عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّـهِ ﷺ: «لَـمَّا قَضَى اللهُ الخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ، فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّـهِ ﷺ: «لَـمَّا قَضَى اللهُ الخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ، فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي
الفوائد العقدية
6. أهل السنَّة والجماعة يُثبتون صفتَيِ الرحمة والغضب لله عَزَّ وجلَّ بوجه يليق بجلاله وعظمته، لا يكيِّفون ولا يشبِّهون، ولا يؤوِّلون ولا يعطِّلون، والرحمة أوسعُ وأشمل؛ فرحمته تعالى وَسِعت كلَّ شيء.
7. في الحديث دليل على علوِّ الله - عزَّ وجلَّ - على خلقه، وأنه فوق عرشه، بائنٌ من خلقه .
8. في الحديث إثبات صفتَيِ الرحمة والغضب لله - عزَّ وجلَّ - ولا يجوز تأويلهما بإرادة الثواب والعقاب .
9. الغضب صفة له سبحانه وتعالى، لا يَلحَق أثرها بالعباد إلا إذا صَدَر منهم سبب استحقاق الغضب والعقوبة من كفر وعصيان. لذا؛ رحمته تعالى في هذا الوجود سابقةٌ على غضبه سبحانه وتعالى.
10. الرحمة المضافة إلى الله تعالى نوعان: صفة ذاتية، وصفة فعلية. ولا ريب أن الرحمة الذاتية سابقة للغضب في الزمان؛ لأنه سبحانه موصوف بها في الأَزَل، فيصحُّ أن يقال: لم يزل رحيمًا، وأما الغضب فهو صفة فعلية، فهو تابع لمشيئته[1].
11. الأظهر أن الرحمة التي تسبق وتغلب الغضب: هي الرحمة الفعلية التي تكون بمشيئته سبحانه[2].
12. في الحديث إثبات العرش، وأنه خَلْقٌ من خلق الله.
13. أنكرت الأشاعرة والمعتزلة صفة الرّحمة؛ بدعوى أنّها في المخلوق ضعفٌ وخَوَر وتألُّم للمرحوم، وهذا من أقبح الجهل؛ فإنّ الرّحمة إنّما تكون من الأقوياء للضّعفاء، فلا تستلزم ضعفًا ولا خورًا؛ بل قد تكون مع غاية العزّة والقُدرة؛ فالإنسان القويُّ يَرحَم ولده الصّغير وأبويه الكبيرين، ومن هو أضعفُ منه، وأين الضّعف والخور- وهما من أذمِّ الصّفات - من الرّحمة الّتي وصف اللّه نفسه بها، وأثنى على أوليائه المتَّصفين بها، وأمرهم أن يتواصَوا بها؟![3].
14. رحمته سبحانه وَسِعت في الدّنيا المؤمنَ والكافر والبرَّ والفاجر؛ ولكنّها يومَ القيامة تكون خاصَّةً بالمتَّقين
كما قال تعالى:
فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ
[الأعراف: ١٥٦]
وقال تعالى:
كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ
[الأنعام: ٥٤]
أي: أوجبها على نفسه تفضُّلاً وإحسانًا، ولم يوجبها عليه أحد[4].
15. قوله تعالى:رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا يدلُّ على أن كلَّ شيء وَصَله علم الله، وهو واصل لكلِّ شيء، فإنَّ رحمته وصلت إليه؛ لأن الله قرن بينهما في الحكم رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا وهذه هي الرحمة العامَّة التي تشمل جميع المخلوقات، حتى الكفَّارَ؛ لأن الله قَرَن الرحمة هذه مع العلم، فكلُّ ما بلغه علمُ الله - وعلمُ الله بالغٌ لكلِّ شيء - فقد بلغته رحمته، فكما يَعلَم الكافرَ، يَرحَم الكافر أيضًا[5].
16. رحمة الله تعالى للكافر هي رحمة جسدية بَدَنية دنيوية قاصرة غاية القصور بالنسبة لرحمة المؤمن، فالذي يَرزُق الكافر هو الله الذي يَرزُقه بالطعام والشراب واللباس والمسكن والمنكح وغير ذلك[6].
17. رحمة الله للمؤمنين هي رحمة خاصَّة؛ لأنها رحمة إيمانية دينية دنيوية؛ ولهذا تجد المؤمن أحسن حالاً من الكافر، حتى في أمور الدنيا
لأن الله يقول:
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً
[النحل: 97].
والحياة الطيِّبة هذه مفقودة بالنسبة للكفَّار؛ فحياتهم كحياة البهائم، أما المؤمن فإن أصابته سرَّاءُ، شكر، وإن أصابته ضرَّاءُ صبر، فهو في خير في الحالين، وقلبُه منشرِح مطمئنٌّ متَّفِق مع القضاء والقدر، لا جزع عند البلاء، ولا بطر عند النعماء؛ بل هو متوازن مستقيم معتدل[7].
18. الجمع بين قوله تعالى:
رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا
[غافر: 7]
وقوله:
وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمً
ا[الأحزاب: 43].
(ِبالْمُؤْمِنِين) متعلِّق بـ(رحيمًا)، وتقديم المعمول يدلُّ على الحصر، فيكون معنى الآية: وكان بالمؤمنين لا غيرِهم رحيمًا: فالرحمة في الآية الأولى رحمة عامَّة للكافر والمؤمن، وفي الآية الثانية رحمةٌ خاصَّة متَّصِلة برحمة الآخرة، لا ينالها الكفَّار [8].
19.
قال تعالى:
كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ
[الأنعام: ٥٤]
أي: أوجب على نفسه الرحمة، فالله عزَّ وجلَّ لكرمه وفضله وجُوده أَوْجَب على نفسه الرحمة، وجَعَل رحمته سابقةً لغضبه
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ
[فاطر: 45]
لكن حِلمه ورحمته أوجبت أن يبقى الخلق إلى أجل مسمًّى[9].
20. إن الرحمن دالٌّ على الصفة القائمة به سبحانه، والرحيم دالٌّ على تعلُّقها بالمرحوم، فكان الأول للوصف، والثاني للفعل، فالأول دالٌّ أن الرحمة صفته، والثاني دالٌّ على أنه يرحم خلقه برحمته، وإذا أردتَ فَهم هذا، فتأمَّل قوله:
وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا
[الأحزاب: 43]
إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ
[التوبة: 117]
ولم يجئ قطُّ (رحمن بهم)، فعُلم أن الرحمن هو الموصوف بالرحمة، ورحيم هو الراحم برحمته[10].
21. جعلُ صفة الرحمة واسم الرحمة مجازًا كجعلِ صفة الْمُلك والربوبية مجازًا، ولا فرق بينهما في شرع ولا عقل ولا لغة. وإذا أردتَ أن تعرف بُطلان هذا القول، فانظر إلى ما في الوجود من آثار رحمته الخاصَّة والعامَّة[11].
22. إن رحمةَ الله ۵ التي أوجدَها في الدنيا عامَّةٌ تشمل المؤمن وغيره، وهي للمؤمنين خاصَّة يوم القيامة.
23. قَوْله: «فَوق الْعَرْش»، قَالَ بَعضهم: مَعْنَاهُ: دون الْعَرْش؛ استعظامًا أَن يكون شَيْء من الْخلق فَوق الْعَرْش
كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى:
بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَاﱠ
[البقرة: ٢٦]
أَي: فَمَا دونهَا؛ أَي: أَصْغَر مِنْهَا، وَقَالَ بَعضهم: إِن لفظ الفوق زَائِد
كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى:
فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ
[النساء: ١١]
إِذِ الثنتان يرثان الثُّلثَيْنِ. وفي كلٍّ منهما نظر، أما الأول ففيه استعمالُ اللَّفظ في غير مَوْضِعه، وأما الثاني ففيه فساد المعنى؛ لأن معناه يكون حينئذٍ: فهو عنده العرش، وهذا لَا يَصحُّ[1].
24. قَوْله: «أَن رَحْمَتي»: بِفَتْح (أَن) على أَنَّهَا بدل من (كتب)، وبكسرها ابْتِدَاء كَلَامٍ حكايةٍ لمضمون الكتاب.