المعنى الإجماليُّ للحديث:
يروي عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ - رضي اللَّه عنه - عمَّا حصل في ليلة العقبة من مبايعة النُّقباء للنبيِّ ﷺ، وكان هو أحدَ النُّقباء الاثْنَيْ عَشَرَ الّذين تقدَّموا لأخذ البيعة لنُصرة رسول الله ﷺ في تلك الليلة، حين كان الرّسول ﷺ بمكَّةَ قبل هجرته إلى المدينة، قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِي رَهْطٍ، فَقَالَ: «أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلاَ تَسْرِقُوا، وَلاَ تَزْنُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ»: بايَعهم النبيُّ ﷺ وعاهَدهم وعاقَدهم على أن يكونوا على التّوحيد الخالص من الشِّرك، مقابل أن تكون لهم الجنَّة، وعلى ألّا يسرقوا ولا يزنوا؛ فالإسلام يحمي أعراض النّاس وأنسابهم وأموالهم، وبايَعهم على ألّا يقتلوا أولادهم، وكانوا – غالبًا - يقتلونهم بسبب الفقر أو خشيته، أو وَأْدًا للبنات. «وَلاَ تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ»: وبايعهم على ألّا يختلقوا الأكاذيب. «وَلاَ تَعْصُونِي فِي مَعْرُوفٍ»: وبايَعَهم على ألّا يعصوا أمرَه ﷺ في طاعة الله تعالى، والإحسان إلى النّاس. «فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ»؛ أي: فمن ثبت على ما بايَع عليه، فله الأجرُ من الله، وجزاؤه الجنَّةُ. «وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَأُخِذَ بِهِ فِي الدُّنْيَا، فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَطَهُورٌ»: ومن ارتكب معصيةً من المعاصي الّتي تستوجب الحدَّ الشّرعيَّ؛ كالسَّرقة والزِّنا، فأُقِيم عليه الحدُّ في الدُّنيا، فإنّ ذلك محوٌ للذنب، وتطهير للنفس من إثمه، ويُسقط عنه عقوبتها في الآخرة. «وَمَنْ سَتَرَهُ اللَّهُ، فَذَلِكَ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ»: ومن سَتَره الله في الدّنيا، ولم يعاقَب على تلك المعصية، فهو تحت مشيئة الله تعالى، إن شاء غَفَر له هذه المعصية بفضله، فأدخله الجنّة دون عقاب، وإن شاء، عاقَبَه بالعذاب على جنايته في النار، ثم أخرجه منها، وأدخله الجنَّة.
الشرح المفصَّل للحديث:
لقد كانت رسالة النبيِّ ﷺ منذ أن أُرسِل هي الدعوةَ إلى توحيد الله تعالى، ونبذ الشرك به، والدعوة إلى مكارم الأخلاق، ونبذ مساوئها، وقد لاقى العَنَت والْمُحادَّة من كفَّار قُريش، حتى وصلوا إلى فجورهم بتعذيب المؤمنين، وإيذاء النبيِّ ﷺ، ثم أخذ النبيُّ ﷺ في توسيع نطاق الدعوة، فأخذ يُرسل الصحابة لدعوة القبائل والناس خارجَ مكَّةَ، وممَّن آمن به أهلُ يَثْرَبَ (المدينة المنوَّرة)، الذين أَتَوا فرِحين بإيمانهم مستبشرين لمبايعة النبيِّ ﷺ.
وفي هذا الحديث كان عبادةُ بنُ الصّامت - رضي الله عنه - أحدَ النُّقباء الّذين تقدَّموا لأخذ البيعة لنُصرة رسول الله ﷺ ليلةَ العقبة، حين كان الرّسول ﷺ بمكَّةَ قبل هجرته إلى المدينة، وكانوا اثْنَيْ عَشَرَ رجلًا.
والنُّقَباء: جمع (نقيب)، وهو عرِّيف القَوم وناظرُهم، والْمُراد الذين اختارهم الأَوْسُ والخَزْرَج نُقَباءَ عليهم بطلب من النبيِّ ﷺ وأقرَّهم على ذلك ليلةَ العقبة، وهي الليلة التي بايع فيها ﷺ الذين آمنوا من الأَوْسِ والخزرج على النُّصرة، وهي بيعة العقبة الثانية، وكان ذلك عند جمرة العقبة بمِنى.
يروي عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ - رضي اللَّه عنه - عمَّا حصل في ليلة العقبة من مبايعة النُّقباء للنبيِّ ﷺ في تلك الليلة قَالَ:
بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِي رَهْطٍ، فَقَالَ: «أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلاَ تَسْرِقُوا، وَلاَ تَزْنُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ»
المبايعة: هي المعاقَدةُ والمعاهَدة، فبايَعهم النبيُّ ﷺ وعاقدهم على أن يكونوا على التّوحيد الخالص من الشِّرك، وأن يُفْرِدوا الله تعالى بالعبادة، ولا يُشرِكوا به شيئًا، مقابل أن تكون لهم الجنَّة، وبايعهم على ألّا يسرقوا؛ فالإسلام قد جاء بحماية الأموال، ولا يزنوا؛ فالإسلام يحمي أعراض النّاس وأنسابهم، وبايَعهم على ألّا يقتلوا أولادهم، وإنّما خَصَّ الأولادَ لأنّه قتلٌ وقطيعة رحم، وكانوا – غالبًا – يقتلون أولادهم بسبب الفقر أو خشيته، أو وَأْدًا للبنات.
"قوله: «لا تشركوا باللّه شيئًا»؛ أي: وحِّدوه سبحانه وتعالى، وهذا هو أصلُ الإيمان، وأساس الإسلام؛ فلذلك قدَّمه على إخوته. قوله: «شيئًا»: عامٌّ؛ لأنّه نَكِرة في سياق النّهي؛ لأنّه كالنفيِ"[1].
والشِّرْكُ بِاللَّهِ هو اتِّخَاذ إلَهٍ غير الله، وهو أعظم الكبائر على الإطلاق؛ فإن الشرك لظُلمٌ عظيم
{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}
وإن أعظم الموبقات أن تُشرك بالله عزَّ وجلَّ، وهو خَلَقك وأَنعَم عليك في بطن أمِّكَ، وبعد وَضعك وفي حال صِباكَ، أَنعَم الله عليك بنِعَم كثيرة، فتُشرك به
عن عَبْدِاللهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ:
أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ». قُلْتُ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ... [2]
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ:
«اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: «الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ الغَافِلاَتِ»[3].
وقد نفى الله تعالى الإيمانَ عن السارق والزاني وشارب الخمر
«لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ»[4].
"والمراد بِنَفْيِ الإيمان نَفْيُ بُلُوغ حقيقته ونهايته؛ فإن الإيمان كثيرًا ما يُنْفى لانتفاء بعض أركانه وواجباته"[5].
«وَلاَ تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ»
وبايعهم على ألّا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم، والافتراء هو الاختلاق والكذب، ونسب الافتراء إلى اليد والرّجل بسبب أنّ معظم الأفعال تقع بهما، وإن شاركهما سائرُ الأعضاء.
"قوله: «ببهتان»: البُهتان بالضّمِّ: الكَذِب الّذي يَبهَتُ سامعَه؛ أي: يُدهِشه لفظاعته، يقال: بَهَته بُهتانًا إذا كَذَب عليه بما يَبهَته من شدَّة نُكره، وقال الهرويُّ:
{وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ}
أي: لا يأتين بولد عن معارضته فتَنسُبه إلى الزّوج، كان ذلك بهتانًا وفِرْية، ويُقال: كانت المرأة تلتقط الولد فتتبنَّاه. وقال الخطابيُّ: معناه ههنا قَذْفُ المحصَنات، وهو من الكبائر، ويَدخُل فيه الاغتياب لهنّ، ورَمْيهن بالمعصية. وقال أيضًا: لا تبهتوا النّاس بالمعايب كِفاحًا ومواجهة، وهذا كما يقول الرجل: فعلتُ هذا بين يديك؛ أي: بحضرتك. قوله: «تفترونه» من الافتراء، وهو الاختلاق، والفِرْية: الكذب. يقال: فَرى فلان كذا، إذا اختَلَقه، وافتراه: اختلقه، والاسم: الفِرْية، وفلان يَفْري الفِرى، إذا كان يأتي بالعَجَب في عمله
{لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا}
أي: مصنوعًا مختلَقًا، ويقال: عظيمًا"[6].
قوله: «وَلاَ تَعْصُونِي فِي مَعْرُوفٍ»: وبايَعَهم على ألّا يعصوا أمرَه ﷺ في معروف، والعصيان خلاف الطّاعة، والمعروف: اسم جامع لكلّ ما عُرف من طاعة الله تعالى، والإحسان إلى النّاس.
"والعِصْيان خلافُ الطّاعة، قوله: «في معروف»؛ أي: حُسن، وهو ما لم يَنْهَ الشّارع فيه، أو معناه مشهور؛ أي: ما عُرِف فِعْله من الشّارع واشتَهَر منه، ويقال: في معروف؛ أي: في طاعة الله تعالى، ويُقال: في كلِّ برٍّ وتقوى. وقال البيضاويُّ: المعروف ما عُرِف من الشّارع حُسْنه، وقال الزّجَّاج: أي: المأمور به، وفي "النّهاية": هو اسمٌ جامع لكلِّ ما عُرِف من طاعة الله تعالى، والإحسان إلى النّاس، وكلِّ ما نَدَب إليه الشَّرع ونهى عنه من المحسِّنات والمقبِّحات"[7].
قوله: «فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ»؛ أي: فمن ثبت على ما بايَع عليه، فله الأجرُ من الله، وجزاؤه الجنَّةُ. «وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَأُخِذَ بِهِ فِي الدُّنْيَا، فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَطَهُورٌ»؛ أي: ومن ارتكب معصيةً من المعاصي الّتي تستوجب الحدَّ الشّرعيَّ؛ كالسَّرقة والزِّنا، فأُقِيم عليه الحدُّ في الدُّنيا، فإنّ ذلك محوٌ للذنب، وتطهير للنفس من إثمه، ويُسقط عنه عقوبتها في الآخرة.
فـ"إذا تاب السارقُ بعدَ ما قُطِعَ يَدُهُ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، وَكُلُّ محدود كذلك إذا تاب، قُبِلت شهادتُه"[8].
"قوله: «فعوقِب به في الدّنيا» يريد به القَطع في السَّرِقة، والحدَّ في الزّنا، وأما قتلُ الولد، فليس له عقوبة معلومة، إلا أن يُريد قتل النّفس، فكنَّى بالأولاد عنه، وعلى هذا؛ إذا قُتل القاتل، كان كفَّارةً له، وحُكي عن القاضي إسماعيل وغيره: أن قتل القاتل حدٌّ وإرداع لغيره، وأما في الآخرة، فالطَّلَب للمقتول قائمٌ؛ لأنّه لم يَصِل إليه حقٌّ، وقيل: يبقى له حقُّ التشفِّي... وقوله: إن قتل القاتل حدٌّ وإرداع... إلخ، فيه نظر؛ لأنّه لو كان كذلك لم يَجُزِ العفوُ عن القاتل. وقال القاضي عياض: ذهب أكثرُ العلماء إلى أن الحدود كفَّارةٌ؛ لهذا الحديث"[9].
قوله: «وَمَنْ سَتَرَهُ اللَّهُ، فَذَلِكَ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ»: ومن سَتَره الله في الدّنيا، ولم يعاقَب على تلك المعصية، فهو تحت مشيئة الله تعالى، إن شاء غَفَر له هذه المعصية بفضله، فأدخله الجنّة دون عقاب، وإن شاء، عاقَبَه بالعذاب على جنايته في النار، ثم أخرجه منها، وأدخله الجنَّة.
"«ولا تعصوا في معروف»، وهو ما عُرِف من الشارع حُسْنُه نَهْيًا وأمْرًا، «فمن وَفَى» بالتخفيف ويُشدَّد؛ أي: ثَبَت على العهد، «منكم فأجرُه على الله» فضلًا ووعدًا بالجنَّة، «ومن أصاب» منكم أيها المؤمنون «من ذلك شيئًا» غير الشرك، «فأُخِذ به»؛ أي: فعوقب به «في الدنيا» بأن أُقِيم عليه الحُّد، «فهو»؛ أي: العقاب «كفَّارة له»، فلا يُعاقَب عليه في الآخرة، «وطَهور» يطهِّره الله به من دَنَس المعصية، وإذا وُصِف بالتطهير مع التوبة، عاد إلى ما كان عليه قبلُ، فتُقبَل شهادته، «ومن ستره الله فذلك» مفوَّض «إلى الله، إن شاء عذَّبه» بعدله، «وإن شاء غفر له» بفَضْلِه"[10].
هذا وإن الشريعة الإسلامية قد قسَّمت العقوباتِ إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: القِصَاص: وهو معاملةُ الجاني بمثل اعتدائه؛ فإن القصاص معناه المماثَلة، ولا يُسمَّى القصاصُ حدًّا؛ لأنه حقٌّ للعبد، له أن يعفوَ عنه
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَىٰ بِالْأُنْثَىٰ ۚ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ۗ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ۗ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ 178 وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}
القسم الثاني: التَّعْزير: وهو تأديبٌ على ذنب لا حدَّ فيه، ولا كفَّارةَ له.
القسم الثالث: الحدودُ: و"الحدُّ لغةً: الْمَنْع، ومنه سُمِّي البوَّاب حدَّادًا، وسُمِّيت عقوباتُ المعاصي حدودًا؛ لأنها تمنع العاصيَ من العَود إلى تلك المعصية التي حُدَّ لأجلها في الغالب، وأصلُ الحدِّ الشيءُ الحاجز بين الشيئين، ويُقال على ما ميَّز الشيءَ عن غيره، ومنه حدودُ الدار والأرض، ويُطلَق الحدُّ أيضًا على نفس المعصية
{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا}
وتعريف الحدِّ في الشَّرع: هو عقوبةٌ مقدَّرة لأجل حقِّ الله، فيَخرُج التَّعْزِير؛ لعدم تقديره، والقصاصُ؛ لأنه حقٌّ لآدميٍّ"[11].
وقد شرع الله تعالى حدودًا على بعض المعاصي الكبيرة؛ حمايةً للمجتمع، وقطعًا للفساد، كما أن فيها تكفيرًا لذنوب صاحبها، فحدود الشرع موانعُ، وزواجِرُ عن ارتكاب أسبابها، والحدود في الإسلام ثابتة بآيات القرآن الكريم؛ مثل: آية الزنا، وآية السَّرِقة، وآية قذف المحصنات، وآية المحاربة، وثابتة بالسنَّة الصحيحة والمتواترة، وفعل رَسُول اللَّهِ ﷺ؛ مثل حديث ماعز، وحديث الغامدية، وغيرها من الأحاديث الثابتة، وثابتة بفعل الصحابة - رضي اللَّه عنهم - وعليها إجماع الأمَّة. وقد اقتضت حِكمة الشرع تشريع هذه الحدود؛ حسمًا لهذه الكبائر أن تستشريَ، وزجرًا عن ارتكابها؛ حتى يظلَّ العالم على طريق الاستقامة والأمان؛ فإن عدم وجود الزواجر والعقوبات يؤدِّي إلى استشراء الفساد والانحراف، وفيه من الفساد ما لا يخفى، فمتى عَلِم الحاكم بمُجرِم استحقَّ عقوبةَ الحدِّ، فإنه يجب عليه التنفيذ، ولا يَملِك العفوَ عنه.
والجرائمُ الكبرى التي رتَّب عليها الشارع عقوباتٍ محدَّدةً، فتستوجب الحدَّ هي في الجُملة: الزنا، ومثلُه اللواط، والسرقة، والقذف، وشُرب الخمر، والحِرابة، والرِّدَّة. وللفقهاء تفصيلاتٌ كثيرة في كيفية إثبات هذه الجرائم وعقوباتها في كتب الفقه، نذكر نُبْذةً عنها[12].
حدُّ الزنا: وهو ثابت بالقرآن والسنَّة والإجماع، والزّناة تختلف العقوبة باختلاف أصنافهم: بِكر وثَيِّب، وذكور وإناث. والحدود ثلاثة: رجم، وجَلد، وتغريب. فالبكرُ: هو الذي لم يطأ في نكاح صحيح، وقد أجمعوا على أنّ حدَّ البكر في الزِّنا جلد مِائة
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}
واختلفوا في التّغريب مع الجلد؛ فقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تغريب أصلًا، وقال الشّافعيُّ: لا بدَّ من التّغريب مع الجلد لكلِّ زانٍ، ذكرًا كان أو أنثى، حرًّا كان أو عبدًا. وقال مالكٌ: يغرَّب الرَّجل، ولا تغرَّب المرأة. وأمّا الثّيِّب فإنّ المسلمين أجمعوا على أنّ حدَّه الرّجم إلَّا فرقةً من أهل الأهواء؛ فإنّهم رأوا أنّ حدَّ كلِّ زانٍ الجلد، وإنّما صار الجمهور للرّجم؛ لثبوت أحاديث الرّجم، ومنها رجم النبيِّ ﷺ ماعزًا والغامدية، وأحاديثهما في الصحيحين. ويَثبُت الزنا بالإقرار أو بأربعة شهود عدول، يَرَون الإيلاج بالفعل بمعاينة فَرْجِه في فرجها، وأن تكون الشهادةُ بالتصريح، لا بالكِناية.
اللواط: وهو داخلٌ في معنى الزنا، واختلفوا في حد اللائط، والصحيح هو قتلُه بكلِّ حال، مُحصَنًا أم غيرَ محصَن، فاعلًا أو مفعولًا به، بشرط أن يكون مكلَّفًا، وألا يكون مُكرَهًا،
وعلى ذلك إجماع الصحابة، وإن اختلفوا في صفة قتلِه.
حدُّ القذف: وهو الرَّمْيُ بزِنًا أو ِلواط، أو الشَّهادةُ بذلك ولم تكتمِل البيِّنة، وقد اتَّفَقوا على وجهين في القذف الّذي يجب به الحدُّ؛ أحدُهما: أن يرميَ القاذفُ المقذوف بالزّنا، والثّاني: أن ينفيَه عن نسبه إذا كانت أمُّه حرَّةً مسلمةً، وأمّا القاذف فإنّهم اتَّفقوا على أنّ من شروطه وصفين، وهما البلوغ والعقل، وسواء أكان ذكرًا أو أنثى، حرًّا أو عبدًا، مسلمًا أو غير مسلم. وأمّا المقذوف فاتّفقوا على أنّ من شروطه أن يجتمع فيه خمسة أوصاف وهي: البلوغ، والحرّيّة، والعَفاف، والإسلام، وأن يكون معه آلة (عضو) الزِّنا، فإن انخرم من هذه الأوصاف وصف، لم يَجِب الحدُّ. وحدُّه جَلْد القاذف ثمانين جلدة
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}
فإن كان القاذفُ هو الزوجَ، لم يُقَم عليه الحدُّ؛ بل يؤمَر بالْمُلاعَنة مع زوجته، فإن تلاعَنا، فرَّق القاضي بينهما.
السَّرقة: هي أخذ مال الغير مستتِرًا من غير أن يؤتمن عليه، فقد أجمعوا أنّه ليس في الخيانة ولا في الاختلاس قطعٌ إلّا إياسَ بنَ معاويةَ، فإنّه أوجب في الخلسة القطع. وأمّا السّارق الّذي يجب عليه حدُّ السَّرقة فإنّهم اتَّفَقوا على أنّ من شروطه أن يكون مكلَّفًا، وسواء أكان حرًّا أو عبدًا، ذكرًا أو أنثى، مسلمًا أو ذِمِّيًّا، وأمّا المسروق، فإنّ له شرائطَ مختلَفًا فيها، فمن أشهرها اشتراط النِّصاب، وذلك أنّ الجمهور على اشتراطه في وجوب القطع، واختلفوا في قدره اختلافًا كثيرًا، ما بين درهمين، وعشَرةِ دراهمَ من الفضَّة، وربع دينار من الذّهب.
فإذا توفَّرت شروط وجوب الحدِّ على صاحبها، وَجَب قطع يَدِه من مِفْصَل الكفِّ اليُمنى في المرَّة الأولى، وفي الثانية تُقطَع رجلُه من نصف القَدَم، وفي الثالثة قيل: تُقطَع يده الأخرى، وقيل: يُسجَن حتى يتوب
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
شُرب الخمر: اتَّفَقوا على أن موجِب الحدِّ هو شُرب الخَمر دون إكراه، قليلِها وكَثيرِها، واختلفوا في المسكِرات من غيرها إلى فريقين، فقال أحدهما: حُكْمُها حُكم الخمر في تحريمها، وإيجابِ الحدِّ على مَن شَرِبها، قليلًا كان أو كثيرًا، أسكر أو لم يُسكِر. وقال الفريق الثاني: المحرَّم منها هو السُّكْر، وهو الّذي يوجِب الحدَّ. وأمّا الواجب فهو الحدُّ والتَّفْسِيق، إلّا أن تكون التَّوبةُ، والتّفسيقُ في شارب الخمر باتّفاق وإن لم يَبلُغ حدَّ السُّكْرِ، وفيمن بلغ حَدَّ السُّكر فيما سوى الخمر. واختلف الّذين رأوا تحريم قليل الأَنبِذة في وجوب الحدِّ، وأكثرُ هؤلاء على وجوبه، إلّا أنّهم اختلفوا في مقدار الحدِّ الواجب، فقال الجمهور: الحدُّ في ذلك ثمانون جلدةً، وقال الشّافعيُّ، وأبو ثور، وداودُ: الحدُّ في ذلك أربعون جلدةً.
الرِّدَّة عن الإسلام: الْمُرْتدُّ إذا ظُفر به قبل أن يحارِب، فاتَّفَقوا على أنّه يُقتَل الرّجل
«مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ»[13]
واختلفوا في قتل المرأة، وهل تُستتاب قبل أن تُقتَل؟ فقال الجمهور: تُقتَل المرأة؛ حيث اعتمدوا العمومَ الوارد في ذلك، وقال أبو حنيفة: لا تُقتل، وشبَّهها بالكافرة الأصليَّة. وأمّا الاستتابةُ، فإنَّ مالكًا شَرَط في قتل المرتدِّ ذلك. وأمّا إذا حارب المرتدُّ، ثمّ ظُهر عليه، فإنّه يُقتَل بالحِرابة، ولا يُستتاب، كانت حِرابته بدار الإسلام، أو بعد أن لحق بدار الحرب، إلَّا أن يُسلِم. وقد اختُلِف في هذا الباب في حُكم السّاحر، فقال مالكٌ: يُقتَل كُفرًا، وقال قوم: لا يُقتَل، والأصلُ أن لا يُقتَل إلّا مع الكُفر.
الحِرابة: اتَّفَقوا على أنّها إشهار السِّلاح، وقطع الطريق
والأَصلُ فيها قوله تعالى:
{ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ 33 إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ۖ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
والحدُّ كما نصَّت الآية هو القتل، والصَّلب، وقطع الأيدي، وقطع الأرجل من خلاف، والنّفيُ، على ما نصَّ اللّه تعالى في آية الحرابة. واختلفوا في هذه العقوبات، هل هي على التّخيير أو مرتَّبةٌ على قدر جناية المحارِب؟ فقال مالك: إن قَتَل فلا بدَّ من قتله، وليس للإمام تخيير في قَطْعِه ولا في نَفْيِه؛ وإنّما التّخيير في قتله أو صَلْبِه، وأمّا إن أخذ المال، ولم يَقتُل، فلا تخيير في نفيِه؛ وإنّما التّخييرُ في قتله، أو صَلبه، أو قَطعه من خلاف، وأمّا إذا أخاف السّبيلَ فقط، فالإمام عنده مخيَّر في قتله، أو صلبه، أو قطعه، أو نفيه. وذهب الشّافعيُّ، وأبو حنيفةَ، وجماعة من العلماء إلى أنَّ هذه العقوبة هي مرتَّبةٌ على الجنايات المعلومِ من الشّرع ترتيبُها عليه، فلا يُقتَل من المحاربين إلّا من قَتَل، ولا يُقطَع إلّا من أخذ المال، ولا يُنفى إلّا من لم يأخذ المال ولا قَتَل. وقال قوم: بل الإمام مخيَّر فيهم على الإطلاق، وسواءٌ قَتَل أم لم يقتل، أخذ المال أو لم يأخذه.
القتل: ويُدخِله الفقهاء فيما يُسمَّى بالجنايات، وليس من باب الحدود، وهو ثلاثة أنواع: عَمْدٌ، وشِبْهُ عَمْدٍ، وخطأ، فالعمدُ عقوبتُه القِصَاص بالقتل، أو الدِّيَة، وهي مِائةٌ من الإبل، أو يعفو أولياءُ الدَّمِ. وشِبْهُ العَمد: وهو أن يَقصِد القاتل إنسانًا بجناية لا تَقتُل غالبًا؛ كمن ضَرَب غيرَه بسَوط أو لَكَمَه، فمات، وعقوبتُه الكفَّارة على الجاني (وهي تحرير رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين)، والدِّيَةُ على عاقِلَته؛ أي: أهلِه من جِهَة أبيه. والقتلُ الخَطَأ: مثلُ أن يرميَ صَيْدًا بسلاح فيُصيب إنسانًا لا يَقصِد قَتْلَه فيَقتُله، وفيه الكفَّارة على الجاني، والدِّية على عاقلته
{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً ۚ وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا ۚ فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ۖ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ۖ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}
المراجع
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيّ (1/ 154).
- رواه البخاريُّ (4477)، ومسلم (86).
- رواه البخاريُّ (6857)، ومسلم (89).
- رواه البخاريُّ (2475)، ومسلم (100).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 302).
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيّ (1/ 154، 155).
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيّ (1/ 155).
- صحيح البخاريِّ (8/ 162) حديث رقم (6801).
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيّ (1/ 157).
- "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للقسطلانيِّ (9/ 463).
- "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (7/ 146).
- انظر: "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" لابن رشد الحفيد (4/ 177 - 242)، "الفقه على المذاهب الأربعة" للجزيريِّ (5/ 55 - 138)، وغيرهما من كتب الفقه.
- رواه البخاريُّ (3017).
النقول:
قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "قوله: «لا تشركوا باللّه شيئًا»؛ أي: وحِّدوه سبحانه وتعالى، وهذا هو أصلُ الإيمان، وأساس الإسلام؛ فلذلك قدَّمه على إخوته. قوله: «شيئًا»: عامٌّ؛ لأنّه نَكِرة في سياق النّهي؛ لأنّه كالنفيِ، قوله: «ببهتان»: البُهتان بالضّمِّ: الكَذِب الّذي يَبهَتُ سامعَه؛ أي: يُدهِشه لفظاعته، يقال: بَهَته بُهتانًا إذا كَذَب عليه بما يَبهَته من شدَّة نُكره، وزعم البنانيُّ أن أبا زيد قال: بَهَته يَبهَته بُهتانًا: رَماه في وَجهِه، أو مِن ورائه بما لم يكن، والبَهَّاتُ الّذي يَعِيب النّاس بما لم يفعلوا، وقال يعقوب والكسائيُّ: هو الكذب. وقال صاحب "العين": البَهْتُ استقبالُك بأمرٍ تَقذِفه به وهو منه بَريء لا يعلمه، والاسم: البُهتان. والبَهْت أيضًا: الحَيرة، وقال الزَّجَّاج وقُطْرُب: بُهِت الرجل انقطع وتحيَّر، وبهذا المعنى بَهِتَ وبَهُتَ. قال: والبُهتان الكذب الّذي يتحيَّر من عظَّمه وشأنه، وقد بَهَته إذا كذب عليه؛ زاد قُطرب: بهاتة وبهتًا، وفي "المحكم": باهتَه استقبله بأمر يقذفه به وهو منه بريء لا يَعلَمه، والبهيتة: الباطل الّذي يتحيَّر من بُطلانه، والبَهوت: المباهِت، والجمع: بُهْت وبُهُوت، وعندي أن بُهوتًا جمع باهت، لا جمع بهوت، وقال الهرويّ:
{وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ}
أي: لا يأتين بولد عن معارضته فتَنسُبه إلى الزّوج، كان ذلك بهتانًا وفِرْية، ويُقال: كانت المرأة تلتقط الولد فتتبنَّاه. وقال الخطابيُّ: معناه ههنا قَذْفُ المحصَنات، وهو من الكبائر، ويَدخُل فيه الاغتياب لهنّ، ورَمْيهن بالمعصية. وقال أيضًا: لا تبهتوا النّاس بالمعايب كِفاحًا ومواجهة، وهذا كما يقول الرجل: فعلتُ هذا بين يديك؛ أي: بحضرتك. قوله: «تفترونه» من الافتراء، وهو الاختلاق، والفِرْية: الكذب. يقال: فَرى فلان كذا، إذا اختَلَقه، وافتراه: اختلقه، والاسم: الفِرْية، وفلان يَفْري الفِرى، إذا كان يأتي بالعَجَب في عمله
{لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا}
أي: مصنوعًا مختلَقًا، ويقال: عظيمًا. قوله: «ولا تعصوا»، وفي باب وفود الأنصار: ولا تعصوني، والعِصْيان خلاف الطّاعة، قوله: «في معروف»؛ أي: حسن، وهو ما لم يَنْهَ الشّارع فيه، أو معناه مشهور؛ أي: ما عُرِف فِعْله من الشّارع واشتَهَر منه، ويقال: في معروف؛ أي: في طاعة الله تعالى، ويُقال: في كلِّ برٍّ وتقوى. وقال البيضاويُّ: المعروف ما عُرِف من الشّارع حُسْنه، وقال الزّجاج: أي: المأمور به، وفي "النّهاية": هو اسمٌ جامع لكلِّ ما عُرِف من طاعة الله تعالى، والإحسان إلى النّاس، وكلِّ ما نَدَب إليه الشَّرع ونهى عنه من المحسِّنات والمقبِّحات. قوله: «فمن وفى منكم»؛ أي: ثبت على ما بايَع عليه، يُقال بتخفيف الفاء وتشديدها، يُقال: وَفَى بالعهد، وأَوْفى، ووفَّى، ثلاثيٌّ ورباعيٌّ، ووفَى بالشّيء ثلاثيٌّ، ووَفَت ذِمَّتك أيضًا وأوفى الشَّيء ووفى، وأوفى الكَيل ووفاه، ولا يُقال فيهما وفى. قوله: «ومن أصاب من ذلك شيئًا»: (من) هي التبعيضية، و(شيئًا): عامٌّ؛ لأنّه نَكِرة في سياق الشَّرط، وصرَّح ابن الحاجب بأنَّه كالنَّفْيِ في إفادة العموم كنَكِرة وقعت في سِيَاقه. قوله: «كفّارة» الكفَّارة: الفِعلة الّتي من شأنها أن تكفِّر الخطيئة؛ أي: تَستُرها، يقال: كَفَرت الشّيء أَكفِر، بالكسر، كُفْرًا؛ أي: سَترتُه، ورماد مكفور إذا سَفَتِ الرّيح التّرابَ عليه حتّى غطَّته، ومنه الكافرُ؛ لأنّه ستر الإيمان وغطَّاه. قوله: «على أن» كلمة (أن) مصدريّة؛ أي: على ترك الإشراك باللّه شيئًا، قوله: «ولا تَسرِقوا» وما بعدَه كلُّها عطفٌ على «لا تشركوا». قوله: «تفترونه»: جملة في محلِّ الجرِّ على أنّها صفةٌ لـ(بُهتان). قوله: «ولا تعصوا» أيضًا عطفٌ على المنفيِّ فيما قبلَه، قوله: «فمن وفى» كلمة (من) شرطيّة مبتدأ، و(وفى) جملة صلتها، قوله: «فأجره» مبتدأ ثانٍ، وقوله: «على الله» خبره، والجملة خبر المبتدأ الأول، ودخلت الفاء لتضمُّن المبتدأ الشّرط، قوله: «ومن»: مبتدأ، موصولة تتضمَّن معنى الشَّرط، و«أصاب»: جملة صلتها، «شيئًا» مفعوله. قوله: «فعوقب»: على صيغة المجهول، عطفٌ على قوله (أصاب)، قوله: «فهو» مبتدأ ثان، وقوله: «كفّارة» خبره، والجملة خبر المبتدأ الأول، والفاء لأجل الشّرط، قوله: «ومن أصاب...» إلخ، إعرابه مثل إعراب ما قبله. فإن قلتَ: فلِمَ قال في قوله: «فعوقب»، بالفاء، وفي قوله: «ثمّ ستره الله»، بـ(ثم)؟ قلتُ: الفاء ههنا للتعقيب، ثمّ التعقيب في كلِّ شيء بحسَبِه، فيجوز ههنا أن يكون بين الإصابة والعقاب مدَّة طويلة أو قصيرة، وذلك بحسب الوقوع، ويجوز أن تكون الفاء للسّببيّة، وأما (ثمّ)، فإن وضعها للتراخي، وقد يتخلَّف، وههنا (ثمّ) ليست على بابها؛ لأن السّتر عند إرادة الله تعالى تكون عَقِيب الإصابة ولا يتراخى. فافهم.
«ولا تسرقوا» فيه حذف المفعول ليدلَّ على العموم، قوله: «فعوقب» فيه حذف أيضًا تقديرُه: فعوقب به، وهكذا هو في رواية أحمد. قوله: «فهو»؛ أي: العقاب. «كفّارة» فيه حذف أيضًا، تقديرُه: كفَّارة له، وهكذا في رواية أحمدَ. وكذا في رواية للبخاريِّ في باب المشيئة من كتاب التّوحيد، وزاد أيضًا: «وطَهور». قال النّوويُّ: عموم هذا الحديث مخصوص
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}
فالمرتَدُّ إذا قُتِل على الرِّدَّة لا يكون القتلُ له كفَّارة. قلتُ: أو يكون مخصوصًا بالإجماع. أو لفظ ذلك إشارة إلى غير الشّرك بقرينة السَّتر، فإنّه يستقيم في الأفعال الّتي يمكِن إظهارها وإخفاؤها. وأما الشّركُ - أي: الكفر - فهو من الأمور الباطنة، فإنّه ضدُّ الإيمان، وهو التّصديق القلبيُّ على الأصحِّ. وقال الطِّيبيُّ: قالوا: المراد منه المؤمنون خاصَّةً؛ لأنّه معطوف على قوله: «فمن وفى»، وهو خاصٌّ بهم؛ لقوله: «منكم»، تقديره: ومن أصاب منكم أيُّها المؤمنون من ذلك شيئًا، فعوقب في الدُّنيا؛ أي: أُقِيم الحدُّ عليه، لم يكن له عقوبة لأجل ذلك القيام، وهو ضعيفٌ؛ لأن الفاء في (فمن) لترتُّب ما بعدها على ما قبلها، والضّمير في (منكم) للعصابة المعهودة، فكيف يخصّص الشّرك بالغَير؟ فالصّحيحُ أن المراد بالشرك الرّياءُ؛ لأنّه الشّرك الخفيُّ
{وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}
ويدلُّ عليه تنكير (شيئًا)؛ أي: شِرْكًا أيًّا ما كان، وفيه نظر؛ لأن عُرف الشّارع يقتضي أن لفظة (الشّرك) عند الإطلاق تُحمَل على مقابل التَّوحيد، سيَّما في أوائل البَعثة، وكثرة عَبَدة الأصنام، وأيضًا عَقِيب الإصابة بالعقوبة في الدُّنيا، والرياءُ لا عقوبة فيه، فتبيَّن أن المراد الشّرك، وأنه مخصوص.
وقال الشّيخ الفقيه عبد الواحد السفاقسيُّ في شرحه للبخاريِّ في قوله: «فعوقِب به في الدّنيا» يريد به القَطع في السَّرِقة، والحدَّ في الزّنا، وأما قتلُ الولد، فليس له عقوبة معلومة، إلاّ أن يُريد قتل النّفس، فكنَّى بالأولاد عنه، وعلى هذا؛ إذا قُتل القاتل، كان كفَّارةً له، وحُكي عن القاضي إسماعيل وغيره: أن قتل القاتل حدٌّ وإرداع لغيره، وأما في الآخرة، فالطَّلَب للمقتول قائمٌ؛ لأنّه لم يَصِل إليه حقٌّ، وقيل: يبقى له حقُّ التشفِّي... وقوله: إن قتل القاتل حدٌّ وإرداع... إلخ، فيه نظر؛ لأنّه لو كان كذلك لم يَجُزِ العفوُ عن القاتل. وقال القاضي عياض: ذهب أكثرُ العلماء إلى أن الحدود كفَّارةٌ؛ لهذا الحديث"[1].
قال القسطلانيُّ رحمه الله: "«أبايعكم على أن لا تشركوا بالله شيئًا ولا تسرقوا» حذَفَ المفعول ليعمَّ، «ولا تقتلوا أولادكم»؛ يُريد وَأْدَ البنات، ولأبي ذرٍّ: «ولا تسرقوا، ولا تَزْنُوا، ولا تقتلوا أولادكم»، «ولا تأتوا ببُهتان»: بكَذِب يَبهَت سامعه؛ أي: يُدهِشه لفظاعته؛ كالرَّمي بالزنا، «تفترونه بين أيديكم وأرجلكم»؛ أي: من قِبَل أنفسكم، فكنَّى باليَدِ والرِّجل عن الذَّات؛ لأن معظم الأفعال بهما، «ولا تعصوني»، ولأبي ذرٍّ: «ولا تعصوا»، «في معروف»، وهو ما عُرِف من الشارع حُسْنُه نَهْيًا وأمْرًا، «فمن وَفَى» بالتخفيف ويشدَّد؛ أي: ثَبَت على العهد، «منكم فأجرُه على الله» فضلًا ووعدًا بالجنَّة، «ومن أصاب» منكم أيها المؤمنون «من ذلك شيئًا» غير الشرك، «فأُخِذ به»؛ أي: فعوقب به «في الدنيا» بأن أُقِيم عليه الحُّد، «فهو»؛ أي: العقاب «كفَّارة له»، فلا يُعاقَب عليه في الآخرة، «وطَهور» يطهِّره الله به من دَنَس المعصية، وإذا وُصِف بالتطهير مع التوبة، عاد إلى ما كان عليه قبلُ، فتُقبَل شهادته، «ومن ستره الله فذلك» مفوَّض «إلى الله، إن شاء عذَّبه» بعدله، «وإن شاء غفر له» بفَضْلِه"[2].
قال ابن رجب رحمه الله: "(النُّقَباء): جمع (نقيب)، وهو عرِّيف القَوم وناظرُهم، والْمُراد الذين اختارهم الأَوْسُ والخَزْرَج نُقَباءَ عليهم بطلب من النبيِّ ﷺ وأقرَّهم على ذلك (ليلةَ العقبة) الليلة التي بايع فيها ﷺ الذين آمنوا من الأَوْسِ والخزرج على النُّصرة، وهي بيعة العقبة الثانية، وكان ذلك عند جمرة العقبة بمِنى، والعقبة من الشيء: الْمَوضِع المرتفع منه. (عصابة): الجماعة من الناس، وهم ما بين العشَرة إلى الأربعين. «بايعوني»: عاهِدوني، «بهتان»: كَذِب فَظِيع يُدهِش سامعَه، «تفترونه» تختلقونه، «بين أيديكم وأرجلكم» من عند أنفسكم، «ولا تعصوا في معروف»: لا تخالفوا في أمر لم يَنْهَ عنه الشرع، «وَفَى»: ثَبَت على العهد، «أصاب من ذلك شيئًا»: وَقَع في مخالفة مما ذُكِر، «فعوقب»: نفِّذت عليه عقوبته من حدٍّ أو غيره، «ستره الله»: لم يَصِل أمره إلى القضاء"[3].
قال ابن عثيمين رحمه الله: "«الشرك بالله»، وهذا أعظم الموبقات أن تُشرك بالله عزَّ وجلَّ، وهو خَلَقك وأَنعَم عليك في بطن أمِّكَ، وبعد وَضعك وفي حال صِباكَ، أَنعَم الله عليك بنِعَم كثيرة، فتُشرك به"[4].
قال البخاريُّ رحمه الله: "إذا تاب السارقُ بعدَ ما قُطِعَ يَدُهُ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، وَكُلُّ مَحْدُودٍ كذلك إذا تاب، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ"[5].
قال ابن رجب رحمه الله: "وأن المراد بنَفي الإيمان نفيُ بُلوغ حقيقته ونهايته؛ فإن الإيمان كثيرًا ما يُنفى لانتفاء بعض أركانه وواجباته
«لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ»[6]"[7]
قال الشوكانيُّ رحمه الله: "الحدُّ لغةً: الْمَنْع، ومنه سُمِّي البوَّاب حدَّادًا، وسُمِّيت عقوباتُ المعاصي حدودًا؛ لأنها تمنع العاصيَ من العَود إلى تلك المعصية التي حُدَّ لأجلها في الغالب، وأصلُ الحدِّ الشيءُ الحاجز بين الشيئين، ويُقال على ما ميَّز الشيءَ عن غيره، ومنه حدودُ الدار والأرض، ويُطلَق الحدُّ أيضًا على نفس المعصية، ومنه
{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا}
وفي الشَّرع: عقوبةٌ مقدَّرة لأجل حقِّ الله، فيَخرُج التَّعْزِير؛ لعدم تقديره، والقصاصُ؛ لأنه حقٌّ لآدميٍّ"[8].
قال الجزيريُّ رحمه الله: "إن الشريعة الإسلامية قسَّمت العقوباتِ إلى ثلاثة أقسام؛ القسم الأول: الحدودُ: وقد عرَّف الفقهاء الحدَّ، بأنه عقوبة مقدَّرة حقًّا للًّه تعالى. فمتى عَلِم الحاكم بمُجرِم استحقَّ عقوبةَ الحدِّ، فإنه يجب عليه التنفيذ، ولا يَملِك العفوَ عنه. والجرائم التي تستوجب الحدَّ هي: أولًا: الزنا. ومثلُه اللواط. ثانيًا: السرقة. ثالثًا: القذف. رابعًا: شُرب الخمر.
أما حدُّ الذين يَسعَون في الأرض فسادًا، فلا يَخرُج عن حدِّ السَّرِقة، أو القِصاص، أو التَّعْزير.
القسم الثاني: القصاص: وهو معاملةُ الجاني بمثل اعتدائه؛ فإن القصاص معناه المماثلة، ومنه قصَّ الحديث، إذا أتى به على وجهه، ولا يسمَّى القصاص حدًّا؛ لأنه حقٌّ للعبد، له أن يعفوَ عنه.
القسم الثالث: التَّعْزير: وهو تأديبٌ على ذنب لا حدَّ فيه، ولا كفَّارةَ له"[9].
المراجع
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيّ (1/ 154 - 157).
- "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للقسطلانيِّ (9/ 462، 463).
- "فتح الباري" لابن رجب (1/ 67).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (6/ 309-311).
- صحيح البخاريِّ (8/ 162) حديث رقم (6801).
- رواه البخاريُّ (2475)، ومسلم (100).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 302).
- "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (7/ 146).
- "الفقه على المذاهب الأربعة" للجزيريِّ (5/ 12، 13).