غريب الحديث:
الْقِتْلَة: بكسر القاف، وهي هَيئة القتل.
وَلْيُحِدَّ: هو بضمِّ الياء. يقال: أَحَدَّ السِّكِّينَ وحَدَّدها وَاسْتَحدَّها بمعنًى[1].
وَالشَّفْرَةُ، بفتح المُعْجَمة: السِّكِّينُ العظيمة، وما عَظُمَ من الحديد[2].
فَلْيُرِحْ ذَبِيحتَه: بإحداد السِّكِّين، وتعجيل إمرارها، وغير ذلك، ويُستحبَّ أن لا يُحِدَّ السِّكِّين بحضرة الذبيحة، وأن لا يَذبَحَ واحدة بحضرة أخرى، ولا يَجُرَّها إلى مذبحها[3].
المراجع
- "شرح النوويِّ على مسلم" (13/ 107).
- "سبل السلام" للصنعانيِّ (2/ 527).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (13/ 107).
المعنى الإجماليُّ للحديث:
قال شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ: ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قال: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ»؛ أي: أَوجَب عليكم أن تُحسِنوا في كلِّ أعمالكم المشروعة. «فَإِذَا قَتَلْتُمْ»؛ أي: إذا أردتُم قتل من يجوز قتلُه. «فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ»؛ أي: فأَحسِنوا هَيْئةَ القتل باختيار أسهلِ الطُّرق وأخفِّها إيلامًا، وأسرعِها إزهاقًا للرُّوح. «وَإِذَا ذَبَحْتُمْ»؛ أي: إذا أردتم ذَبْحَ ما يَحِلُّ ذبحُه من الحيوانات. «فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ» بالرفق بالذبيحة، فلا تصرعها، ولا تجرَّها من موضع إلى آخَرَ، وإحداد آلة الذَّبح، ولا تَذبَحها بحضرة أخرى. «وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ»؛ أي: ليسُنَّ الذابح سِكِّينَه. «فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ»: بإحداد السِّكِّين، وتعجيل إمرار على موضع الذبح، وغير ذلك، مما يساعد في سرعة الذبح، فتستريح من ألمه.
الشرح المفصَّل للحديث:
الإحسان.. كلمةٌ عظيمةُ الْمَعنى والْمَبنى.. كلمةٌ بليغةٌ أَثِيرة، لها أثرٌ عظيم في النفس، وجَرْسٌ يعانق الأذن ويَسرِي إلى القلب.. إنه القمَّة السامقة في كلِّ شيء؛ في الدين والعقيدة والعبادات والمعاملات والأخلاق والأعمال، حتى إنه لا يكافئه شيء إلا الإحسان
{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}
"واعلم أن الإحسانَ المأمورَ به نوعان؛ أحدهما: واجب، وهو الإنصاف، والقيامُ بما يجب عليك للخَلق بحسب ما توجَّه عليك من الحقوق. والثاني: إحسان مستحبٌّ، وهو ما زاد على ذلك من بَذْلِ نفع بَدَنيٍّ، أو ماليٍّ، أو علميٍّ، أو توجيه لخير دينيٍّ، أو مصلحة دنيوية؛ فكلُّ معروف صدقة، وكلُّ ما أَدخَل السرورَ على الخَلق صَدَقةٌ وإحسان، وكلُّ ما أزال عنهم ما يَكرَهون، ودَفَع عنهم ما لا يرتضون من قليلٍ أو كثير، فهو صَدَقة وإحسان، ولَمَّا ذكَرَ النبيُّ ﷺ قصَّة البَغِيِّ التي سَقَت الكلبَ الشديدَ العطشِ بخُفَّيْها من البئر، وأن الله شَكَر لها وغَفَر لها.
قالوا لرسول الله ﷺ: إن لنا في البهائم أجرًا؟ قال: «في كل ِّكَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ»[1].
فالإحسانُ: هو بذلُ جميع المنافع من أيِّ نَوْعٍ كان، لأيِّ مخلوق يَكُون؛ ولكنه يتفاوت بتفاوت المحسَن إليهم، وحقِّهم ومَقامِهم، وبحسَبِ الإحسان، وعِظَم موقعه، وعظيم نفعه، وبحَسَبِ إيمان المحسِن وإخلاصه، والسببِ الداعي له إلى ذلك.
ومن أجَلِّ أنواع الإحسان: الإحسانُ إلى من أساء إليك بقول أو فعل
{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ 34 وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}
ومن كانت طريقتُه الإحسانَ أَحسَن الله جزاءه
{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}
«إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ»
الإحسان في كل شيء: الإحسان في العبادة لله تعالى: (أن تعبد الله كأنك تراه)، الإحسان في التعامل مع النفس فلا تحمِّلها ما لا تُطيق، وتسعى لجعلها مطمئنَّة، الإحسان في التعامل مع الناس كلِّهم؛ مؤمنِهم وكافرهم، مَن فوقَك أو من هم أسفلَ منك وتحت يدك، فتُحسن معاشرة الزوجة والأولاد، بتقويمهم، والتلطُّف معهم، والقيام على شؤونهم، وتلمُّس حاجاتهم، الإحسان في التعامل مع البهائم والدوابِّ، بعدم تحميلها ما لا تُطيق، وإطعامها بما يكفيها، وإحسان ذبحها، الإحسان في التعامل مع الجمادات، بالحفاظ عليها، وهَلُمَّ جرًّا.
"قَوْلُهُ: «كَتَبَ الْإِحْسَانَ»؛ أَيْ: أَوْجَبَهُ
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}
وهو فعل الحَسَن ضدَّ القبيح، فيَتَناول الحسن شرعًا، والحسن عُرفًا، وذكر منه ما هو أبعد شيء عن اعتبار الإحسان، وهو الإحسان في القتل لأيِّ حيوان من آدميٍّ وغيره، في حدٍّ وغيره. ودلَّ على نفي الْمُثْلة مكافأةً؛ إلّا أنّه يُحتمل أنّه مخصَّص بقوله:
{فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ}
لقد كتب الله تعالى الإحسان في كلِّ شيء على عباده؛ بل إن المقصود الأعظم من خلق الموت والحياة هو الاختبار؛ ليَظهَر من أَحْسَنُ عملاً
{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}
"وظاهرُه يقتضي أنّه كَتَب على كلِّ مخلوق الإحسان، فيكون كلُّ شيء أو كلُّ مخلوق هو المكتوبَ عليه، والمكتوبُ هو الإحسان... ولفظ "الكتابة" يقتضي الوجوب عند أكثر الفقهاء والأصوليّين خلافًا لبعضهم، وإنّما استعمال لفظة الكتابة في القرآن فيما هو واجبٌ حتمٌ؛ إمّا شرعًا
{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}
أو فيما هو واقع قَدَرًا لا مَحَالَةَ
{كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}
وحينئذ فهذا الحديث نَصٌّ في وجوب الإحسان
وقد أَمَرَ اللَّه تعالى به، فقال:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}
{وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}
وهذا الأمر بالإحسان تارةً يكون للوجوب؛ كالإحسان إلى الوالدينِ والأرحام بمقدار ما يَحصُل به البِرُّ والصِّلة، والإحسان إلى الضّيف بقدر ما يَحصُل به قِراه... وتارةً يكون للنّدب؛ كصدقة التّطوُّع ونحوها. وهذا الحديث يدلُّ على وجوب الإحسان في كلِّ شيء من الأعمال؛ لكنّ إحسان كلِّ شيء بحسَبِه، فالإحسان في الإتيان بالواجبات الظّاهرة والباطنة: الإتيان بها على وجه كمال واجباتها، فهذا القَدْر من الإحسان فيها واجب، وأمّا الإحسان فيها بإكمال مستحبَّاتها فليس بواجب. والإحسان في ترك الحُرُمات: الانتهاء عنها، وترك ظاهرها وباطنها
{وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ}
فهذا القَدْر من الإحسان فيها واجب.
وأمّا الإحسان في الصّبر على المقدورات، فأن يأتيَ بالصّبر عليها على وجهه من غير تسخُّط ولا جزع، والإحسان الواجب في معاملة الخَلق ومعاشرتهم: القيام بما أوجب اللّه من حقوق ذلك كلِّه، والإحسان الواجب في ولاية الخلق وسياستهم: القيام بواجبات الولاية كلِّها، والقدر الزّائد على الواجب في ذلك كلِّه إحسانٌ ليس بواجب"[4]
«فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ»
وهاتانِ الحالتانِ من أعجب صُور الإحسان، حتى إنه ربَّما لا يَتصوَّر العقل التوجيهَ لإحسان القتل والذبح؛ فكيف يتصوَّر الإحسان في إزهاق الروح، وإنهاء الحياة، وفَوَات النفس؛ فماذا عسى أن يوجد الإحسانُ في ذلك؟!
ولكن الإسلام أظهر الإحسانَ في القتل، الذي هو إزهاق الروح قصدًا، بالنسبة للآدميين، قصاصًا، أو حدًّا، فلا يجوز التنكيل بالقتيل والْمُثْلَة بجُثَّته
{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ ۖ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا}
فلا يُسرف في القتل بأن يقتصَّ من غير القاتل، ولا ينكِّل بالقاتل، ولا يعذِّبه، ولا يُمثِّل به، ولا يتشفَّى منه.
"والإحسان في قتل ما يجوز قتله من النّاس والدّوابِّ: إزهاق نفسه على أسرع الوجوه وأسهلها من غير زيادة في التّعذيب، فإنّه إيلام لا حاجة إليه. وهذا النّوع هو الّذي ذكره النّبيُّ ﷺ في هذا الحديث، ولعلَّه ذكره على سبيل المثال، أو لحاجته إلى بيانه في تلك الحال، فقال: «إذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة» والقِتْلة والذِّبْحة بالكسر؛ أي: الهيئة، والمعنى: أحسنوا هيئة الذَّبح، وهيئة القتل، وهذا يدلُّ على وجوب الإسراع في إزهاق النّفوس الّتي يُباح إزهاقها على أسهل الوجوه، وقد حكى ابن حزم الإجماع على وجوب الإحسان في الذّبيحة، وأسهل وجوه قتل الآدميِّ ضَرْبُه بالسَّيف على العُنق
قال اللّه تعالى في حقِّ الكفّار:
{فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ}
وقد قيل: إنّه عيَّن الموضع الّذي يكون الضّرب فيه أسهلَ على المقتول، وهو فوق العظام ودون الدِّماغ، ووصَّى دُرَيْدُ بنُ الصِّمَّة قاتله أن يقتله كذلك"[5].
«وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ»
وإذا ذبحتم الحيوانَ المأكول فأحسِنوا هَيْئةَ القَتل، أَحسِنوا صورته وصِفته، فلا تعذِّبوه بجرِّه لمكان الذبح، ولا تجعلوا البهائم ترى ما يُذبَح، ولا تجعلوها تتألَّم أثناء الذبح، ولا تبدؤوا بتقطيع الذبيحة وسلخها قبل أن تموت وتَخرُج رُوحها، ولتفعلوا ما يُساعد على خروج الروح بسرعة، وذلك بقطع الوَدَجَيْنِ والحُلْقُوم والْمَرِّيء، فقطعُ هذه الأربعةِ الأشياءِ جميعًا أسهلُ بخروج الروح، وأيسر على هذه البهيمة، وإن كان يُجزئ قطعُ اثنين منهما، فإن ذلك قد يُؤلمها ويُتعبها ويَجعَلها تعاني في زهوق الروح.
"ومعنى إحسان القتل: أن يَجتهِد في ذلك، ولا يَقصِد التعذيب. وإحسانُ الذبح في البهائم: أن يَرفُق بالبهيمة ولا يَصرَعها بغتةً، ولا يَجُرَّها من موضع إلى موضع، وأن يوجِّهها إلى القِبلة، ويسمِّي ويَحمَد ويَقطَع الحلقوم والوَدَجَين، ويَترُكها إلى أن تَبرُد، والاعتراف لله تعالى بالْمِنَّة والشُّكر على نِعَمه؛ فإنه سبحانه سخَّر لنا ما لو شاء لسلَّطه علينا، وأباح لنا ما لو شاء لحرَّمه علينا"[6].
«وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ»
أي: ليسُنَّ الذابح سِكِّينَه. «فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ»: بإحداد السِّكِّين، وتعجيل إمرارها، وغير ذلك مما ذكرناه مما يساعد في سرعة الذبح وزهوق الروح، فتستريح من ألم الذبح.
"وأَبَان بعض كيفيّة إحسانها بقوله: "«ولْيُحِدَّ» هو بضمِّ الياء. يُقال: أَحَدَّ السّكِّين وحدَّدها واستحَدَّها بمعنًى. «وليُرِح ذبيحته» بإحداد السّكّين، وتعجيل إمرارها، وغير ذلك، ويُستحبُّ أن لا يُحِدَّ السّكّين بحضرة الذبيحة، وأن لا يذبح واحدةً بحضرة أخرى، ولا يجرَّها إلى مذبحها.
عامٌّ في كلِّ قتيل من الذّبائح، والقتل قصاصًا، وفي حدٍّ، ونحو ذلك، وهذا الحديث من الأحاديث الجامعة لقواعد الإسلام"[7].
المراجع
- رواه البخاريُّ (2363)، ومسلم (2244).
- "بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار" للسعديِّ (ص: 142).
- "سبل السلام" للصنعانيِّ (2/ 527).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 380، 382).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 382).
- "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 72).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (13/ 107).
النقول:
قال ابن رجب رحمه الله: "
«إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ»
وفي رواية لأبي إسحاقَ الْفَزَارِيِّ فِي كتاب "السِّيَرِ" عن خالد، عن أبي قِلَابَةَ
«إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ»
أو قال: "عَلَى كُلِّ خَلْقٍ" هكذا خَرَّجَهَا مُرْسَلَةً، وبالشَّكِّ في "كُلِّ شَيْءٍ" أو "كُلِّ خَلْقٍ"، وظاهرُه يقتضي أنّه كَتَب على كلِّ مخلوق الإحسان، فيكون كلُّ شيء أو كلُّ مخلوق هو المكتوبَ عليه، والمكتوبُ هو الإحسان... ولفظ "الكتابة" يقتضي الوجوب عند أكثر الفقهاء والأصوليّين خلافًا لبعضهم، وإنّما استعمال لفظة الكتابة في القرآن فيما هو واجبٌ حتمٌ؛ إمّا شرعًا
{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}
أو فيما هو واقع قَدَرًا لا مَحَالَةَ
{كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}
وحينئذ فهذا الحديث نَصٌّ في وجوب الإحسان، وقد أَمَرَ اللَّه تعالى به
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}
{وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}
وهذا الأمر بالإحسان تارةً يكون للوجوب؛ كالإحسان إلى الوالدينِ والأرحام بمقدار ما يَحصُل به البِرُّ والصِّلة، والإحسان إلى الضّيف بقدر ما يَحصُل به قِراه... وتارةً يكون للنّدب؛ كصدقة التّطوُّع ونحوها. وهذا الحديث يدلُّ على وجوب الإحسان في كلِّ شيء من الأعمال؛ لكنّ إحسان كلِّ شيء بحسَبِه، فالإحسان في الإتيان بالواجبات الظّاهرة والباطنة: الإتيان بها على وجه كمال واجباتها، فهذا القَدْر من الإحسان فيها واجب، وأمّا الإحسان فيها بإكمال مستحبَّاتها فليس بواجب. والإحسان في ترك الحُرُمات: الانتهاء عنها، وترك ظاهرها وباطنها
{وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ}
فهذا القَدْر من الإحسان فيها واجب.
وأمّا الإحسان في الصّبر على المقدورات، فأن يأتيَ بالصّبر عليها على وجهه من غير تسخُّط ولا جزع، والإحسان الواجب في معاملة الخَلق ومعاشرتهم: القيام بما أوجب اللّه من حقوق ذلك كلِّه، والإحسان الواجب في ولاية الخلق وسياستهم: القيام بواجبات الولاية كلِّها، والقدر الزّائد على الواجب في ذلك كلِّه إحسانٌ ليس بواجب"[1].
قال النوويُّ رحمه الله: "أَمَّا الْقِتْلَةُ، فبكسر القاف، وهي الهيئة والحالة
فوقع في كثير من النُّسخ أو أكثرها: «فأحسنوا الذَّبح» بفتح الذال بغيرها، وفي بعضها «الذِّبحة» بكسر الذّال وبالهاء؛ كالقِتلة، وهي الهيئة والحالة أيضًا.
هو بضمِّ الياء. يُقال: أَحَدَّ السّكّين وحدَّدها واستحدَّها بمعنًى. «وليُرِح ذبيحته» بإحداد السّكّين، وتعجيل إمرارها، وغير ذلك، ويُستحبّ أن لا يُحِدَّ السّكّين بحضرة الذبيحة، وأن لا يذبح واحدةً بحضرة أخرى، ولا يجرَّها إلى مذبحها.
عامٌّ في كلِّ قتيل من الذّبائح، والقتل قصاصًا، وفي حدٍّ، ونحو ذلك، وهذا الحديث من الأحاديث الجامعة لقواعد الإسلام، واللّه أعلم"[2].
قال القاضي عياض رحمه الله: "وقوله: «إذا قتلتم فأحسنوا القِتلة»: عامٌّ في كلِّ شيء من التذكية والقِصاص وإقامة الحدود وغيرها، من أنه لا يعذِّب خَلْقَ الله، وليُجهِز في ذلك. والقِتلة، بالكسر: الهيئة والصفة، وبالفتح: الفَعلة من ذلك.
«وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليُحِدَّ أحدكم شفرته، وليُرِحْ ذبيحته»
تفسير الإحسان: الذَّبح الذي إذا حدَّ الشَّفرة أراح الذبيحة، فأحسن الذبح، بخلاف ضدِّ ذلك، ومن إحسان القِتلة ألَّا يُحِدَّ الذبيحة إلى مذبحها، قاله عمرُ بنُ الخطَّاب، ومنها: ألَّا تَذبَح وآخَرُ يَنظُر، قاله ربيعة، وحُكي عن مالك جوازه"[3].
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "القِتلة بكسر القاف: وهي الهيئة والحالة، والذِّبحة بكسر الذال، ويُضَمُّ، وقد جاء في بعض روايات هذا الحديث: «فأحسنوا الذبح» بغير هاء، وهو بالفتح: مصدرٌ، وبالهاء والكسر: الهَيئة والحالة، وقولُه: «وليُحِدَّ أحدُكم شفرته» هو بضمِّ الياء من أَحَدَّ، يُقال: أَحَدَّ السِّكِّين وحَدَّها واستحدَّها. قوله: «فأحسنوا الِقتلة» عامٌّ في القتل من الذبائح، والقتلِ قصاصًا، أو في حدٍّ، ونحوِ ذلك. وهذا الحديثُ من الأحاديث الجامعة لقواعدَ كثيرةٍ، ومعنى إحسان القتل: أن يَجتهِد في ذلك، ولا يَقصِد التعذيب. وإحسانُ الذبح في البهائم: أن يَرفُق بالبهيمة ولا يَصرَعها بغتةً، ولا يَجُرَّها من موضع إلى موضع، وأن يوجِّهها إلى القِبلة، ويسمِّي ويَحمَد ويَقطَع الحلقوم والوَدَجَين، ويَترُكها إلى أن تَبرُد، والاعتراف لله تعالى بالْمِنَّة والشُّكر على نِعَمه؛ فإنه سبحانه سخَّر لنا ما لو شاء لسلَّطه علينا، وأباح لنا ما لو شاء لحرَّمه علينا"[4].
قال الصنعانيُّ رحمه الله: "قوله: «كتب الإحسان»؛ أي: أوجبه
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}
وهو فِعْلُ الحَسَن ضدَّ القبيح، فيَتَناول الحَسَن شرعًا، والحَسَن عُرفًا، وذكر منه ما هو أبعد شيء عن اعتبار الإحسان، وهو الإحسان في القتل لأيِّ حيوان من آدميٍّ وغيره، في حدٍّ وغيره. ودلَّ على نفي الْمُثْلة مكافأةً
إلّا أنّه يُحتمل أنّه مخصَّص بقوله:
{فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ}
وأبان بعض كيفيّة إحسانها بقوله: (وليُحِدَّ) بضمّ حرف المضارعة، من أَحَدَّ السّكّين: أَحسَن حدَّها، والشّفرة بفتح المعجَمة: السّكّين العظيمة، وما عَظُم من الحديد، وحدَّد، وقوله: (وليُرِح) بضمٍّ حرف المضارعة أيضًا: من الإراحة، ويكون بإحداد السّكّين، وتعجيل إمرارها، وحُسن الصّنيعة"[5].
قال ابن رجب رحمه الله: "والإحسان في قتل ما يجوز قتله من النّاس والدّوابِّ: إزهاق نفسه على أسرع الوجوه وأسهلها من غير زيادة في التّعذيب، فإنّه إيلام لا حاجة إليه. وهذا النّوع هو الّذي ذكره النّبيُّ ﷺ في هذا الحديث، ولعلَّه ذكره على سبيل المثال، أو لحاجته إلى بيانه في تلك الحال
«إذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة»
والقِتْلة والذِّبْحة بالكسر؛ أي: الهيئة، والمعنى: أحسنوا هيئة الذَّبح، وهيئة القتل، وهذا يدلُّ على وجوب الإسراع في إزهاق النّفوس الّتي يُباح إزهاقها على أسهل الوجوه، وقد حكى ابن حزم الإجماع على وجوب الإحسان في الذّبيحة، وأسهل وجوه قتل الآدميِّ ضَرْبُه بالسَّيف على العُنق
قال اللّه تعالى في حقِّ الكفّار:
{فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ}
وقد قيل: إنّه عيَّن الموضع الّذي يكون الضّرب فيه أسهلَ على المقتول، وهو فوق العظام ودون الدِّماغ، ووصَّى دُرَيْدُ بنُ الصِّمَّة قاتله أن يقتله كذلك"[6].
قال السعديُّ رحمه الله: "واعلم أن الإحسانَ المأمورَ به نوعان؛ أحدهما: واجب، وهو الإنصاف، والقيامُ بما يجب عليك للخلق بحسب ما توجَّه عليك من الحقوق. والثاني: إحسان مستحبٌّ، وهو ما زاد على ذلك من بَذْلِ نفع بَدَنيٍّ، أو ماليٍّ، أو علميٍّ، أو توجيه لخير دينيٍّ، أو مصلحة دنيوية؛ فكلُّ معروف صدقة، وكلُّ ما أَدخَل السرورَ على الخَلق صَدَقةٌ وإحسان، وكلُّ ما أزال عنهم ما يَكرَهون، ودَفَع عنهم ما لا يرتضون من قليلٍ أو كثير، فهو صَدَقة وإحسان، ولَمَّا ذكَرَ النبيُّ ﷺ قصَّة البَغِيِّ التي سَقَت الكلبَ الشديدَ العطشِ بخُفَّيْها من البئر، وأن الله شَكَر لها وغَفَر لها.
إن لنا في البهائم أجرًا، قال: «في كل ِّكَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ»[7].
فالإحسانُ: هو بذلُ جميع المنافع من أيِّ نَوْعٍ كان، لأيِّ مخلوق يَكُون؛ ولكنه يتفاوت بتفاوت المحسَن إليهم، وحقِّهم ومَقامِهم، وبحسَبِ الإحسان، وعِظَم موقعه، وعظيم نفعه، وبحَسَبِ إيمان المحسِن وإخلاصه، والسببِ الداعي له إلى ذلك.
ومن أجَلِّ أنواع الإحسان: الإحسانُ إلى من أساء إليك بقول أو فعل
{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ 34 وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}
ومن كانت طريقتُه الإحسانَ أَحسَن الله جزاءه
{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}
المراجع
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 380، 382).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (13/ 107).
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (6/ 395).
- "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 72).
- "سبل السلام" للصنعانيِّ (2/ 527).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 382).
- رواه البخاريُّ (2363)، ومسلم (2244).
- "بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار" للسعديِّ (ص: 142).