91 - كراهةُ طَلَب الوِلاياتِ

عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ، لاَ تَسْأَلِ الإِمَارَةَ؛ فَإِنَّكَ إِنْ أُوتِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ، وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُوتِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ، أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ».

عناصر الشرح

المعنى الإجماليُّ للحديث:

يروي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ، أن النَّبِيَّ ﷺ قال له: «يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ، لاَ تَسْأَلِ الإِمَارَةَ»؛ أي: لا تَطلُب أن تكون واليًا أو حاكمًا. «فَإِنَّكَ إِنْ أُوتِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ»؛ أَيْ: إيتاءً صَادِرًا عن سؤالٍ وطلب. «وُكِلْتَ إِلَيْهَا»؛ أي: تَرَكك الله تعالى لتدبير نفسك، ولم يُعِنْكَ عليها. «وَإِنْ أُوتِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ»؛ أَيْ: حالَ كَوْنِكَ مُفَوِّضًا أَمْرَكَ إلى اللَه تعالى، وَمُعْتَقِدًا أَلَّا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. «أُعِنْتَ عَلَيْهَا»؛ أَيْ: أعانَكَ الله بتوفيقِه وتثبيته، وهيَّأ لك أعوانَ خَيْرٍ ينصحون لك. «وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ»؛ أي: إذا أقسمتَ على شيء.

«فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ»؛ أي: فرأيت شيئًا خيرًا من المحلوف عليه، فافعل هذا الخيرَ، وكفِّر عن يمينك بالكفَّارة المشروعة.

الشرح المفصَّل للحديث:

    يوجِّه النبيُّ ﷺ في هذا الحديث المسلمَ ويُرشِده إلى خطورة حبِّ الإمارة والرياسة، وسؤالِها، والغفلةِ عن حقيقة أمرها؛ فإنها في الدنيا أمانة، ويوم القيامة ستكون على من لم يَقُم بحقِّها خِزْيًا وندامة، فيحذِّر النبيُّ ﷺ وينهى عبدَالرحمن بنَ سمرة - رضي الله عنه - يقول له: «يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ، لاَ تَسْأَلِ الإِمَارَةَ» ينهاه أن يسألَ الإمارة، أو يَسعَى إليها؛ لأنها أمانة كبرى ومسؤولية عظمى؛ فالإمارةُ وغيرُها من الولايات التي تتعلَّق بها مصالح الناس، ينبغي أن يُسعى بها إلى أهلها ومستحقِّيها، ولا ينبغي للناس أن يَتَصارعوا عليها؛ بل على العبد أن يسأل الله العافية والسلامة؛ فإنه لا يدري هل تكون الولاية خيرًا له أو شرًّا؟ وهل يستطيع القيام بحقِّها أو لا؟ 

فكان التَّحذير من سؤال الإمارة؛ لأنها خطر، فقد يسألها ولا يقوم بالواجب، فينبغي له سؤال العافية، وعدم سؤال الإمارة.

ثم قال ﷺ له: «فَإِنَّكَ إِنْ أُوتِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ، وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُوتِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ، أُعِنْتَ عَلَيْهَا»:

"قوله: (وُكِلت إليها) معناه: أن الإمارة أمر شاقٌّ لا يَخرُج عن عُهدتها إلَّا الأفرادُ من الرجال، فلا تسألها عن تشوُّف نفس؛ فإنك إن سألتها، تُركتَ معها، فلا يُعينك الله عليها، وإن أوتيتَ من غير مسألة، أعانك الله عليها"[1].

و"فيه دليلٌ على أنه من تعاطى أمرًا وسوَّلت له نفسه أنه قائم بذلك الأمر، أنه يُخذَل فيه في أغلب الأحوال؛ لأنه من سأل الإمارة لم يسألها إلا وهو يرى نفسه أهلًا لها؛ فقد قال ﷺ: (وُكِل إليها)؛ بمعنى: لم يُعَنْ على ما أعطاه، والتعاطي أبدًا مقرونٌ بالخِذلان، وإن من دُعيَ إلى عمل أو إمامة في الدين فقَصَّر نفسه عن تلك المنزلة وهاب أمرَ الله، رزقه الله المعونة، وهذا إنما هو مبنيٌّ على أنه مَن تَواضَع لله رَفَعه"[2].

وفي الحديث " كراهةُ سؤال الولاية، سواءً ولايةُ الإمارة والقضاء والحسبة وغيرها، وبيان أنّ من سأل الولاية لا يكون معه إعانة من اللّه تعالى، ولا تكون فيه كفاية لذلك العمل، فينبغي أن لا يولَّى

ولهذا قال ﷺ:

«لَا نُوَلِّي عَمَلَنَا مَنْ طَلَبَهُ أَوْ حَرَصَ عَلَيْهِ»"[3].

هذا وإن "طلب الشَّرفِ بالوِلايةِ والسُّلطانِ والمال خطرٌ جدًّا، يَمنَعُ خيرَ الآخرةِ وشَرَفَها وكرامَتها وعزَّها

قال الله تعالى:

{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}

[القصص: ٨٣]

وقَلَّ مَن يحرص على رياسة الدنيا بطلب الولاياتِ فوُفِّق؛ بل يُوكَلُ إلى نفسه؛ كما في هذا الحديث. قال بعضُ السَّلفِ: ما حرص أحدٌ على ولاية فعَدَل فيها. وكان يَزيدُ بنُ عبد الله بن وهبٍ من قضاة العدل والصالحين، وكان يقول: من أَحَبَّ المالَ والشَّرف، وخافَ الدوائِرَ، لم يَعدِلْ فيها

وفي "صحيح البخاريّ": عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ ﷺ قال:

«إِنكم سَتحرصونَ عَلَى الإمارة، وستكونُ ندامةً يوم القيامةِ، فنِعْمَ الْمُرضعةُ، وبئستِ الفاطمة»"[4].

وفيه أيضًا عن أبي موسى الأشعريِّ

أنَّ رجلين قالا للنبيِّ ﷺ: يا رسولَ الله، أَمِّرْنا. قال: «إِنَّا لاَ نُوَلِّي أَمرَنَا هذا مَن سأَلَه، ولا من حَرَصَ عليه»[5]"[6].

و"من المعلوم أنَّ كلّ ولاية لا تخلو من المشقَّة، فمن لم يكن له من اللّه إعانة، تورَّط فيما دخل فيه، وخَسِر دنياه وعُقْباه، فمن كان ذا عقل، لم يتعرَّض للطلَب أصلًا؛ بل إذا كان كافيًا وأُعطِيَها من غير مسألة، فقد وَعَده الصّادق بالإعانة، ولا يخفى ما في ذلك من الفضل"[7].

هذا "ويتعيَّن على الإمام أن يبحث عن أرضى النّاس وأفضلِهم فيُولِّيه

لِما أخرجه الحاكم والبيهقيُّ أنّ النّبيَّ ﷺ قال:

«مَنْ اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى عِصَابَةٍ، وَفِي تِلْكَ الْعِصَابَةِ مَنْ هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ تَعَالَى مِنْهُ، فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَجَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ»

وإنّما نهى عن طلب الإمارة؛ لأنّ الولاية تُفيد قوّةً بعد ضعف، وقدرةً بعد عجز تتَّخِذها النّفس المجبولة على الشّرِّ وسيلةً إلى الانتقام من العدوِّ، والنّظر للصَّدِيق، وتتبُّع الأغراض الفاسدة، ولا يوثَق بحُسن عاقبتها، ولا سلامة مجاورتها، فالأَوْلى أن لا تُطلَب ما أَمكَن"[8]. 

وقيل: إن هذا "محمول على الغالب، وإلّا فقد قال يوسفُ - عليه السّلام -:

{اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ}

[يوسف: 55]

وقال سليمان:

{وَهَبْ لِي مُلْكًا}

[ص: 35]

ويُحتمَل أن يكون في غير الأنبياء - عليهم السّلام - وذلك لوثوق الأنبياء بأنفسهم بسبب العِصمة من الذُّنوب. وأيضًا لا يُعارِض الثّابتَ في شرعنا ما كان في شرع غيرنا، فيُمكِن أن يكون الطّلب في شرع يوسف - عليه السّلام – سائغًا، وأمّا سؤال سليمانَ فخارج عن مَحَلِّ النّزاع؛ إذ مَحَلُّه سؤال المخلوقين لا سؤال الخالق، وسليمان - عليه السّلام - إنّما سأل الخالق"[9].

قوله ﷺ:

«وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ»

"والمعنى: من حَلَف يمينًا، جَزْمًا لا لَغْوًا، ثم بدا له أمرٌ آخَرُ، إمضاؤه أفضلُ من إبرار يمينه، فليأتِ ذلك الأمرَ، وليكفِّرْ عن يمينه"[10].

و"اختلفوا في تقديم كفَّارة اليمين على الحِنْثِ، فذهب أكثرُ الصحابة وغيرهم إلى جوازه، وإليه ذهب الشافعيُّ ومالكٌ وأحمدُ، إلا أن الشافعيَّ يقول: إن كفَّر بالصَّوم قبلَ الحِنث، فلا يجوز؛ وإنما يجوز العِتْقُ أو الإطعام أو الكِسوة، كما يجوز تقديم الزكاة على الحَول، ولا يجوز تعجيلُ صوم رمضان قبل وقته"[11].

"ومن حَلَف على معصية؛ مثل: لا يصلِّي أو لا يكلِّم أباه، أو ليَقْتُلنَّ فلانًا، ينبغي أن يَحنَث؛ أي: يَجِب عليه أن يحنِّث نفسَه ويكفِّر عن يمينه، واعلم أنّ المحلوف عليه أنواع: فعلُ معصية، أو ترك فرض، فالحنثُ واجب. أو كان غيرُه أَوْلى منه؛ كالحَلِف على ترك وطء زوجته شهرًا أو نحوه، فإنّ الحنث أفضلُ؛ لأنّه الرِّفْق، وكذا الحِنْث ليضربنَّ عبدَه، وهو يستأهل ذلك، أو ليَشْكُوَنَّ مديونه إن لم يوافِه غدًا؛ لأنّ العفوَ أفضل، وكذا تيسير المطالبة. أو على شيء، وضدُّه مثله؛ كالحَلِف لا يأكل هذا الخبز ولا يَلبَس هذا الثّوب، فالبرُّ في هذا وحفظ اليمين أَوْلى، ولو قال قائل: إنّه واجب

لقوله تعالى جلّ جلاله:

{وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}

[المائدة: 89]

على ما هو المختار في تأويلها أنّه فيما أمكن، لا يَبعُد"[12].

{وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} عن الحَلِف بالله كاذبًا، وعن كثرة الأَيمان، واحفظوها إذا حَلفتُم عن الحِنث فيها؛ إلا إذا كان الحنث خيرًا، فتمامُ الحفظ: أن يفعل الخير، ولا يكون يمينُه عُرضةً لذلك الخير"[13].

المراجع

  1. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (8/2440).
  2.  "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (8/ 217).
  3. "شرح النوويِّ على مسلم" (11/116).
  4. رواه البخاريُّ (7148).
  5. رواه البخاريُّ (7149)، ومسلم (1733).
  6. "مجموع رسائل ابن رجب" (1/ 71).
  7. "فتح الباري" لابن حجر (13/ 124).
  8. "سبل السلام" للصنعانيِّ (2/ 567).
  9. "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (8/ 296).
  10. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (8/ 2439).
  11. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (8/ 2439).
  12. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (6/ 2239).
  13. "تفسير السعديِّ" (ص: 242).
النقول:

قال ابن بطَّال رحمه الله: "قال المهلَّب: فيه دليلٌ على أنه من تعاطى أمرًا وسوَّلت له نفسه أنه قائم بذلك الأمر، أنه يُخذَل فيه في أغلب الأحوال؛ لأنه من سأل الإمارة لم يسألها إلا وهو يرى نفسه أهلًا لها؛ فقد قال ﷺ: (وُكِل إليها)؛ بمعنى: لم يُعَنْ على ما أعطاه، والتعاطي أبدًا مقرونٌ بالخِذلان، وإن من دُعيَ إلى عمل أو إمامة في الدين فقَصَّر نفسه عن تلك المنزلة وهاب أمرَ الله، رزقه الله المعونة، وهذا إنما هو مبنيٌّ على أنه مَن تَواضَع لله رَفَعه"[1].

قال النوويُّ رحمه الله: "«لَا تَسَألِ الْإِمَارَةَ؛ فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ، أُكِلْتَ عَلَيْهَا» هكذا هو في كثير من النُّسَخ أو أكثرها (أُكِلْتَ) بالهمز، وفي بعضها: (وُكِلْتَ). قال القاضي: هو في أكثرها بالهمز. قال: والصواب بالواو؛ أي: أُسلِمْتَ إليها ولم يكن معك إعانة، بخلاف ما إذا حصلت بغير مسألة"[2].

قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "والمعنى: من حَلَف يمينًا، جَزْمًا لا لَغْوًا، ثم بدا له أمرٌ آخَرُ، إمضاؤه أفضلُ من إبرار يمينه، فليأتِ ذلك الأمرَ، وليكفِّرْ عن يمينه... اختلفوا في تقديم كفَّارة اليمين على الحِنْثِ، فذهب أكثرُ الصحابة وغيرهم إلى جوازه، وإليه ذهب الشافعيُّ ومالكٌ وأحمدُ، إلا أن الشافعيَّ يقول: إن كفَّر بالصَّوم قبلَ الحِنث، فلا يجوز؛ وإنما يجوز العِتْقُ أو الإطعام أو الكِسوة، كما يجوز تقديم الزكاة على الحَول، ولا يجوز تعجيلُ صوم رمضان قبل وقته"[3].

قال النوويُّ رحمه الله: "وفي هذا الحديث فوائدُ؛ منها: كراهةُ سؤال الولاية، سواءً ولايةُ الإمارة والقضاء والحسبة وغيرها، ومنها: بيان أنّ من سأل الولاية لا يكون معه إعانة من اللّه تعالى، ولا تكون فيه كفاية لذلك العمل، فينبغي أن لا يولَّى

ولهذا قال ﷺ:

«لَا نُوَلِّي عَمَلَنَا مَنْ طَلَبَهُ أَوْ حَرَصَ عَلَيْهِ»"[4].

قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "قوله: (وُكِلت إليها) معناه: أن الإمارة أمر شاقٌّ لا يَخرُج عن عُهدتها إلَّا الأفرادُ من الرجال، فلا تسألها عن تشرُّف نفس؛ فإنك إن سألتها، تُركتَ معها، فلا يُعينك الله عليها، وإن أوتيتَ من غير مسألة، أعانك الله عليها"[5].

قال ابن رجب رحمه الله: " والحرصُ على الشَّرَف على قسمين؛ أحدهما: طلب الشَّرَف بالولاية والسُّلطان والمال، وهذا خطر جدًّا، وهو الغالب، يمنع خير الآخرة وشرفها وكرامتها وعزَّها

قال الله تعالى:

{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}

[القصص: ٨٣]

وقلَّ من يَحرِص على رياسة الدّنيا بطلب الولايات فوُفِّق؛ بل يوكَل إلى نفسه

كما قال النبيُّ ﷺ لعبد الرحمن بن سمرة:

«يا عبدَ الرحمنِ، لا تسألِ الإمارةَ؛ فإِنَّكَ إِن أُعْطيتَهَا عن مَسألةٍ، وُكّلتَ إليها، وإنْ أُعْطيتَهَا من غير مسألةٍ، أُعنتَ عليها».

قال بعضُ السَّلفِ: ما حرصَ أحدٌ على ولايةٍ فعَدَل فيها. وكان يَزيدُ بنُ عبد الله بن وهبٍ من قضاةِ العدلِ والصَّالحين، وكان يقولُ: من أَحَبَّ المالَ والشَّرف، وخافَ الدوائِرَ، لم يَعدِلْ فيها

وفي "صحيح البخاريّ": عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ ﷺ قال:

«إِنكم سَتحرصونَ عَلَى الإمارة، وستكونُ ندامةً يوم القيامةِ، فنِعْمَ الْمُرضعةُ، وبئستِ الفاطمة»"[6].

وفيه أيضًا عن أبي موسى الأشعريِّ أنَّ رجلين قالا للنبيِّ ﷺ:

يا رسولَ الله، أَمِّرْنا. قال: «إِنَّا لاَ نُوَلِّي أَمرَنَا هذا مَن سأَلَه، ولا من حَرَصَ عليه»[7]"[8].

قال ابن حجر رحمه الله: "من المعلوم أنَّ كلّ ولاية لا تخلو من المشقَّة، فمن لم يكن له من اللّه إعانة، تورَّط فيما دخل فيه، وخَسِر دنياه وعُقْباه، فمن كان ذا عقل، لم يتعرَّض للطلَب أصلًا؛ بل إذا كان كافيًا وأُعطِيَها من غير مسألة، فقد وَعَده الصّادق بالإعانة، ولا يخفى ما في ذلك من الفضل"[9].

قال القسطلانيُّ رحمه الله: "«وإذا حلفتَ على» محلوف «يمين، فرأيت غيرها خيرًا منها، فكفِّر عن يمنيك، وأْتِ الذي هو خير»: ظاهرُه تقديم التكفير على إتيان المحلوف عليه، والرواية السابقة تأخيرُه، ومذهب إمامنا الشافعيِّ، ومالكٍ والجمهور جوازُ التقديم على الحِنث؛ لكن يُستحبُّ كونُه بعدَه، واستثنى الشافعيُّ التكفير بالصوم لأنه عبادة بدنية، فلا تقدَّم قبل وقتها كصوم رمضان، واستثنى بعض أصحابه حِنث المعصية؛ كأن حلف لا يزني؛ لِما في التقديم من الإعانة على المعصية، والجمهور على الإجزاء؛ لأن اليمين لا يحرِّم ولا يحلِّل، ومنع أبو حنيفة وأصحابه وأشهبُ من المالكية التقديمَ. لنا قولُه: «فكفِّر عن يمينك وأت الذي هو خير»، فإن قيل: الواو لا تدلُّ على الترتيب. أُجيب برواية أبي داود والنسائيِّ: «فكفِّر عن يمينك ثم ائتِ الذي هو خير». فإن قلتَ: ما مناسبة هذه الجملة للسابقة؟ أُجيب بأن الممتنع من الإمارة قد يؤدِّي به الحال إلى الحَلِف على عدم القَبول مع كون المصلحة في ولايته"[10].

قال الملا علي القاري رحمه الله: "قال صاحب الهداية: ومن حَلَف على معصية؛ مثلِ: لا يصلِّي أو لا يكلِّم أباه، أو ليَقْتُلنَّ فلانًا، ينبغي أن يَحنَث؛ أي: يَجِب عليه أن يحنِّث نفسَه ويكفِّر عن يمينه، واعلم أنّ المحلوف عليه أنواع: فعلُ معصية، أو ترك فرض، فالحنثُ واجب. أو كان غيرُه أَوْلى منه؛ كالحَلِف على ترك وطء زوجته شهرًا أو نحوه، فإنّ الحنث أفضلُ؛ لأنّه الرِّفْق، وكذا الحِنْث ليضربنَّ عبدَه، وهو يستأهل ذلك، أو ليَشْكُوَنَّ مديونه إن لم يوافِه غدًا؛ لأنّ العفوَ أفضل، وكذا تيسير المطالبة. أو على شيء، وضدُّه مثله؛ كالحَلِف لا يأكل هذا الخبز ولا يَلبَس هذا الثّوب، فالبرُّ في هذا وحفظ اليمين أَوْلى، ولو قال قائل: إنّه واجب

لقوله تعالى جلّ جلاله:

{وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}

 [المائدة: 89]

على ما هو المختار في تأويلها أنّه فيما أمكن، لا يَبعُد"[11].

قال الصنعانيُّ رحمه الله: "ويتعيَّن على الإمام أن يبحث عن أرضى النّاس وأفضلِهم فيُولِّيه؛ لِما أخرجه الحاكم والبيهقيُّ أنّ النّبيَّ ﷺ قال:

«مَنْ اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى عِصَابَةٍ، وَفِي تِلْكَ الْعِصَابَةِ مَنْ هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ تَعَالَى مِنْهُ، فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَجَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ».

وإنّما نهى عن طلب الإمارة؛ لأنّ الولاية تُفيد قوّةً بعد ضعف، وقدرةً بعد عجز تتَّخِذها النّفس المجبولة على الشّرِّ وسيلةً إلى الانتقام من العدوِّ، والنّظر للصَّدِيق، وتتبُّع الأغراض الفاسدة، ولا يوثَق بحُسن عاقبتها، ولا سلامة مجاورتها، فالأَوْلى أن لا تُطلَب ما أَمكَن"[12].

قال الشوكانيُّ رحمه الله: "قَالَ ابْنُ التِّينِ: محمول على الغالب، وإلّا فقد قال يوسفُ - عليه السّلام -:

{اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ} 

[يوسف: 55]

وقال سليمان:

{وَهَبْ لِي مُلْكًا}

[ص: 35]

ويُحتمَل أن يكون في غير الأنبياء - عليهم السّلام - وذلك لوثوق الأنبياء بأنفسهم بسبب العِصمة من الذُّنوب. وأيضًا لا يُعارِض الثّابتَ في شرعنا ما كان في شرع غيرنا، فيُمكِن أن يكون الطّلب في شرع يوسف - عليه السّلام – سائغًا، وأمّا سؤال سليمانَ فخارج عن مَحَلِّ النّزاع؛ إذ مَحَلُّه سؤال المخلوقين لا سؤال الخالق، وسليمان - عليه السّلام - إنّما سأل الخالق"[13].

قال السعديُّ رحمه الله: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} عن الحَلِف بالله كاذبًا، وعن كثرة الأَيمان، واحفظوها إذا حَلفتُم عن الحِنث فيها؛ إلا إذا كان الحنث خيرًا، فتمامُ الحفظ: أن يفعل الخير، ولا يكون يمينُه عُرضةً لذلك الخير"[14].

المراجع

  1. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (8/ 217).
  2. "شرح النوويِّ على مسلم" (12/ 207).
  3. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (8/ 2439).
  4. "شرح النوويِّ على مسلم" (11/116).
  5. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (8/2440).
  6. رواه البخاريُّ (7148).
  7. رواه البخاريُّ (7149)، ومسلم (1733).
  8. "مجموع رسائل ابن رجب" (1/ 71).
  9. "فتح الباري" لابن حجر (13/ 124).
  10. "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للقسطلانيِّ (9/ 364).
  11. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (6/ 2239).
  12. "سبل السلام" للصنعانيِّ (2/ 567).
  13. "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (8/ 296).
  14. "تفسير السعديِّ" (ص: 242).


مشاريع الأحاديث الكلية