فقه
1. يذكر النبيُّ ﷺ أنَّ اللهَ تبارك وتعالى استأثر بمعرفة أمور الغيب التي لا يعلمها إلا هو سبحانه؛
{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}
{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا}
وليست الأمور المذكورة في الحديث هي وحدها التي اختصُّ الله تعالى بمعرفتها، بل هي على سبيل المثال لا الحصر، أو أنها أهمُّ الأمور التي انفرد اللهُ سبحانه بعلمها، وإلا ففي أخبار السابقين من الأنبياء وأُمَمهم ما لا يعلمه إلا الله،
{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ}
وما أخفاه الله من عوالم الجنِّ والملائكة وأخبارهم، وعجائب خلقه في السماوات والأرض، ونحو ذلك.
وأمور الغيب بالنسبة إلى إمكان علم الإنسان بها منقسمةٌ إلى قسمين:
فمنها ما يمكن للإنسان أن يَقِف عليه ويعلمه بالوسائل والأسباب التي سخَّرها اللهُ له، كمعرفة وقت طلوع الشمس وأوقات الصلوات ومواعيد الكسوف والخسوف، ونحو ذلك مما جعَله الله على قوانين ثابتة منتظِمة.
وقسمٌ لا يعلمه إلا الله تعالى، وهو الغيب المطلَق الذي منه هذه الأشياء المذكورة في الحديث، والتي تضمنها
{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}
وقد سمَّى الله تلك الأمور مفاتحًا من باب التشبيهِ والتمثيل؛ فإنَّ الأمور المحجوبة عن الإنسان لا يُتوصَّلُ إليها إلا بالمفاتيح الموصِلة إليها، فإذا كانت المفاتيح نفسها لا يعلمها أحدٌ من البشر، فكيف بالمُغَيَّباتِ نفسها؟!
2. الأمر الأول: ما يَكسِبه الإنسانُ في غَدِهِ القريبِ والبعيد، فلا يعلم الإنسانُ ما يتحصل له من الرزقِ، أو ما يجري عليه من الأقدار من خيرٍ وشرٍّ، وما يكسبه من الأعمال الصالحة والسيئة.
3. الأمر الثاني: أنَّه سبحانه يَعلم ما يكون في الأرحام، فيعلم ما ينقص من شيء متعلق بالرحم، سواء في نقص اكتمال الحمل كالسِّقْط، أو نقصِ الدم غذاءً للجنين، أو سائر النقص كنقص الرزق وغيره، ويعلم ما يزداد من شيء متعلق بالرحم، كاكتمال نموه حتى موعد ولادته، ويشمل ما سبق جميع التفاصيل، فيعلم سبحانه ما يتعلق بالرحم من خَلْق وخُلُق، وقدرات جسمية وعقلية، وسعادة وشقاوة، ويعلم جنس الجنين ذكرًا كان أم أنثى،
{اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ}
ولا يُعارِضُ هذا ما قد يعلمه الأطباء وغيرهم من جنس الجنين في شهوره الأخيرة؛ فإنَّ هذا -مع أنه تسخيرٌ من الله تعالى- علمٌ ناقصٌ، لشيء محدود، لا يكون إلا بعد مرور في نتائج ظنِّيَّة يكثر فيها الخطأ، وهو علمٌ لإناثٍ محدودة، ولا يعلم ما في أرحام الطير والسباع وسائر المخلوات إلا الله سبحانه وتعالى.
4. الأمرُ الثالثُ: معرفةُ وقت نزول المطر؛ فلا يعلم أحدٌ غير الله تعالى على وجه كمال العلم واليقين: متى ينزل المطرُ ولا مِقدارُه ولا أين ينزل؟
وإن كان بعض الناس يمكنه توقع شيء من ذلك -من مثل ما ترصده بعض الجهات العلمية بما سخرّه الله تعالى من أدوات-؛ فإن ذلك مُترتِّبٌ على دلالات من الرياح والغيوم والضغط الجوي، من جنس ما كان موجودًا في الأمم من قديم، وإن كان متقدمًا عليه بأدواتٍ وعلوم حديثة، وهي معرفة محدودة وظنية ويعترضها الخطأ كثيرًا.
5. الأمر الرابعُ: مَعرفة وقت موت الإنسان ومكانه،
{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}
فلم يجعل الله للإنسان حدًّا معيَّنًا إذا وصل إليه مات، ولا جَعَل له سببًا لا يُفارِقه إلا إلى الموت؛ فالمريض يُشفى، والصَّحيح القويُّ يموت فجأةً، والشاب تَبْغَته المنايا، والشيخُ يُرَدُّ إلى أرذل العمر، ويَرِدُ الإنسانُ مواطن الهلَكة فيَغرِق في البحر أو يقع من شاهقٍ أو نحو ذلك وينجو، ويموت الآمنُ المطمئنُّ في قَعر بيته.
6. الأمر الخامس: من تلك الأشياء التي أخبر بها النبيُّ ﷺ في الحديث هو معرفة وقت قيام السَّاعة؛ فإن ذلك مما اختص اللهُ تعالى به نفسه، لم يُطلِعْ عليه مَلَكًا مقرَّبًا أو نبيًّا مُرسلًا،
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}
وسَأَل أمينُ الوحي جبريلُ عليه السلام أمينَ أهلِ الأرض محمدًا ﷺ: متى الساعة؟ فقال: «مَا المَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ» [1]
اتباع
1- (1) أخبر النبيُّ ﷺ عن بعض الأمور التي لا يعلمها أحدٌ ألبتة غيره سبحانه، فلا يجوز لمسلم أن يعتقد غير ذلك، أو يُصَدِّق الجهلة والكهنة المُدَّعين معرفة ذلك.
2- (2) إذا كان لا يعلم ما يقع في غدٍ إلا الله سبحانه وتعالى، فعليك بالعمل ولا تتقاعس وتَرْكَن إلى ما يسوقه الدَّجاجلة والكَذَبةُ، ولا تَتشاءم بسماع أو رؤية ما يحملك على ترك العمل.
3- (2) أخفى اللهُ تعالى عن العباد عِلمَ ما يحدث في المستقبل. فإياك أن تَتحجَّج بالقَدَر فيما فرَّطتَ فيه مما يجب عليك، أو وقعتَ فيه من المُحَرَّمات، فتكون كالكافرين
{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ}
4- (3) إذا طَمِع العبدُ في رزق الله تعالى فليلجأ إليه وحده، فهو الرزاق الوهاب.
5- (3) ذهاب المرأة إلى الطبيبِ ليخبرها بجنس الجنين ونحو ذلك لا يضرُّ ولا يحرم؛ فإنَّ ذلك مما وهبه الله تعالى لأهل العلم وسخَّره لهم، ويقتصر علمهم على معرفة ذلك بعد اكتمال تخلُّق الجنين في بطن أمه، أما قبلها فلا يمكن معرفة ذلك يقينًا.
6- (4) إذا كان المطرُ وهو سبب الرزقِ لا يتحكَّم فيه ولا يعلم وقت نزوله ولا قَدْره ولا موضعه إلا الله سبحانه. فاعلم أنَّ رزقك بقدر الله وحده، فاعبده وتوكَّل إليه، واسْعَ في ابتغاء ما كتبه لك.
7- (5) أخفى الله عن العباد موعد موتهم ومكانه؛ فإنه لو علم إنسانٌ أنه يموت في يومٍ معيَّن لَفَسدت الدُّنيا ولَما عُمِرت الأرض، ولظلَّ الإنسانُ يبكي ويرقُب أجله حتى يأتيه، فأخفى ذلك ليدفعنا الأملُ إلى العمل وإعمار الأرض. وهذا من حكمته سبحانه الذي لا يفعل أمرًا إلا لحكمة، عَلِمَها مَن عَلِمَها وجَهِلَها مَن جَهِلَها.
8- (6) أخفى الله عن عباده موعد قيام الساعة ليكونوا على ترقُّبٍ دائمٍ لها، وليستعدوا طِيلة أعمارهم بالأعمال الصالحة، ويجتهدوا ما بقوا في الحياة بالطاعات، كما أخفى عنهم ليلةَ القدر وساعة الإجابة يوم الجمعة ليحصل ذلك.
9- في الإيمان بهذه الغَيْبيَّات والوقوف عند ما أخبرنا به الوحيُ راحةُ النفس، وبثُّ الأمل، وزيادة التعلُّق بالله تعالى والإيمان به.
10- قال الشاعر:
يا منْ يُغيثُ الورَى مِنْ بَعْدِ ما قَنَطوا = ارْحَمْ عِبادًا أكُفَّ الفَقْرِ قدْ بَسَطُوا
عَوَّدْتَهُم بَسْطَ أرزاقٍ بِلا سَبَبٍ = سِوى جَمِيلِ رَجاءٍ نَحْوَهُ انبسَطوا
وعُدْتَ بالفَضْلِ في وِرْدٍ وفي صَدَرٍ = بالجُودِ إنْ أقسَطوا والحِلمِ إنْ قَسَطُوا
المراجع
- رواه البخاري (50)، ومسلم (9)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.