عنْ عمرَ رضي الله عنه، عنْ النّبيِّ ﷺ قال: «لو أنَّكُمْ تَوَكَّلُونَ على اللهِ حقَّ توكُّلِه، لرُزِقْتُمْ كما تُرْزَقُ الطَّيْرُ، تَغْدو خِماصًا، وتَرُوحُ بِطانًا»
عنْ عمرَ رضي الله عنه، عنْ النّبيِّ ﷺ قال: «لو أنَّكُمْ تَوَكَّلُونَ على اللهِ حقَّ توكُّلِه، لرُزِقْتُمْ كما تُرْزَقُ الطَّيْرُ، تَغْدو خِماصًا، وتَرُوحُ بِطانًا»
في الحديث بيان أن الله تعالى قد ضمِن الرزق لعباده، ولا يَمنَع هذا من السعي والأخذ بالأسباب، تمامًا كما تأخذ الطير بالأسباب.
هذا الحديث أصل في التَّوَكُّل، وأنه من أعظم الأسباب التي يُسْتَجْلَب بها الرزقُ [1].
حقيقةُ التّوكُّل: هو صِدق اعتماد القلب على اللّه عزّ وجلّ في استجلاب المصالح، ودفع المضارِّ من أمور الدّنيا والآخرة كلِّها، وكِلَةُ الأمور كلِّها إليه، وتحقيق الإيمان بأنّه لا يُعطي ولا يمنع ولا يَضُرُّ ولا ينفع سواه [2].
التَّوَكُّلُ جِمَاعُ الإيمان، وهو الغاية القُصوى، وإنَّ تَوَكُّل العبد على رَبِّه أن يَعْلَمَ أن اللَّهَ هو ثِقَتُه [3].
تحقيق التّوكُّل لا ينافي السّعيَ في الأسباب الّتي قدَّر اللّه سبحانه المقدوراتِ بها، وجرت سُنَّته في خلقه بذلك؛ فإنّ اللّه تعالى أمر بتعاطي الأسباب مع أمره بالتّوكُّل، فالسَّعْيُ في الأسباب بالجوارح طاعة له، والتّوكُّل بالقلب عليه إيمان به؛
كما قال اللّه تعالى:
﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَٱنفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ ٱنفِرُوا جَمِيعًا﴾
[النساء: 71] [4].
مَن طَعَن في الحركة – يعني: في السَّعْيِ والكسب - فقد طعن في السُّنَّة، ومن طعن في التّوكُّل، فقد طعن في الإيمان؛ فالتّوكُّل حالُ النّبيِّ ﷺ، والكسبُ سُنَّته، فمن عَمِل على حاله، فلا يتركنَّ سُنَّته [5].
من لطائف أسرار اقتران الفَرَج بالكَرْبِ واليُسر بالعُسر: أنّ الكرب إذا اشتدَّ وعَظُم وتناهى، وحصل للعبد الإياسُ من كَشْفه من جهة المخلوقين، وتَعلَّق قلبه باللّه وحده - وهذا هو حقيقة التّوكّل على اللّه، وهو من أعظم الأسباب الّتي تُطلَب بها الحوائج - فإنّ اللّه يكفي من توكَّل عليه؛
كما قال تعالى:
﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُۥٓ ۚ﴾
[الطلاق: 3] [6].
التّوكُّل مَحَلُّه القلب، وأمّا الحركة بالظّاهر، فلا تُنافي التّوكُّل بالقلب بعد ما تحقَّق العبد أنّ الثّقة من قِبَل اللّه تعالى، فإن تعسَّر شيء فبتقديره، وإن تيسَّر فبتيسيره [7].
التّوكُّل هو الاسترسال مع اللّه تعالى على ما يُريد، وهو الاكتفاء باللّه تعالى مع الاعتماد عليه [8].
قيل: التَّوَكُّلُ أن يستويَ الإكثارُ والتَّقَلُّل [9].
التوكُّل نصف الدين، والنِّصف الثاني الإنابة؛ فإنَّ الدين استعانة وعبادة؛ فالتوكُّل هو الاستعانة، والإنابةُ هي العبادة، ومَنزِلتُه أوسعُ المنازل وأَجمَعُها، ولا تزال معمورةً بالنازلين لسَعَةِ متعلَّق التوكُّل، وكثرة حوائج العالَمين، وعموم التوكُّل ووقوعه من المؤمنين والكفَّار، والأبرار والفجَّار، والطير والوحش والبهائم [10].
إن أهل السموات والأرض المكلَّفين وغيرَهم في مقام التوكُّل، وإن تباين متعلَّق توكُّلهم، فأولياؤه وخاصَّته يتوكَّلون عليه في حصول ما عليه في الإيمان، ونُصرة دينه، وإعلاء كلمته، وجهاد أعدائه، وفي مَحابِّه، وتنفيذ أوامره. ودون هؤلاء من يتوكَّل عليه في استقامته في نفسه، وحفظ حاله مع الله، فارغًا عن الناس، ودون هؤلاء من يتوكَّل عليه في معلوم يناله منه من رزق أو عافية أو نصر على عدوٍّ أو زوجة أو ولد ونحو ذلك، ودون هؤلاء من يتوكَّل عليه في حصول الإثم والفواحش؛ فإن أصحاب هذه المطالب لا ينالونها غالبًا إلا باستعانتهم بالله وتوكُّلهم عليه؛ بل قد يكون توكُّلهم أقوى من توكُّل كثير من أصحاب الطاعات؛ ولهذا يُلقون أنفسهم في الْمَتالف والْمَهالك، معتمِدين على الله أن يُسلِّمهم ويُظفرهم بمطالبهم [11].
أفضلُ التوكُّل: التوكُّلُ في الواجب؛ أعني: واجبَ الحقِّ، وواجبَ الخَلق، وواجب النفس [12].
أوسعُ التوكُّل وأنفعُه: التوكُّل في التأثير في الخارج في مصلحة دينية، أو في دفع مفسدة دينية، وهو توكُّل الأنبياء في إقامة دين الله، ودفع فساد المفسدين في الأرض، وهذا توكُّل العلماء، ثم الناس بعدُ في التوكُّل على حَسَب هِمَمهم ومقاصدهم، فمن متوكِّل على الله في حصول الملك، ومن متوكِّل في حصول رغيف [13].
مَن صَدَق توكُّله على الله في حصول شيء ناله، فإن كان محبوبًا له مَرْضيًّا، كانت له فيه العاقبة المحمودة، وإن كان مسخوطًا مبغوضًا، كان ما حصل له بتوكُّله مَضرَّةً عليه، وإن كان مباحًا، حَصَلت له مصلحة التوكُّل دون مصلحة ما توكَّل فيه إن لم يَستعِنْ به على طاعاته [14].
التوكُّل عملُ القلب، ومعنى ذلك: أنه عمل قلبيٌّ، ليس بقول اللسان، ولا عمل الجوارح، ولا هو من باب العلوم والإدراكات [15].
من الناس من يجعل التوكُّل من باب المعارف والعلوم، فيقول: هو علم القلب بكفاية الربِّ للعبد، ومنهم مَن يفسِّره بالسكون وخمود حركة القلب، فيقول: التوكُّل هو انطراح القلب بين يدَيِ الربِّ كانطراح الميت بين يدي الغاسل يقلِّبه كيف يشاء، وهو ترك الاختيار والاسترسال مع مجاري الأقدار. قال سهل: التوكُّل الاسترسال مع الله مع ما يريد [16].
من الناس من يفسِّر التوكُّل بالرضى، فيقول: هو الرضى بالمقدور. قال بشرٌ الحافي: يقول أحدهم: توكَّلت على الله، يَكذِب على الله؛ لو توكَّل على الله رَضِيَ بما يفعل الله، وسُئل يَحيى بنُ معاذ: متى يكون الرجل متوِّكلًا؟ فقال: إذا رَضِي بالله وكيلًا [17].
من الناس من يفسِّر التوكُّل بالثقة بالله، والطمأنينة إليه، والسكون إليه. قال ابن عطاء: التوكُّل أن لا يَظهَر فيك انزعاج إلى الأسباب مع شدَّة فاقتك إليها، ولا تزول عن حقيقة السكون إلى الحقِّ مع وقوفك عليها، وقال ذو النون: هو ترك تدبير النفس والانخلاع من الحَوْلِ والقوَّة؛ وإنما يَقوى العبد على التوكُّل إذا علم أن الحقَّ سبحانه يَعلَم ويرى ما هو فيه [18].
قيل: التوكُّل التعلُّق بالله في كلِّ حال، وقيل: التوكُّل أن تَرِد عليك موارد الفاقات، فلا تسمو إلَّا إلى من إليه الكفايات، وقيل: نفيُ الشكوك والتفويض إلى مالك الملوك، وقال ذو النون: خلع الأرباب وقطع الأسباب؛ يريد قطعها من تعلُّق القلب بها، لا من ملابسة الجوارح لها [19].
من الناس من جَعَل التوكُّل مركَّبًا من أمرين أو أمور، فقيل: التوكُّل اضطراب بلا سكون، وسكونٌ بلا اضطراب؛ يريد: حركة ذاته في الأسباب بالظاهر والباطن، وسكون إلى المسبِّب، وركون إليه، ولا يضطرب قلبه معه، ولا تسكن حركته عن الأسباب الموصِّلة إلى رضاه، وقيل: هو طرح البدن في العبودية، وتعلُّق القلب بالربوبية، والطمأنينة إلى الكفاية، فإن أُعطِيَ شكر، وإن مُنِع صَبَر، فجعله مركَّبًا من خمسة أمور: القيام بحركات العبودية، وتعلُّق القلب بتدبير الربِّ، وسكونه إلى قضائه وقَدَره، وطمأنينته وكفايته له، وشكره إذا أُعطي، وصبره إذا مُنع [20].
قيل: التوكُّل على الله بكمال الحقيقة كما وقع لإبراهيمَ الخليلِ - عليه السلام - في الوقت الذي قال لجبريلَ عليه السلام: أما إليك فلا؛ لأنه غائب عن نفسه بالله، فلم يَرَ مع الله غير الله [21].
أجمع القوم على أن التوكُّل لا ينافي القيامَ بالأسباب، فلا يصحُّ التوكُّل إلا مع القيام بها، وإلَّا فهو بطالة وتوكُّل فاسد [22].
قيل: التوكُّل قطع علائق القلب بغير الله، وقيل: التوكُّل هجر العلائق، ومواصلة الحقائق، وقيل: التوكُّل أن يستويَ عندك الإكثار والإقلال، وهذا من موجِباته وآثاره؛ لأنه حقيقته [23].
1. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 496، 497).
2. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 497).
3. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 497).
4. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 498).
5. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 498).
6. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 493).
7. "شرح النوويِ على مسلم" (3/ 91).
8. "شرح النوويِ على مسلم" (3/ 92).
9. "شرح النوويِ على مسلم" (3/ 92).
10. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 113).
11. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 114).
12. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 114).
13. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 114).
14. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 114).
15. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 114).
16. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 114).
17. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 114).
18. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 114).
19. مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 115).
20. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 115).
21. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 116).
22. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 116).
23. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 116).
25. قوله: «تَوَكَّلُون»؛ أي: تتوكَّلون؛ فهناك قاعدةٌ في اللغة أنه إذا ابتدأ الفعل بتاءين، يجوز الاقتصار على تاء واحدة، وهو كثير جدًّا في اللغة، ومنه في القرآن الكريم
قوله تعالى:
﴿تَنَزَّلُ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا﴾
[القدر: ٤]؛
أي: تتنزَّل،
وقوله تعالى:
﴿يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِۦ ۚ﴾
[هود: ١٠٥]؛
أي: تتكلَّم،
وقوله تعالى:
﴿وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ ٱلْمَوْتَ﴾
[آل عمران: ١٤٣]؛
أي: تتمنَّون.