69 - الجمعُ بين الإيمانِ وطلبِ الرِّزق

عنْ عمرَ رضي الله عنه، عنْ النّبيِّ ﷺ قال: «لو أنَّكُمْ تَوَكَّلُونَ على اللهِ حقَّ توكُّلِه، لرُزِقْتُمْ كما تُرْزَقُ الطَّيْرُ، تَغْدو خِماصًا، وتَرُوحُ بِطانًا»

عناصر الشرح

غريب الحديث:

تغدو: تذهب أوَّلَ النهار.

خِماصًا: ضامرةَ البطون من الجوع.

تَرُوح: تعود آخِرَ النهار.

بِطانًا: ممتلئة البطون بالطعام

المعنى الإجماليُّ للحديث:

يروي عمرُ رضي الله عنه، عنْ النّبيِّ ﷺ أنه قال: «لو أنَّكُمْ تَوَكَّلُونَ على اللّهِ حقَّ توكُّلِه»؛ أي: لو أنكم تتوكَّلون على الله بتسليم الأمر لله تعالى، وتَمام الثقة فيه، مع الأخذ بالأسباب. «لرُزِقْتُمْ كما تُرْزق الطَّيْرُ، تَغْدو خِماصًا، وتَرُوحُ بِطانًا»؛ أي: لرزقكم الله تعالى كما يرزق الطير، تذهب أوَّلَ النهار ضامِرَةَ البُطون من الجوع، وتعود آخِرَ النهار ممتلئةَ البطون بالطعام.

الشرح المفصَّل للحديث:

 العباداتُ في الإسلام تَنقسِم إلى عبادات قَلْبية، وعباداتٍ بَدَنية كالصلاة والصوم، وعبادات ماليَّة كالزكاة، وعبادات ماليَّة وبَدَنية كالحَجِّ، وأصعبُ هذه العبادات هي العباداتُ القَلْبية، ومنها: التوحيدُ، والإخلاصُ، والخوف، والرجاء، والتوكُّل، والتوبة، والإنابة، والرضا، والصبر، وغيرها، وتأتي صعوبتها من مقاومة النفس والهوى والشيطان، فعبادةٌ مثلُ الإخلاص تُشعِرُك بكَمِّ المعاناة التي تعانيها من أجل أن تجعل نِيَّتَكَ في عملٍ خالصةً لوجه الله، وليس فيها دَخَلٌ من رياءٍ وسُمعةٍ وجَاهٍ وحبِّ ظهورٍ، وغيرها من الآفات التي تُبطل الإخلاص، وتَذهَب بأجر العمل.

 والتوكُّل من هذه العبادات القَلْبيَّة الصعبة التي تحتاج إلى مِرانٍ وتدريب، وهي مُهمَّة جدًّا في حياة المؤمن. لذا؛ حثَّنا النبيُّ عليها فقال: «لَوْ أَنَّكم تَوَكَّلون»: و"لو" أداة شرط غير جازمة، تُفيد الامتناع؛ مما يعني أن التوكُّلَ الحقَّ يَصعُب على البشر الوصولُ إليه، ولا يعني هذا اليأسَ؛ ولكن يعني المحاولة مِرارًا وتَكرارًا حتى نصل إلى أبعد ما يمكِن الوصولُ إليه من التوكُّل، فالصعبُ علينا ليس التوكُّلَ ذاتَه؛ ولكن الوصول إلى حقيقته.

قوله : «حقَّ توكُّله»؛ أي: تمام التوكُّل، ولو وَصَلْنا لهذه الحالة، لصار رزقنا كرزق الطير، تَبِيت ليلَها لا تدري شيئًا عن رزق الغد، أتجدُ أم لا تَجِد، وتعود مساءً وبَطْنُها مليئةٌ بفضل الله.

فضل التوكُّل [1]

    أَمَرنا الله تعالى بهذه العبادة في غير موضع من القرآن الكريم، منها قولُه تعالى عن سلطان الشيطان على العباد:

﴿لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ 

[النحل: 9]،

فالمتوكِّلون على الله ليس للشيطان عليهم سبيلٌ،

وقال تعالى:

﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ﴾

[الطلاق: 3]،

فاللهُ تعالى يكفي من يتوكَّل عليه،

وقال تعالى:

﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا َيَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا﴾

[الفرقان: 58]،

وقال تعالى:

﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ 

[آل عمران: 122]،

وقال تعالى:

﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّليِنَ﴾

[آل عمران: 159]،

فهي عبادة يحبُّها الله تعالى. قال سعيدُ بنُ جُبيرٍ: "التَّوكُّل على اللَّه جِمَاع الإيمان".

وقيل: "أربعٌ لا يُعطِيهنَّ اللّهُ إلَّا من أحبَّ: الصَّمْتُ، وهو أوَّل العبادة، والتّوكُّل على اللّه، والتَّواضُع، والزُّهد في الدّنيا". 

وقال لقمانُ لابنه: "يا بُنيَّ، الدُّنيا بحرٌ غَرِق فيه أناسٌ كثيرٌ، فإن استطعتَ أن تكون سفينتُكَ فيها الإيمانَ باللّه، وحشوُها العملَ بطاعة اللّه عزَّ وجلَّ، وشراعُها التّوكُّلَ على اللّه؛ لعلَّكَ تنجو". 

والْتَقى عبدُ اللّه بنُ سلامٍ وسَلْمانُ، فقال أحدهما لصاحبه: إن متَّ قَبلي فالْقَنِي، فأخبرْني ما لَقِيتَ من ربِّك، وإن متُّ قبلَك لَقِيتُكَ، فأخبرتُك. فقال أحدهما للآخَر: أوَتلقى الأمواتُ الأحياء؟ قال: نعم، أرواحُهم تذهب في الجنَّة حيث شاءت. قال: فمات فلانٌ، فلَقِيه في الْمَنام، فقال: "توكَّل وأَبْشِرْ، فلم أرَ مثلَ التّوكُّل قطُّ، توكَّلْ وأبشرْ، فلم أرَ مثلَ التّوكُّل قطُّ".

 وعن خُليدٍ قال: "ما من عبدٍ ألجأته حاجةٌ، فأخذ بأمانته توكُّلًا على ربِّه، ثمّ أنفقه على أهله في غير إسرافٍ، فأدركه الموت ولم يَقضِه، إلَّا قال اللّه تبارك وتعالى لملائكته: عبدي هذا ألجأته حاجةٌ، فأخذ بأمانته توكُّلًا عليَّ، وثِقةً بي، فأنفقه على أهله في غير سَرفٍ، أُشهِدُكم أنّي قد قضيتُ عنه دَيْنَه، وأَرْضَيْتُ هذا من حقِّه ". 

وسُئل الحسنُ عن التّوكُّل، فقال: "الرّضا عن اللّهِ". 

التوكُّل والتواكل:

   ليس معنى التوكُّل القعودَ عن الأخذ بالأسباب؛ فقد لَبِس الرسولُ ﷺ دِرْعَين في إحدى مَعَاركه، وحَفَر الخندق في الأحزاب، ودبَّر خُطَّة مُحكَمة في الهجرة، وهو خيرُ من يتوكَّل على الله تعالى من البَشَر.

وعن عمرَ بنِ الخطَّاب، أنه لَقِي ناسًا من أهل اليمن، فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكِّلون.  قال: بل أنتم المتَّكِلون؛ إنّما المتوكِّل الَّذي يُلقي حبَّه في الأرض، ويتوكَّل على اللّه" [2]. 

 فـ"ليس في هذا الحديث دلالةٌ على القعود عن الكسب؛ بل فيه ما يدلُّ على طلب الرزق؛ لأن الطَّيْرَ إذا غَدَت، فإنها تغدو لطلب الرزق، وإنما أراد - واللهُ أعلمُ -: لو توكَّلوا على الله تعالى في ذَهابهم ومجيئهم وتصرُّفهم، ورَأَوا أن الخير بيده ومن عندِه، لم ينصرفوا إلَّا سالمين غانمين؛ كالطير تغدو خِماصًا وتعود بِطانًا؛ لكنهم يعتمدون على قوَّتهم وجَلَدهم، ويغشُّون ويَكذِبون ولا يَنصَحون، وهذا خلافُ التوكُّل" [3].

أدعية في التوكُّل:

وقد أُثِر عن النبيِّ ﷺ عدَّة أدعية تُعين على تحقيق التوكُّل، منها: ما رواه ابن عباس، أنّ رسول اللّه ﷺ كان يقول:

«اللّهمَّ لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكَّلت، وإليك أَنَبت، وبك خاصمت، أعوذ بعِزَّتك، لا إله إلَّا أنت الحيُّ الّذي لا يموت، والجنُّ والإنس يموتون»

[4]. 

وقال رسول اللّه ﷺ:

« مَنْ قَالَ – يَعْنِي: إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ -: بِسْمِ اللهِ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ، لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، يُقَالُ لَهُ: كُفِيتَ، وَوُقِيتَ، وَتَنَحَّى عَنْهُ الشَّيْطَانُ»

[5]. 

وكان من دعاء النّبيِّ ﷺ: «اللّهمَّ إنّي أسألك التَّوفيق لمحابِّك من الأعمال، وصدق التّوكُّل عليك، وحُسن الظّنِّ بك» [6].


المراجع

    1. انظر: "التوكل" لابن أبي الدنيا (ص47-54).

    2.  رواه البخاريُّ (1523).

    3.  "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" لابن علان الصديقي (1/197-198).

    4. رواه البخاريُّ (7385).

    5. رواه الترمذيُّ (3426)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1605).

    6. الجامع الصغير للسيوطي (1517).



    النقول

    قال ابن رجب رحمه الله: "وهذا الحديث أصل في التّوكُّل، وأنّه من أعظم الأسباب الّتي يُستجلب بها الرّزق. قال بعض السّلف: بحسبك من التّوسُّل إليه أن يعلم من قلبك حُسن توكّلك عليه، فكم من عبد من عباده قد فوّض إليه أمره، فكفاه منه ما أَهمّه!... وحقيقة التّوكّل: هو صدق اعتماد القلب على اللّه عزّ وجلّ في استجلاب المصالح، ودفع المضارِّ من أمور الدّنيا والآخرة كلّها، وكِلَة الأمور كلّها إليه، وتحقيق الإيمان بأنّه لا يعطي ولا يمنع ولا يضرُّ ولا ينفع سواه. قال سعيد بن جبير: التّوكُّل جِمَاع الإيمان. وقال وهب بن منبِّه: الغاية القصوى التّوكُّل. قال الحسن: إنّ توكّل العبد على ربّه أن يعلم أنّ اللّه هو ثِقَتُه" [1].

    قال محمد صديق خان رحمه الله: "والمعنى أنها تذهب أوَّلَ النهار جِياعًا ضامرةَ البطون، وتَرُوح آخِرَ النهار إلى أوكارها شباعًا ممتلئة البطون، ولا تدَّخِر شيئًا" [2].

    قال ابن القيم رحمه الله: "التوكُّل نصف الدين، والنِّصف الثاني الإنابة؛ فإنَّ الدين استعانة وعبادة؛ فالتوكُّل هو الاستعانة، والإنابةُ هي العبادة، ومَنزِلتُه أوسعُ المنازل وأَجمَعُها، ولا تزال معمورةً بالنازلين لسَعَةِ متعلَّق التوكُّل، وكثرة حوائج العالَمين، وعموم التوكُّل ووقوعه من المؤمنين والكفَّار، والأبرار والفجَّار، والطير والوحش والبهائم؛ فأهل السموات والأرض المكلَّفون وغيرُهم في مقام التوكُّل، وإن تباين متعلَّق توكُّلهم، فأولياؤه وخاصَّته يتوكَّلون عليه في حصول ما عليه في الإيمان، ونُصرة دينه، وإعلاء كلمته، وجهاد أعدائه، وفي محابِّه، وتنفيذ أوامره. ودون هؤلاء من يتوكَّل عليه في استقامته في نفسه، وحفظ حاله مع الله، فارغًا عن الناس، ودون هؤلاء من يتوكَّل عليه في معلوم يناله منه من رزق أو عافية أو نصر على عدوٍّ أو زوجة أو ولد ونحو ذلك، ودون هؤلاء من يتوكَّل عليه في حصول الإثم والفواحش؛ فإن أصحاب هذه المطالب لا ينالونها غالبًا إلا باستعانتهم بالله وتوكُّلهم عليه؛ بل قد يكون توكُّلهم أقوى من توكُّل كثير من أصحاب الطاعات؛ ولهذا يُلقون أنفسهم في الْمَتالف والْمَهالك، معتمِدين على الله أن يُسلِّمهم ويُظفرهم بمطالبهم، فأفضلُ التوكُّل: التوكُّلُ في الواجب؛ أعني: واجبَ الحقِّ، وواجبَ الخلق، وواجب النفس، وأوسعُه وأنفعه: التوكُّل في التأثير في الخارج في مصلحة دينية، أو في دفع مفسدة دينية، وهو توكُّل الأنبياء في إقامة دين الله، ودفع فساد المفسدين في الأرض، وهذا توكُّل ورثتهم، ثم الناس بعدُ في التوكُّل على حَسَب هِمَمهم ومقاصدهم، فمن متوكِّل على الله في حصول الملك، ومن متوكِّل في حصول رغيف، ومن صدق توكُّله على الله في حصول شيء ناله، فإن كان محبوبًا له مَرْضيًّا، كانت له فيه العاقبة المحمودة، وإن كان مسخوطًا مبغوضًا، كان ما حصل له بتوكُّله مَضرَّةً عليه، وإن كان مباحًا، حَصَلت له مصلحة التوكُّل دون مصلحة ما توكَّل فيه إن لم يَستعِنْ به على طاعاته، والله أعلم"[3].

    قال ابن رجب رحمه الله: " واعلم أنّ تحقيق التّوكُّل لا يُنافي السّعيَ في الأسباب الّتي قدّر اللّه سبحانه المقدوراتِ بها، وجَرَت سُنَّته في خلقه بذلك؛ فإنّ اللّه تعالى أمر بتعاطي الأسباب مع أمره بالتّوكُّل، فالسّعيُ في الأسباب بالجوارح طاعة له، والتّوكُّل بالقلب عليه إيمان به؛

    كما قال اللّه تعالى:

    ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَٱنفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ ٱنفِرُوا جَمِيعًا﴾

    [النساء: 71].

    وَقَالَ سَهْلٌ التُّسْتَرِيُّ: مَن طَعَن في الحركة – يعني: في السَّعْيِ والكسب - فقد طعن في السُّنَّة، ومن طعن في التّوكُّل، فقد طعن في الإيمان؛ فالتّوكُّل حالُ النّبيِّ ﷺ، والكسبُ سُنَّته، فمن عَمِل على حاله، فلا يتركنَّ سُنَّته" [4].

    قال النوويُّ رحمه الله: "قال الإمام الأستاذ أبو القاسم القُشَيْريُّ رحمه الله: اعلم أنّ التّوكُّل مَحَلُّه القلب، وأمّا الحركة بالظّاهر فلا تُنافي التّوكُّل بالقلب بعد ما تحقَّق العبد أنّ الثّقة من قِبَل اللّه تعالى، فإن تعسَّر شيء فبتقديره، وإن تيسَّر فبتيسيره. وقال سهلُ بن عبد اللّه التُّستريُّ - رضي اللّه عنه -: التّوكُّل: الاسترسال مع اللّه تعالى على ما يريد. وقال أبو عثمان الجَبَّريُّ: التّوكُّل الاكتفاء باللّه تعالى مع الاعتماد عليه. وقيل: التّوكُّل أن يستويَ الإكثار والتّقلُّل" [5].

    قال ابن رجب رحمه الله: "ومن لطائف أسرار اقتران الفَرَج بالكَرْبِ واليُسر بالعُسر: أنّ الكرب إذا اشتدَّ وعَظُم وتناهى، وحصل للعبد الإياسُ من كَشْفه من جهة المخلوقين، وتَعلَّق قلبه باللّه وحده - وهذا هو حقيقة التّوكّل على اللّه، وهو من أعظم الأسباب الّتي تُطلَب بها الحوائج - فإنّ اللّه يكفي من توكَّل عليه؛

    كما قال تعالى:

    ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ﴾ 

    [الطلاق: 3] [6].

    قال ابن القيم رحمه الله: "قال الإمام أحمد: التوكُّل عملُ القلب، ومعنى ذلك: أنه عمل قلبيٌّ، ليس بقول اللسان، ولا عمل الجوارح، ولا هو من باب العلوم والإدراكات، ومن الناس من يجعله من باب المعارف والعلوم، فيقول: هو علم القلب بكفاية الربِّ للعبد، ومنهم مَن يفسِّره بالسكون وخمود حركة القلب، فيقول: التوكُّل هو انطراح القلب بين يدَيِ الربِّ كانطراح الميت بين يدي الغاسل يقلِّبه كيف يشاء، وهو ترك الاختيار والاسترسال مع مجاري الأقدار. قال سهل: التوكُّل الاسترسال مع الله مع ما يريد. ومنهم من يفسِّره بالرضى، فيقول: هو الرضى بالمقدور. قال بشرٌ الحافي: يقول أحدهم: توكَّلت على الله، يَكذِب على الله؛ لو توكَّل على الله رَضِيَ بما يفعل الله، وسُئل يَحيى بنُ معاذ: متى يكون الرجل متوِّكلًا؟ فقال: إذا رَضِي بالله وكيلًا، ومنهم من يفسِّره بالثقة بالله، والطمأنينة إليه، والسكون إليه. 

    قال ابن عطاء رحمه الله: التوكُّل أن لا يَظهَر فيك انزعاج إلى الأسباب مع شدَّة فاقتك إليها، ولا تزول عن حقيقة السكون إلى الحقِّ مع وقوفك عليها. قال ذو النون: هو ترك تدبير النفس والانخلاع من الحَوْلِ والقوَّة؛ وإنما يقوِّي العبد على التوكل إذا علم أن الحقَّ سبحانه يَعلَم ويرى ما هو فيه، وقال بعضهم: التوكُّل التعلُّق بالله في كلِّ حال، وقيل: التوكُّل أن تَرِد عليك موارد الفاقات، فلا تسمو إلَّا إلى من إليه الكفايات، وقيل: نفيُ الشكوك والتفويض إلى مالك الملوك، وقال ذو النون: خلع الأرباب وقطع الأسباب؛ يريد قطعها من تعلُّق القلب بها، لا من ملابسة الجوارح لها، ومنهم من جَعَله مركَّبًا من أمرين أو أمور، فقال أبو سعيد الخراز: التوكُّل اضطراب بلا سكون، وسكونٌ بلا اضطراب؛ يريد: حركة ذاته في الأسباب بالظاهر والباطن، وسكون إلى المسبِّب، وركون إليه، ولا يضطرب قلبه معه، ولا تسكن حركته عن الأسباب الموصِّلة إلى رضاه، وقال أبو تراب النخشبيُّ: هو طرح البدن في العبودية، وتعلُّق القلب بالربوبية، والطمأنينة إلى الكفاية، فإن أُعطِيَ شكر، وإن مُنِع صَبَر، فجعله مركَّبًا من خمسة أمور: القيام بحركات العبودية، وتعلُّق القلب بتدبير الربِّ، وسكونه إلى قضائه وقَدَره، وطمأنينته وكفايته له، وشكره إذا أُعطي، وصبره إذا مُنع. قال أبو يعقوب النهرجوري: التوكُّل على الله بكمال الحقيقة كما وقع لإبراهيمَ الخليلِ - عليه السلام - في الوقت الذي قال لجبريلَ عليه السلام: أما إليك فلا؛ لأنه غائب عن نفسه بالله، فلم يَرَ مع الله غير الله" [7].

    قال ابن القيم رحمه الله: "أجمع القوم على أن التوكُّل لا ينافي القيامَ بالأسباب، فلا يصحُّ التوكُّل إلا مع القيام بها، وإلَّا فهو بطالة وتوكُّل فاسد. قال سهل بن عبدالله: من طَعَن في الحركة، فقد طَعَن في السنَّة، ومن طعن في التوكُّل، فقد طعن في الإيمان؛ فالتوكُّل حال النبيِّ ﷺ والكسب سنَّته، فمن عَمِل على حاله، فلا يتركنَّ سنَّته، وهذا معنى قول أبي سعيد: هو اضطراب بلا سكون، وسكون بلا اضطراب، وقول سهل أبينُ وأرفع، وقيل: التوكُّل قطع علائق القلب بغير الله، وسُئل سهلٌ عن التوكُّل فقال: قلبٌ عاش مع الله بلا علاقة، وقيل: التوكُّل هجر العلائق، ومواصلة الحقائق، وقيل: التوكُّل أن يستويَ عندك الإكثار والإقلال، وهذا من موجِباته وآثاره؛ لأنه حقيقته" [8].


    المراجع


    1. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 496، 497).

    2. "فتح البيان في مقاصد القرآن" لمحمد صديق خان (10/ 213).

    3. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 113، 114).

    4. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 498).

    5. "شرح النوويِ على مسلم" (3/ 91، 92).

    6. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 493).

    7. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 114 - 116).

    8. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 116).





    مشاريع الأحاديث الكلية