فات، ولا تجزع مما يأتي وثِقْ بالله.
الكتاب -الذي فيه المقادير، وفيه بيان رحمة الله تعالى- وضع الله تعالى عنده فوق عرشه؛ تعظيمًا له، فعلى العاقل أن يقدَّر هذا الكتاب قدره، وأن يتعلق تفكيره بهذا الأمر العظيم، لا بالأفكار السفلية .
رحمة الله تعالى سبقت غضبه، فهو يقبل توبة العصاة والمُسرفين على أنفسهم مهما أسرفوا، فلننظر إلى أنفسنا: ألم نمتلئ من ذنوب البصر والسمع، والكلام واليد؟، فتعالوا لنستمع لنداء الله الرحيم
﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾
[الزمر: 53].
تقرِّب إلى رحمة الله تعالى ولو بشبر؛ فقد «كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِنْسَانًا، ثُمَّ خَرَجَ يَسْأَلُ، فَأَتَى رَاهِبًا فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ: هَلْ مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: لَا، فَقَتَلَهُ، فَجَعَلَ يَسْأَلُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: ائْتِ قَرْيَةَ كَذَا وَكَذَا، فَأَدْرَكَهُ المَوْتُ، فَنَاءَ بِصَدْرِهِ نَحْوَهَا، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلاَئِكَةُ العَذَابِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَذِهِ أَنْ تَقَرَّبِي، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَذِهِ أَنْ تَبَاعَدِي، وَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَهُمَا، فَوُجِدَ إِلَى هَذِهِ أَقْرَبَ بِشِبْرٍ، فَغُفِرَ لَهُ» [4].
الله تعالى له كمال الملك والعلم ، وله العرش والكتاب الذي فيه كلُّ شيء، ومع ذلك فله كمال الرحمة، وكثيرٌ من الناس إن حصل له سلطان بالملك أو العلم (أو نحوهما كالأبوة، أو القوة الجسدية، أو الوظيفة العالية، أو الغنى، أو غيرها..) استقوى على من دونه، وعاملهم بالعسف، فانتبه لنفسك.
لا بد أن يكون من الناس إساءةٌ دالة على نقصهم، فالكمال في تدبيرهم يجمع بين الرحمة والغضب، والكمال حقًا في أن تكون الرحمة أسبق وأغلب، فعلى المسلم أن يتخلّق بمثل هذا الحديث، فتغلب رحمتُه غضبه، ولأنه ضعيفٌ فليستعن بالله تعالى أن يلهمه تلك الرحمة.
قال الشاعر:
إن كنتَ ترجو مِن الرحمنِ رحمتَه = فارحمْ ضِعافَ الورَى يا صاحِ محترِمَا
واقصِدْ بذلك وجهَ اللهِ خالقِنا = سبحانَه مِن إلهٍ قد برى النَّسَما
واطلبْ جزا ذاك مِن مولاك رحمتَه = فإنَّما يَرْحَمُ الرحمنُ مَن رحِما