78 - من أحكامِ الطَّلاق والعِدَّة

عن عبدِ الله بنِ عُمرَ رضي الله عنهما: أنه طلَّقَ امرأتَه وهي حَائضٌ على عِهدِ رسولِ الله ﷺ تطليقةً واحدةً، فسأل عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه رسولَ الله ﷺ عن ذلك، فتغيَّظ رسولُ الله ﷺ، ثم قال رسولُ اللهِ ﷺ: «مُرْهُ فليراجعها، ثم ليُمسِكْها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعدُ، وإن شاء طلَّق قبل أن يمسَّ، فتلك العدةُ التي أَمَر اللهُ أن تطلَّق لها النساءُ»؛ متفقٌ عليه وفي لفظ لمسلم: ((مُرْه فليراجِعها، ثم ليطلقها طاهرًا أو حاملًا))


عناصر الشرح

المعنى الإجماليُّ للحديث

(يروي عَبْدُاللهِ بْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً، فَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَسُولَ اللهِ عَنْ ذَلِكَ)؛ أي: فذهب والدُه عمرُ بنُ الخطّاب إلى رسول الله ﷺ، فسأله عن حكم هذا الطَّلاق في وقت الحيض: هل يجوز أو لا؟ وهل يقع أو لا؟ (فَتَغَيَّظَ رَسُولُ اللهِ أي: ظهر عليه الغضب والغيظ، (ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ : «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا») فأمره رسول الله ﷺ أن يأمر ابنه عبدالله أن يُراجعها إلى نكاحه، ثمّ ليُمسِكْها عنده في بيته، «حَتَّى تَطْهُرَ» من الحَيْضة التي طلَّقها فيها، «ثمَّ تَحِيضُ» حَيْضةً أخرى، «ثُمَّ تَطْهُرَ» من الحَيْضة الثانية، «ثُمَّ» بعدما تَطهُر من الحَيضة الثانية، «إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ»؛ أي: إن شاء أمسكها في نكاحه، وإن شاء طلَّقها في الطُّهر الثاني قبل أن يُجامعَها؛ «فَتِلْكَ العِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ»؛ أي: فهذا الطُّهر هو زمن الشروع في العِدَّة التي أمر الله تعالى أن تُطلَّق فيها النساء. (وقرأ النبي : {يا أيها النبيُّ إذا طلَّقْتم النساءَ فطلِّقوهن في قُبُلِ عدَّتِهنَّ})، وهي قراءة شاذَّة، لا تثبُتُ قرآنًا بالإجماع؛ حيث لم تتحقَّق فيها شروط القراءة المتواترة، فلا يُصلَّى بها؛ وإنما يجوز الاستئناس بها في فَهم القراءة الصحيحة، فالمعنى: فطلقوهن مستقبلات لعدتهن. 

قوله: «ثُمَّ لِيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا»؛ أي: يجوز الطلاق سواء أكانت المرأة طاهرًا أم حاملًا.

الشرح المفصَّل للحديث

إن الله - تبارك وتعالى - له الخَلق والأمر، وقد خَلَق الإنسان وشَرَع له ما يَضبِط أمور معيشته وحياته، ويُصلِحها، ومن ذلك أنه رغَّب الرجل والمرأة في الزواج، وسمَّاه مِيثاقًا غليظًا، وأَمَرهما بإحْسان العِشْرة بينهما، وبيَّن حقوق كلِّ واحد منهما حتى تستقيم حياتهما الزوجيَّة، ودعا إلى التغافل بينهما عمَّا يَحدُث بينهما مما يُكرَه؛

قال تعالى:

﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ ۚ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰٓ أَن تَكْرَهُوا شَيْـًٔا وَيَجْعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾

[النساء: 19].

أما إذا حَدَث بين الزوجين ما يكدِّر صَفْوَ حياتهما الزوجية، واستحالت العِشرة بينهما بالمعروف، فقد أباح الإسلام الطلاق بإحسان، وعدم نسيان الفضل بينهما، وشَرَع أحكام الطلاق، كما شَرَع أحكام الزواج.

وقد راعى الإسلام طبيعة الرجل والمرأة في أمر الزواج والطلاق، فجعل أمر الطلاق بيد الرجل؛ حيث إن طبيعة الرجل أنه أكثر عقلانيةً وتريُّثًا، ولا يندفع مع عواطفه وانفعالاته، فله القِوامة على الأسرة؛

قال تعالى:

﴿ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ﴾

[النساء: 34]،

أما إذا تضرَّرت المرأة من زوجها، فلها طلب الطلاق، وأن تَصطَلِح مع زوجها على الافتداء؛

كما قال تعالى:

﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْـًٔا إِلَّآ أَن يَخَافَآ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ ۖ  فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا ٱفْتَدَتْ بِهِۦ ۗ﴾

[البقرة: 229].

وقد أبطل الإسلام أحكام الجاهلية التي كانت النساء يَصْطَلين بنارها؛ كالعَضْلِ، وتعليق الزوجة وقتًا طويلاً، وجَعْلِ الطلاق بلا عدد ولا حدٍّ، ونحو ذلك؛ فقد كان الطلاق قبل الإسلام لا حدود له، فكان بلا عدد محدَّد، وكان في الطُّهر والحيض، دون مراعاة للمرأة في تطويل عِدَّتها؛ بل كانوا يتعمَّدون الإساءة إليها، فيتركونها تعتدُّ، حتى إذا كان آخر يوم من عِدَّتها، يُرجعونها، ثم يطلِّقونها، فتعتدُّ، حتى آخر يوم من عِدَّتها يرجعونها، وهكذا دون تحديد، فتعيش المرأة معلَّقة، لا هي زوجةٌ فتُحصَن، ولا هي أيِّم فتتزوَّج، فلما جاء الإسلام رعاها، وأحاط حقَّ الرجل في الطلاق والرجعة بسياج يمنع تعسُّفه في استخدام هذا الحقِّ،

وضيَّق سبُل الطلاق - كما في حديث الباب - فجعل للطلاق عددًا ووقتًا محدَّدينِ، ووسَّع سُبل الرجوع عن الطلاق، فأباح مُراجعة الزوج لزوجته المطلَّقة ما دامت في عِدَّتها، بأن يقول: راجعتُكِ، أو بأنْ يأتيَ زوجته، وألزم الرجل أن يُبقيَ مطلَّقته في بيته، وألزم المطلَّقة بالبَقاء في بيت زوجها، إذا كان الطلاق رجعيًّا؛

قال تعالى:

﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا ٱلْعِدَّةَ ۖ وَٱتَّقُوا ٱللَّهَ رَبَّكُمْ ۖ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنۢ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّآ أَن يَأْتِينَ بِفَٰحِشَةٍۢ مُّبَيِّنَةٍۢ ۚ وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ ۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُۥ ۚ لَا تَدْرِى لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَٰلِكَ أَمْرًا﴾

[الطلاق: 1].

وعظَّم الإسلام أمر الطلاق، وجَعَله من الأمور التي لا هَزْل فيها، ولا يُقبَل الادِّعاء بذلك في هذا الأمر العظيم، فمَن طلَّق هازلاً فإنَّ طلاقه يقع؛

فعن أبي هريرة - رضِي الله عنه – قال:

قال رسول الله ﷺ: «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالرَّجْعَةُ»

[1].

وإن للطلاق أحكامًا شرعيَّة، وآدابًا لا بُدَّ من معرفتها ومُراعاتها والتقيُّد بها، ومتى جَهِلها الناس وغفلوا عنها، أضاعوا على أنفسهم ومجتمعهم ما في تشريع الطلاق من الحكمة والرحمة بالزوجين والأسرة والمجتمع.

وإن "الطّلاق قد يكون حرامًا، أو مكروهًا، أو واجبًا، أو مندوبًا، أو جائزًا، أمّا الأوّل، ففيما إذا كان بِدْعيًّا، وله صور" [2]، سنذكرها في شرح حديث الباب.

وإنَّ للطلاق صفةً شرعيَّة مُعتَبرة، وما عداها فهو طلاقٌ بدعيٌّ محرَّم يأثمُ صاحبه.

"فقد قسَّم الفقهاء الطّلاق إلى سُنِّيٍّ وبِدْعيٍّ، وإلى قسم ثالث لا وصفَ له؛ فالطلاق السُّنِّيُّ ما أمر به النبيُّ - كما في حديث الباب - والبِدْعيُّ: أن يطلِّق في الحيض، أو في طُهْر جامعها فيه، ولم يتبيَّن أمرها، أحملت أم لا؟ ومنهم من أضاف له أن يزيد على طلقة، ومنهم من أضاف له الخُلع، والثّالث: تطليق الصّغيرة والآيسة والحامل الّتي قَرُبت ولادتها" [3].

فحديث الباب يوضِّح الطلاق السُّنِّيَّ المشروع، وهو أن يطلِّق الرّجل امرأته طلقةً واحدةً وهي طاهر، دون أن يُجامعها في ذلك الطُّهر، أو تكون حاملاً وتبيَّن حملُها، ويكون الطلاق بطلقةٍ واحدة فقط، أمَّا إذا كان الطلاق على عِوَضٍ، فمباحٌ مطلقًا.

ويوضِّح أيضًا الطّلاق البِدعيَّ المنهيَّ عنه، وهو أن يطلِّق الرّجل امرأته أكثرَ من طلقة في لفظ واحد، أو يطلِّقها وهي حائض، أو يطلِّقها في طُهر قد جامَعَها فيه.

هذا وقد ذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الأربعة وغيرهم إلى أنّ الطّلاق - سواءٌ أكان سنّيًّا أم بِدْعيًّا - يَقَع، فلا يلزم من كون الطّلاق البدعيِّ منهيًّا عنه عدم وقوعه؛ بل يلحق الإثم مَن يتعمَّدُه مع حصول الطّلاق.

يروي عَبْدُاللهِ بْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: (أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ)؛ أي: طلَّقها في حال حيضها، (عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً، فَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَسُولَ اللهِ عَنْ ذَلِكَ)؛ أي: فذهب والدُه عمرُ بنُ الخطّاب إلى رسول الله ﷺ، فسأله عن حكم هذا الطَّلاق في وقت الحيض: هل يجوز أو لا؟ وهل يقع أو لا؟

(فَتَغَيَّظَ رَسُولُ اللهِ "أي: غَضِب في شأنه رسول الله ﷺ، وفيه دليل على حُرمة الطّلاق في الحيض؛ لأنّه ﷺ لا يغضب بغير حرام" [4].

فـ"قوله: (فتغيَّظ)؛ أي: غَضِب فيه؛ لأن الطّلاق في الحيض بِدعة" [5].

(ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ : «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا»): وفيه دليل على وقوع هذا الطّلاق البدعيِّ مع كونه حرامًا؛ فـ"الطلاق في الحيض - أو في طهر قد جامعها فيه - محرَّم؛ ولكنه إن وَقَع، لَزِم" [6].

والطلاق في الحيض مختلَف في وقوعه، فذهب جمهور أهل العلم، ومنهم الأئمَّة الأربعة وغيرهم، إلى وقوعه، وذهب جماعة من العلماء - منهم ابن تيمية، وابن القيم، وغيرهما - إلى عدم وقوعه.

وقد نقل ابن المنذِر، وابن قُدامةَ، والنوويُّ، وغيرهم، الإجماعَ على تحريم الطلاق حال الحيض [7]. 

واختلف العلماء في المراجَعة، هل تَجِب أو تُستحَبُّ؟ وهل يُجبَر عليها أو لا؟

"واتَّفقوا على أنّه لو طلَّق قبل الدُّخول وهي حائض، لم يؤمَر بالمراجعة، وعلى أنه إذا انقضت العِدَّة، أنّه لا رجعة" [8].

وفي الحديث دليل "على أن الرَّجْعَةَ لا تفتقر إلى رضا المرأة، ولا وَلِيِّها، ولا تجديد عَقْدٍ" [9]، وأنَّ الزَّوج يستقلُّ بالرّجعة دون الوليِّ.

"واختلف العلماء في معنى قوله ﷺ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا»، فقيل: هذا الأمر محمول على الوجوب، ومن طلَّق زوجته حائضًا أو نُفَساءَ، فإنه يُجبَر على رجعتها، فسوَّى دَمَ النِّفاس بدم الحيض. ويُجبَر على الرجعة في الحيضة التي طلَّق فيها، وفى الطُّهر بعدها، وفى الحيضة بعد الطُّهر، وفى الطُّهر بعدها، ما لم تنقضِ عِدَّتها. وقيل: يؤمر برجعتها، ولا يُجبَر على ذلك، ولم يختلفوا أنها إذا انقضت عِدَّتها أنه لا يُجبَر على رجعتها، فدلَّ على أن الأمر بمراجعتها نَدْب" [10].

و"في أمر رسول الله ﷺ عبدَالله بن عمرَ بمراجعة امرأته الّتي طلَّقها حائضًا دليلٌ يبيِّن على أنّ الطّلاق في الحيض واقع لازم؛ لأنّ المراجعة لا تكون إلّا بعد صحَّة الطّلاق ولُزومه، ولو لم يكن الطّلاق واقعًا لازمًا، ما قال: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا»؛ لأنّ من لم يطلِّق، لا يُقال له: راجِعْ؛ لأنّه مُحالٌ أن يُقال لرجل امرأتُه في عِصمته لم يُفارقها: راجعْها؛ بل كان يُقال له: طلاقُك لم يصنع شيئًا، وامرأتك بعدَه كما كانت قبلَه، ونحو هذا، وعلى هذا فقهاء الأمصار، وجمهور علماء المسلمين، وإن كان الطّلاق عند جميعهم في الحيض مكروهًا بِدْعةً غيرَ سُنَّة" [11].

«ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا») فأمره رسول الله ﷺ أن يأمر ابنه عبدالله أن يُراجعها إلى نكاحه، ثمّ ليُمسِكْها عنده في بيته، «حَتَّى تَطْهُرَ» من الحَيْضة التي طلَّقها فيها، «ثمَّ تَحِيضُ» حَيْضةً أخرى، «ثُمَّ تَطْهُرَ» من الحَيْضة الثانية.

"وقالوا: إن الطُّهر الثانيَ جُعِل للإصلاح الذى

قال الله تعالى:

﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِى ذَٰلِكَ إِنْ أَرَادُوٓا إِصْلَٰحًا ۚ﴾

[البقرة: 228]

لأن حق المرتجع ألَّا يرتجع رجعة ضرار؛

لقوله تعالى:

﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا ۚ﴾

[البقرة: 231]،

قالوا: فالطُّهر الأول فيه الإصلاح بالوطء، ولا تُعلَم صحَّة المراجعة إلا بالوطء؛ لأنه الْمُبتَغى بالنكاح والمراجعة في الأغلب، فكان ذلك الطُّهر مرادًا للوطء الذى تُستيقَن به المراجعة. فإذا مسَّها لم يكن له سبيل إلى طلاقها في طُهر قد مسَّها فيه؛ للنهي عن ذلك، ولإجماعهم على أنه لو فعل ذلك كان مطلِّقًا لغير العدَّة، فقيل له: دَعْها حتى تحيض أخرى ثم تَطهُر، ثم تطلِّق إن شئتَ قبل أن تمسَّ" [12].

"فإن قيل: ما فائدة التّأخير إلى الطُّهر الثّاني؟ فالجواب من أوجه؛ أحدها: لئلّا تصير الرّجعة لغرض الطّلاق، فوجب أن يُمسكها زمانًا كان يحلُّ له طلاقها، وإنّما أمسكها لمظهر فائدة في الرّجعة، الثّاني: أنّه عقوبة له، وتوبة من معصية باستدراك جنايته، والثّالث: أنّ الطُّهر الأوّل مع الحيض الّذي طلَّق فيه واحد، فلو طلَّقها في أوَّل طُهْر، كان كمن طلَّقها في حيض، والرّابع: أنّه نهى عن طلاقها في الطُّهر ليطول مقامه معها؛ فلعلَّه يُجامعها، فيَذهَب ما في نفسه من سبب طلاقها فيُمسكها، والأخير هو الأَوْلى" [13].

«ثُمَّ» بعدما تَطهُر من الحَيضة الثانية، «إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ»؛ أي: إن شاء أمسكها في نكاحه، وإن شاء طلَّقها في الطُّهر الثاني قبل أن يُجامعَها، و"ذكروا أنّ له أن يطلِّقها في الطُّهر الّذي يلي الحيضة الّتي طلَّقها وراجعها فيها" [14].

وقوله: (قبل أن يمسَّها)؛ أي: قبل أن يُجامعها.

قوله: «فَتِلْكَ العِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ»؛ أي: فهذا الطُّهر هو زمن الشروع في العِدَّة التي أمر الله تعالى أن تُطلَّق فيها النساء.

"قوله: (فتلك العدَّة)؛ أي: هي العِدَّة الّتي أمر الله أن يطلَّق لها النّساء حيث قال:

﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾

[الطلاق: 1]" [15].

(وقرأ النبي : {يا أيها النبيُّ إذا طلَّقْتم النساءَ، فطلِّقوهن في قُبُلِ عدَّتِهنَّ})، وهي قراءة شاذَّة، لا تثبُتُ قرآنًا بالإجماع؛ حيث لم تتحقَّق فيها شروط القراءة المتواترة، فلا يُصلَّى بها؛ وإنما يجوز الاستئناس بها في فَهم القراءة الصحيحة، "ونُقلت هذه القراءة أيضًا عن أُبيٍّ وعثمان وجابر وعليِّ بن الحُسين وغيرهم... والمراد الأمر بحفظ ابتداء وقت العِدَّة؛ لئلّا يلتبس الأمر بطول العِدَّة فتتأذَّى بذلك المرأة" [16].

فالمعنى: فطلقوهن مستقبلات لعدتهن؛ أي: في الوقت الّذي يشرعن فيه في العدّة، وزمن الحيض لا يُحسَب من العِدَّة، فإذا طلّق فيه لم يقع طلاقه في الحال الّتي أمر الله بها، وهو استقبال العدّة والدّخول فيها، وهو أن يقع الطّلاق حال طُهرها، لا حال حَيضها؛ وذلك أنّها بالطُّهر تستطيع إحصاء عِدّتها، وهي ثلاثة قروء، والقُرء هو الطُّهر، وقيل: الحيض.

قوله: «ثُمَّ لِيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا»؛ أي: يجوز الطلاق سواء أكانت المرأة طاهرًا أم حاملًا.

و"اعلم أنّ الأحسن أن يطلِّق الرّجل امرأته تطليقةً واحدةً في طُهْر لم يجامعها فيه" [17].



المراجع

1. أخرجه أبو داود (2194) وابن ماجه (2039) والترمذيُّ (1184) وحسَّنه، وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح أبي داود – الأم" (6/ 397).

2. "فتح الباري" لابن حجر (9/ 346).

3. "فتح الباري" لابن حجر (9/ 346).

4. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (5/ 2134).

5. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العيني (19/ 244).

6. "المعلم بفوائد مسلم" للمازريِّ (2/ 183).

7.  "الإجماع" لابن المنذر (ص 79)، "شرح النوويِّ على مسلم" (9/ 315)، "المغني" لابن قدامة (10/ 234).

8. "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (6/ 264).

9. "شرح النووي على مسلم" (10/ 62).

10. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (7/ 380، 381).

11. "الاستذكار" لابن عبدالبر (6/ 142).

12.  "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (7/ 379).

13. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (5/ 2134).

14. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (5/ 2134).

15. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العيني (19/ 244).

16. "فتح الباري" لابن حجر (9/ 346).

17.  "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (5/ 2134).



النقول

قال ابن حجر رحمه الله: "الطَّلاق في اللّغة: حَلُّ الوَثاق، مشتَقٌّ من الإطلاق، وهو الإرسال والتَّرك، وفلانٌ طَلِق اليد بالخير؛ أي: كثير البذل. وفي الشَّرع: حلُّ عُقدة التَّزويج فقط، وهو موافق لبعض أفراد مدلوله اللُّغويِّ. قال إمام الحرمين: هو لفظ جاهليٌّ وَرَدَ الشَّرع بتقريره، وطَلَقَتِ المرأة، بفتح الطّاء، وضمّ اللّام، وبفتحها أيضًا، وهو أفصح، وطُلِّقت أيضًا، بضمِّ أوَّله وكسر اللّام الثّقيلة، فإن خُفِّفت فهو خاصٌّ بالولادة، والمضارع فيهما بضمّ اللّام، والمصدر في الولادة طَلْقًا ساكنة اللّام، فهي طالق فيهما، ثمّ الطّلاق قد يكون حرامًا أو مكروهًا أو واجبًا أو مندوبًا أو جائزًا، أمّا الأوّل، ففيما إذا كان بِدْعيًّا، وله صور، وأمّا الثَّاني، ففيما إذا وقع بغير سبب مع استقامة الحال، وأمّا الثّالثُ، ففي صور، منها الشِّقاق إذا رأى ذلك الحَكَمان، وأمّا الرّابعُ، ففيما إذا كانت غيرَ عفيفة، وأمّا الخامسُ، فنفاه النَّوويُّ، وصوَّره غيره بما إذا كان لا يُريدها ولا تطيب نفسه أن يتحمَّل مُؤْنتها من غير حصول غرض الاستمتاع، فقد صرَّح الإمام أنّ الطّلاق في هذه الصّورة لا يُكرَه قوله"[1].

قال الملا علي القاري رحمه الله: "(وعن عبد الله بن عمر أنّه طلّق امرأةً له وهي حائض): الجملة حاليَّة؛ أي: طلَّقها في حال حيضها، (فذكر عمر - رضي الله عنه - لرسول الله ﷺ)؛ أي: ما وقع منه، (فتغيَّظ فيه)؛ أي: غَضِب في شأنه (رسول الله ﷺ)، وفيه دليل على حُرمة الطّلاق في الحيض؛ لأنّه ﷺ لا يغضب بغير حرام، (ثمّ قال: ليُراجعها)؛ أي: ليَقُلْ: راجعتُها إلى نكاحي – مثلًا - لتدارك المعصية، وفيه دليل على وقوع الطّلاق مع كونه حرامًا، وعلى استحباب المراجعة. (ثمّ يمسكها حتّى تطهر)، قال ابن الهمام: وظهر من لفظ الحديث حيث قال: (يمسكها حتّى تطهر) أنّ استحباب الرّجعة أو إيجابها مقيَّد بذلك الحيض الذي أوقع فيه، وهو المفهوم من كلام الأصحاب إذا تؤمِّل، فعلى هذا إذا لم يفعل حتّى طَهُرت، تقرَّرت المعصية، (ثمّ تحيض فتطهر)، قال النّوويُّ: فإن قيل: ما فائدة التّأخير إلى الطُّهر الثّاني؟ فالجواب من أوجه؛ أحدها: لئلّا تصير الرّجعة لغرض الطّلاق، فوجب أن يُمسكها زمانًا كان يحلُّ له طلاقها، وإنّما أمسكها لمظهر فائدة في الرّجعة، وهنا جواب أصحابنا، الثّاني: أنّه عقوبة له، وتوبة من معصية باستدراك جنايته، والثّالث: أنّ الطُّهر الأوّل مع الحيض الّذي طلَّق فيه - كما مرَّ - واحد، فلو طلَّقها في أوَّل طُهْر، كان كمن طلَّقها في حيض، والرّابع: أنّه نهى عن طلاقها في الطُّهر ليطول مقامه معها؛ فلعلَّه يُجامعها، فيَذهَب ما في نفسه من سبب طلاقها فيُمسكها. اهـ. والأخير هو الأولى؛ لكنّ الأظهر أن يُقال: أُمِر بإمساكها في الطُّهر... إلخ، في الهداية: وإذا طَهُرت وحاضت ثمّ طَهُرت، فإن شاء طلَّقها، وإن شاء أمسكها. قال ابن الهمام: هذا لفظ القدوريِّ، وهكذا ذكر في الأصل، ولفظ محمَّد - رحمه الله تعالى -: فإذا طَهُرت في حيضة أخرى، راجعها، وذكر النّوويُّ أنّ له أن يطلِّقها في الطُّهر الّذي يلي الحيضة الّتي طلَّقها وراجعها فيها، قال الشّيخ أبو الحسن الكرخيُّ: ما ذكره الطّحاويُّ قول أبي حنيفة - رحمه الله - وما ذكره في الأصل قولهما، والظّاهر أنّ ما في الأصل قول الكلِّ؛ لأنّه موضوع لإثبات منصب أبي حنيفة - رحمه الله - إلّا أن يحكيَ الخلاف، ولم يحكِ خلافًا فيه؛ فلذا قال في الكافي: إنّه ظاهر الرّواية عن أبي حنيفة، وبه قال الشّافعيُّ في المشهور، ومالك وأحمد، وما ذكره الطّحاويُّ رواية عن أبي حنيفة، وهو وجه للشافعية، وجه المذكور في الأصل، وهو ظاهر المذهب لأبي حنيفة" [2].

قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "قوله: (فتغيَّظ)؛ أي: غَضِب فيه؛ لأن الطّلاق في الحيض بِدعة. قوله: (فإن بدا له)؛ أي: فإن ظهر له أن يطلِّقها، وكلمة (أن) مصدرية. قوله: (طاهرًا)؛ أي: حال كونها طاهرةً؛ وإنّما ذكره بلفظ التّذكير؛ لأن الطُّهر من الحيض من المختصَّات بالنساء، فلا يحتاج إلى التّاء، كما في الحائض. قوله: (قبل أن يمسَّها)؛ أي: قبل أن يُجامعها. قوله: (فتلك العدَّة)؛ أي: هي العِدَّة الّتي أمر الله أن يطلَّق لها النّساء حيث قال:

﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾

[الطلاق: 1]" [3].

قال النوويُّ رحمه الله: "وفي قوله ﷺ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا» دليلٌ على أن الرَّجْعَةَ لا تفتقر إلى رضا المرأة، ولا وَلِيِّها، ولا تجديد عَقْدٍ، والله أَعْلَمُ" [4].

قال ابن بطال رحمه الله: "وأجمعوا أنه من طلَّق امرأته طاهرًا في طُهر لم يمسَّها فيه أنه مُطلِّق للسُّنَّة، والعِدَّة التي أمر الله تعالى بها، وأن له الرجعةَ إذا كانت مدخولاً بها قبل أن تنقضيَ العِدَّة، فإذا انقضت، فهو خاطب من الخطَّاب. وذهب مالك، وأبو يوسفَ، والشافعيُّ، إلى ما رواه نافع، عن ابن عمر، فقالوا: من طلَّق امرأته حائضًا أنه يُراجعها، ثم يُمسِكها حتى تَطهُر، ثم تَحيض، ثم تَطهُر، ثم إن شاء طلَّق قبل أن يمسَّ، وإن شاء أمسك. وذهب أبو حنيفة وأكثر أهل العراق إلى ما رواه يونس بن جبير، وسعيد بن جبير، عن ابن عمر في هذا الحديث، قالوا: يُراجعها، فإذا طَهُرت طلَّقها إن شاء، وإلى هذا ذهب المزنيُّ. وقالوا: إنما أمر المطلِّق في الحيض بالمراجعة؛ لأن طلاقه ذلك أخطأ فيه السُّنَّة، أمر بمراجعتها ليُخرجها من أسباب الخطأ، ثم يتركها حتى تطهر من تلك الحيضة، ثم يطلِّقها إن شاء طلاقًا صَوَابًا، ولم يَرَوا للحيضة الثانية بعد ذلك معنى. وأما مالك، وأبو يوسف، والشافعيُّ، فقالوا: للطهر الثاني والحيضة الثانية معانٍ صحيحةٌ، منها أنه لَمَّا طلَّق في الموضع الذي نُهِيَ عنه، أُمِر بمراجعتها ليُوقع الطلاق على سُنَّته، ولا يطول في العِدَّة على امرأته، فلو أُبيح له أن يطلِّقها إذا طَهُرت من تلك الحيضة، كانت في معنى المطلَّقة قبل البناء، لا عدَّة عليها، ولابدَّ لها أن تبنيَ على عدَّتها الأولى، فأراد الله على لسان نبيِّه أن يقطع حكم الطلاق الأول بالوطء؛ لئلا يُراجعها على نيَّة الفراق حتى يعتقد إمساكها ولو طُهرًا واحدًا، فإذا وَطِئها في طُهر، لم يتهيَّأ له أن يطلِّقها فيه؛ لأنه قد نهى أن يطلِّقها في طُهْر قد مسَّها فيه حتى تَحِيض بعده ثم تَطهُر، فإذا طلَّقها بعد ذلك، استأنفت عدَّتها من ذلك الوقت ولم تَبْنِ. وقالوا: إن الطُّهر الثانيَ جُعِل للإصلاح الذى قال الله تعالى:

﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِى ذَٰلِكَ إِنْ أَرَادُوٓا إِصْلَٰحًا ۚ﴾

[البقرة: 228]؛

لأن حق المرتجع ألا يرتجع رجعة ضرار؛

لقوله تعالى:

﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا ۚ﴾

[البقرة: 231]،

قالوا: فالطُّهر الأول فيه الإصلاح بالوطء، ولا تُعلَم صحَّة المراجعة إلا بالوطء؛ لأنه الْمُبتَغى بالنكاح والمراجعة في الأغلب، فكان ذلك الطُّهر مرادًا للوطء الذى تُستيقَن به المراجعة. فإذا مسَّها لم يكن له سبيل إلى طلاقها في طُهر قد مسَّها فيه؛ للنهي عن ذلك، ولإجماعهم على أنه لو فعل ذلك كان مطلِّقًا لغير العدَّة، فقيل له: دَعْها حتى تحيض أخرى ثم تَطهُر، ثم تطلِّق إن شئتَ قبل أن تمسَّ"، وقد جاء هذا المعنى منصوصًا عن ابن عمر، أنه طلَّق امرأته وهى في دمها حائض، فأمره رسول الله ﷺ أن يُراجعها، فإذا طَهُرت مسَّها، حتى إذا طَهُرت أخرى، فإن شاء طلَّقها، وإن شاء أمسكها. قالوا: ولو أُبيح له أن يطلِّقها بعد الطُّهر من تلك الحيضة، كان قد أُمر أن يراجعها ليطلِّقها، فأشبه النكاحَ إلى أجل، أو نكاح الْمُتْعة، فلم يجعل له ذلك حتى يطأ" [5].

قال ابن عبدالبرِّ رحمه الله: "واختلفوا في أمر رسول الله ﷺ المطلِّقَ في الحيض بالرَّجعة،

فقال قوم: عُوقِب بذلك لأنّه تعدَّى ما أمر الله به ولم يطلِّق للعِدَّة، فعوقِب بإمساك من لم يُرِدْ إمساكه حتِّى يطلِّق كما أُمِر للعِدَّة، وقال آخرون: إنّما أُمِر بذلك قطعًا للضَّرر في التّطويل عليها؛ لأنّه إذا طلَّقها في الحيض، فقد طلَّقها في وقت لا تَعْتدُّ به من قُرْئها الذي تعتدُّ به، فتَطُول عِدَّتها، فنُهِيَ أن يطوِّل عليها، وأُمِر ألّا يطلِّقها إلا عند استقبال عِدَّتها، وكذلك كان ابن عمر يقرأ: {فطلّقوهنّ لقُبُلِ عِدّتهنّ}، وفي أمر رسول الله ﷺ عبدَالله بن عمرَ بمراجعة امرأته الّتي طلَّقها حائضًا دليلٌ يبيِّن على أنّ الطّلاق في الحيض واقع لازم؛ لأنّ المراجعة لا تكون إلّا بعد صحَّة الطّلاق ولُزومه، ولو لم يكن الطّلاق واقعًا لازمًا، ما قال: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا»؛ لأنّ من لم يطلِّق، لا يُقال له: راجِعْ؛ لأنّه مُحالٌ أن يُقال لرجل امرأتُه في عِصمته لم يُفارقها: راجعْها؛ بل كان يُقال له: طلاقُك لم يصنع شيئًا، وامرأتك بعدَه كما كانت قبلَه، ونحو هذا؛ ألا ترى أنّ الله - عزّ وجلّ - قال في المطلّقات

﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِى ذَٰلِكَ﴾

[البقرة: 228]؛

يعني: في العِدَّة، وهذا لا يستقيم أن يكون مثلُه في الزّوجات غير المطلَّقات، وعلى هذا فقهاء الأمصار، وجمهور علماء المسلمين، وإن كان الطّلاق عند جميعهم في الحيض مكروهًا بِدْعةً غيرَ سُنَّة، ولا يخالف الجماعة في ذلك إلّا أهل البِدَع والجَهل الذين يَرَون الطّلاق لغير السُّنَّة غير واقع، ولا لازم، وقد رُوِي ذلك عن بعض التّابعين، وهذا شذوذ لم يعرِّج عليه أحد من أهل العلم" [6].

قال ابن بطال رحمه الله: "واختلف العلماء في معنى قوله - عليه السلام -: (مُرْهُ فليراجعها)، فقال مالك: هذا الأمر محمول على الوجوب، ومن طلَّق زوجته حائضًا أو نُفَساءَ، فإنه يُجبَر على رجعتها، فسوَّى دَمَ النِّفاس بدم الحيض. قال مالك وأكثر أصحابه: يُجبَر على الرجعة في الحيضة التي طلَّق فيها، وفى الطُّهر بعدها، وفى الحيضة بعد الطُّهر، وفى الطُّهر بعدها، ما لم تنقضِ عِدَّتها، إلا أشهبَ، فإنه قال: يُجبَر على رجعتها في الحيضة الأولى خاصَّة، فإذا طَهُرت منها، لم يُجبَر على رجعتها. قال ابن أبى ليلى، وهو قول الكوفيين، والأوزاعيِّ، والشافعيِّ، وأحمدَ، وإسحاق، وأبى ثور: يؤمر برجعتها، ولا يُجبَر على ذلك، وحملوا الأمر في ذلك على الندب ليقع الطلاق على سُنَّة، ولم يختلفوا أنها إذا انقضت عِدَّتها أنه لا يُجبَر على رجعتها، فدلَّ على أن الأمر بمراجعتها نَدْب. وحُجَّة من قال: يُجبَر على رجعتها قوله ﷺ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا»، وأمرُه فَرْض، وأجمعوا أنه إذا طلَّقها في طُهر قد مسَّها فيه أنه لا يُجبَر على رجعتها، ولا يؤمَر بذلك، وإن كان قد أوقع الطلاق على غير سُنَّته" [7].

قال ابن القيم رحمه الله: " أما قوله: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا»، فالمراجعة قد وقعت في كلام الله ورسوله على ثلاثة معان؛ أحدها: ابتداء النكاح؛

كقوله تعالى:

﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُۥ ۗ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ ۗ﴾

[البقرة: 230]

ولا خلاف بين أحد من أهل العلم بالقرآن أن المطلِّق هاهنا هو الزوج الثاني، وأن التراجع بينها وبين الزوج الأول، وذلك نكاح مبتدأ. وثانيهما: الردُّ الحسيُّ إلى الحالة التي كان عليها أوَّلًا؛ كقوله ﷺ لأبي النعمان بنِ بَشير لَمَّا نَحَل ابنه غلامًا خصَّه به دون ولده: «رُدَّهُ»، فهذا ردُّ ما لم تصحُّ فيه الهِبَة الجائرة التي سمَّاها رسول الله ﷺ جورًا، وأخبر أنها لا تَصلُح، وأنها خلاف العدل، ومن هذا قوله ﷺ لمن فرَّق بين جارية ووَلَدها في البيع، فنهاه عن ذلك، وردَّ البيع، وليس هذا الردُّ مستلزمًا لصحَّة البيع؛ فإنه بيعٌ باطل؛ بل هو ردُّ شيئين إلى حالة اجتماعهما كما كانا، وهكذا الأمر بمراجعة ابن عمرَ امرأتَه، ارتجاعٌ وردٌّ إلى حالة الاجتماع كما كانا قبل الطلاق، وليس في ذلك ما يقتضي وقوع الطلاق في الحيض البتَّةَ" [8].

قال أحمد شاكر رحمه الله: "ومما احتجَّ به مخالفونا أن زعموا أن قوله: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا» دليل على وقوع الطلاق في الحيض، وهو دليلٌ غير قائم؛ لأن المراجعة هنا المراد بها المعنى اللُّغويُّ للكلمة، وأما استعمالها في مراجعة المطلَّقة الرَّجعية، فإنما هو اصطلاح مستحدَث بعد عصر النبوَّة، ولم تُستعمَل بهذا المعنى في القرآن أصلاً؛ بل استُعمِل الردُّ والإمساك فقط:

﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِى ذَٰلِكَ﴾

[البقرة: 228]،

فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ

[الطلاق: ٢]،

﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا ۚ﴾

[البقرة: 231].

وأما المراجَعة، فإنها استُعمِلت في القرآن في غير هذا المعنى الاصطلاحيِّ؛ استُعملت في المطلَّقة الطلقة الثالثةَ إذا تزوَّجت آخَرَ وطلَّقها، ثم تعود بنكاح جديد إلى زوجها الأول: 

﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُۥ ۗ ﴾

[البقرة: 230]،

﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ﴾

[9].

قال ابن حجر رحمه الله: "وقوله: (لعدّتهنّ)؛ أي: عند ابتداء شروعهنّ في العِدَّة، واللّام للتَّوقيت؛ كما يُقال: لَقِيته لِلَيْلةٍ بَقِيَت من الشّهر. قال مجاهد في

قوله تعالى:

﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾

[الطلاق: 1]،

قال ابن عبَّاس: "في قُبل عدَّتهنَّ" أخرجه الطّبريُّ بسند صحيح، ومن وجه آخَرَ أنّه قرأها كذلك، وكذا وقع عند مسلم من رواية أبي الزُّبير عن ابن عمر في آخر حديثه، قال ابن عمر: "وقرأ رسول الله ﷺ: {يا أيها النبيُّ إذا طلَّقْتم النساءَ، فطلِّقوهن في قُبُلِ عدَّتِهنَّ}"، ونُقلت هذه القراءة أيضًا عن أُبيٍّ وعثمان وجابر وعليِّ بن الحُسين وغيرهم... والمراد الأمر بحفظ ابتداء وقت العِدَّة؛ لئلّا يلتبس الأمر بطول العِدَّة فتتأذَّى بذلك المرأة" [10].

قال المازريُّ رحمه الله: "الطلاق في الحيض محرَّمٌ؛ ولكنه إن وَقَع، لَزِم" [11].

قال ابن عبدالبرِّ رحمه الله: "واختلف العلماء فيمن طلّق زوجته حائضًا، هل يُجبَر على رجعتها إن أبى ذلك؟ فقال مالك وأصحابه: يُجبَر على رجعتها إذا طلَّقها، وفي الحيض أو في دم النِّفاس حملوا الأمر وذلك على الوجوب، وقاسوا النِّفاس على الحيض. وقال الشّافعيُّ وأبو حنيفة وأصحابُه، والثوريُّ، والأوزاعيُّ، وابن أبي ليلى، وأحمدُ بنُ حنبلٍ، وإسحاقُ، وابن شبرمة، وأبو ثور، والطّبريُّ: يؤمر برجعتها، ولا يُجبَر على ذلك. وقال داود: كلُّ من طلَّق امرأته حائضًا، واحدةً أو اثنتين، أُجبر على رجعتها، وإن طلَّقها نُفَساءَ، لم يُجبَر على رجعتها. قال أبو عمر: لم يختلفوا أنّها إذا انقضت عِدَّتها، لم يُجبَر على رجعتها، فدلَّ ذلك على أنّ الأمر بمراجعتها ندبٌ، والله أعلم. وقال مالك وأكثر أصحابه: يُجبَر المطلِّق في الحيض على الرَّجعة في الحيضة التي طلَّق فيها، وفي الطُّهر بعدها، وفي الحيضة بعد الطُّهر، وفي الطُّهر بعدها، ما لم تنقضِ عِدَّتها، إلّا أشهبَ بنَ عبد العزيز، قال: يُجبَر على الرّجعة في الحيضة الأولى، ما لم تَطهُر منها، فإذا صارت في حال يجوز له طلاقها فيه، لم يُجبَر على رجعتها، ولم يختلف مالك وأصحابه أنّه لا يطلِّقها في الطُّهر الأوَّل؛ لأنّه يمسُّها فيه، فإذا حاضت بعده ثمَّ طَهُرت، طلَّقها إن شاء. وأجمع العلماء أنّه إذا طلَّقها في طُهْر لم يمسَّها فيه، لم يُجبَر على رجعتها، ولم يؤمر بذلك، وإن كان طلاقه قد وقع على غير سُنَّة؛ وإنّما يُجبَر ويؤمر إذا طلَّقها حائضًا" [12].

قال الملا علي القاري رحمه الله: "(فإن بدا): بالألف؛ أي: ظَهَر به (أن يطلِّقها فليطلِّقها طاهرًا قبل أن يمسَّها)؛ أي: يُجامعها، فيه إشارة إلى قوله تعالى جلَّ شأنه:

﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾

[الطلاق: 1].

(فتلك العِدَّة): المشار إليها عندنا حالة الحيض، وعند الشّافعيّة حالة الطُّهر، (الّتي أمر الله أن تطلَّق لها النّساء)، قيل: اللّام في (لها) بمعنى: (في)، فتكون حُجّةً لما ذهب إليه الشّافعيُّ من أنّ العِدَّة بالأطهار، إذ لو كانت بالحيض، يلزم أن يكون الطّلاق مأمورًا به فيه، وليس كذلك، وأُجيب بأنّا لا نسلِّم أنّ اللّام هنا بمعنى (في)؛ بل للعاقبة؛

كما في قوله تعالى:

﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾

[الطلاق: 1]،

وفي رواية: (مُرْهُ) الخِطَاب لعمر، والضّمير لابنه، (فليراجعها ثمّ ليطلّقها طاهرًا أو حاملًا): قال النّوويُّ: فيه دليل على أنّ الرّجعة لا تفتقر إلى رضا المرأة ولا وَلِيِّها، قلت: وجه الدّلالة خفيٌّ كما لا يخفى، والأظهر الاستدلال

بقوله تعالى:

﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِى ذَٰلِكَ﴾

[البقرة: 228]

قال الطِّيبيُّ: دلَّ على اجتماع الحيض والحبل، وقيل: الحامل إذا كانت حائضةً، حلَّ طلاقها؛ إذ لا تطويل للعِدَّة في حقِّها؛ لأنّ عِدَّتها بوضع الحمل. اهـ. وعندنا أنّ الحامل لا تحيض، وما رأته من الدّم فهو استحاضة، ثمّ اعلم أنّ الأحسن أن يطلِّق الرّجل امرأته تطليقةً واحدةً في طُهْر لم يجامعها فيه، ولا في الحيض الّذي قبله ولم يطلِّقها، والأحسن أن يطلِّق المدخولَ بها ثلاثًا في ثلاثة أطهار، وقال مالك: هذه بدعة، ولا يُباح إلّا واحدة؛ فإنّ الأصل في الطّلاق هو الحظر، والإباحة لحاجة الخلاص وقد اندفعت" [13].

قال ابن حجر رحمه الله: "وقد قسَّم الفقهاء الطّلاق إلى سُنِّيٍّ وبِدْعيٍّ، وإلى قسم ثالث لا وصفَ له؛ فالأوَّل ما تقدَّم، والثّاني: أن يطلِّق في الحيض، أو في طُهْر جامعها فيه، ولم يتبيَّن أمرها، أحملت أم لا؟ ومنهم من أضاف له أن يزيد على طلقة، ومنهم من أضاف له الخلع، والثّالث: تطليق الصّغيرة والآيسة والحامل الّتي قربت ولادتها، وكذا إذا وقع السُّؤال منها في وجه، بشرط أن تكون عالمةً بالأمر، وكذا إذا وقع الخُلع بسؤالها، وقلنا: إنّه طلاق، ويُستثنى من تحريم طلاق الحائض صور، منها: ما لو كانت حاملًا ورأت الدَّمَ، وقلنا: الحامل تحيض، فلا يكون طلاقها بِدعيًّا، ولا سيَّما إن وقع بقُرب الولادة، ومنها إذا طلَّق الحاكم على الْمُولِي، واتَّفَق وقوع ذلك في الحيض، وكذا في صورة الحَكَمَين إذا تعيَّن ذلك طريقًا لرفع الشِّقاق، وكذلك الخُلع، والله أعلم" [14].

قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "ويُستنبَط منه أحكام؛ الأول: أن طلاق السُّنَّة أن يكون في طُهر، وهذا باب اختلفوا فيه. فقال مالك: طلاق السُّنَّة أن يطلِّق الرجل امرأته في طُهْر لم يمسَّها فيه تطليقة واحدة، ثمّ يتركها حتّى تنقضيَ العِدَّة برؤية أول الدَّم من الحيضة الثالثة، وهو قول اللّيث والأوزاعيِّ، وقال أبو حنيفة - رضي الله تعالى عنه - هذا أحسن من الطّلاق، وله في قول آخر قال: إذا أراد أن يطلِّقها ثلاثًا، طلَّقها عند كلِّ طُهْر واحدةً من غير جِماع، وهو قول الثّوريِّ وأشهبَ، وزعم المرغينانيُّ: أن الطّلاق على ثلاثة أوجه عند أصحاب أبي حنيفة: حسن، وأحسنُ، وبِدْعيٌّ، فالحَسَن هو طلاق السُّنَّة، وهو أن يطلِّق المدخولَ بها ثلاثًا في ثلاثة أطهار، والأحسنُ أن يطلِّقها تطليقة واحدة في طُهْر لم يجامعها فيه، ويتركها حتّى تنقضيَ عِدَّتها، والبِدْعيُّ أن يطلِّقها ثلاثًا بكلمة واحدة، أو ثلاثًا في طُهْر واحد، فإذا فعل ذلك، وقع الطّلاق، وكان عاصيًا.

وقال عياض: اختلف العلماء في صفة الطّلاق السُّنِيِّ، فقال مالك وعامَّة أصحابه: هو أن يطلِّق الرجل امرأته تطليقة واحدة في طُهْر لم يمسَّها فيه، ثمّ يتركها حتّى تُكمل عِدَّتها، وبه قال اللّيث والأوزاعيُّ، وقال أبو حنيفة وأصحابه: هذا أحسن الطّلاق، وله قول آخَرُ: إنّه إن شاء أن يطلِّقها ثلاثًا، طلَّقها في كلِّ طُهْر مرَّةً، وكلاهما عند الكوفيِّين طلاق سُنَّة، وهو قول ابن مسعود، واختلف فيه قول أشهبَ، فقال مثله مرَّةً، وأجاز أيضا ارتجاعها، ثمّ يطلِّق، ثمّ يرتجع، ثمّ يطلِّق، فيتمُّ الثّلاث. وقال الشّافعيُّ وأحمد وأبو ثور: ليس في عدد الثّلاثة سُنَّة ولا بدعة؛ وإنّما ذلك في الوقت.

الثّاني: في قوله: (ليراجعها) دليل على أن الطّلاق غير البائن لا يحتاج إلى رضا المرأة.

الثّالث: فيه دليل على أن الرّجعة تصحُّ بالقول، ولا خلاف في ذلك، وأما الرّجعة بالفعل، فقد اختلفوا فيها. فقال عياض: وتصحُّ عندنا أيضًا بالفعل الحالِّ محلَّ القول الدالِّ في العبارة على الارتجاع؛ كالوطء والتقبيل واللمس، بشرط القصد إلى الارتجاع به، وأنكر الشّافعيُّ صحة الارتجاع بالفعل أصلًا، وأثبته أبو حنيفة، وإن وقع من غير قصد، وهو قول ابن وهب من أصحابنا في الواطئ من غير قصد.

والرّابع: استدلَّ به أبو حنيفة أن من طلَّق امرأته وهي حائض، فقد أَثِم، وينبغي له أن يُراجعها، فإن تركها تمضي في العِدَّة، بانت منه بطلاق.

الخامس: أن فيه الأمرَ بالمراجعة، فقال مالك: هذا الأمر محمول على الوجوب، ومن طلَّق زوجته حائضًا أو نُفَساءَ، فإنّه يُجبَر على رجعتها، فسوَّى دم النّفاس بدم الحيض، وقال أبو حنيفة وابن أبي ليلى والشّافعيُّ والأوزاعيُّ وأحمدُ وإسحاق وأبو ثور: يؤمر بالرجعة ولا يُجبَر، وحملوا الأمر في ذلك على النّدب؛ ليَقَع الطّلاق على السُّنَّة، ولم يختلفوا في أنّها إذا انقضت عِدَّتها، لا يُجبَر على رجعتها، وأجمعوا على أنه إذا طلَّقها في طُهْر قد مسَّها فيه، لا يُجبَر على رجعتها، ولا يؤمر بذلك، وإن كان قد أوقع الطّلاق على غير سُنَّة.

السّادس: أن الطّلاق في الحيض محرَّم؛ ولكنه إن أُوقِع لَزِم، وقال عياض: ذهب بعض النّاس ممّن شذَّ أنه لا يقع الطّلاق. فإن قلتَ: ما الحكمة في منع الطّلاق في الحيض؟ قلت: هذه عبادة غير معقولة المعنى، وقيل: بل هو مُعالٌّ بتطويل العِدَّة" [15].

قال ابن بطال رحمه الله: "واختلفوا في صفة طلاق السُّنَّة، فقال مالك: هو أن يطلِّق الرجل المرأة تطليقةً واحدة في طُهر لم يمسَّها فيه، ثم يَترُكها حتى تنقضيَ العِدَّة برؤية الدم من أول الحيضة الثالثة، وهو قول الليث والأوزاعيِّ. وقال أبو حنيفة وأصحابه: هذا حَسَن في الطلاق، وله قول آخَرُ، قال: إذا أراد أن يطلِّقها ثلاثًا، طلَّقها عند كلِّ طُهْر واحدةً من غير جِماع، وهو قول الثوريِّ، وأشهبَ صاحبِ مالك. وقال: من طلَّق امرأته في طُهْر لم يمسَّها فيه طلقةً واحدة، ثم إذا حاضت وطَهُرت طلَّقها أخرى، ثم إذا حاضت وطَهُرت، طلَّقها ثالثة، فهو مطلِّق للسُّنَّة، وكلا القولين عند الكوفيين طلاق سُنَّة، قالوا: لَمَّا كان الطلاق للسُّنَّة في طُهْر لم تمسَّ فيه، وكانت الزوجة الرجعية تلزمها ما أَردَفه من الطلاق في عِدَّتها بإجماع، كان له أن يوقِع في كُلِّ طُهْر لم تُمَسَّ فيه طلقة؛ لأنها زوجة مطلَّقة في طُهْر لم تمسَّ فيه، وقد رُوِي هذا القول عن ابن مسعود أنه طلاق للسُّنَّة. وليس هو عند مالك وسائر أصحابه مطلِّقًا للسُّنَّة، وكيف يكون مطلِّقًا للسُّنَّة، والطلقة الثانية لا يكون بعدها إلا حيضتان، والطلقة الثالثة لا يكون بعدها إلا حيضة واحدة، وهذا خلاف السُّنَّة في العدَّة؟ ومن طلَّق كما قال مالك، شَهِد له الجميع بأنه طلَّق للسُّنَّة. وقال النَّخَعيُّ: بَلَغنا عن أصحاب رسول الله ﷺ أنهم كانوا يستحبُّون ألَّا يزيدوا في الطلاق على واحدة حتى تنقضيَ العِدَّة. وقال الشافعيُّ، وأحمد، وأبو ثور: ليس في عدد الطلاق سُنَّة ولا بدعة؛ وإنما السُّنَّة في وقت الطلاق، فمن طلَّق امرأته واحدة أو اثنتين أو ثلاثًا في طُهْر لم يمسَّها فيه، فهو مطلِّق للسُّنَّة، وحُجَّتهم

قوله تعالى:

﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾

[الطلاق: 1]،

ولم يخصَّ واحدة من اثنتين ولا ثلاثة، وكذلك أَمر ابن عمر بالطلاق في القُرْء الثاني، ولم يخصَّ واحدة من غيرها. ومن جهة النظر أن من جاز له أن يوقع واحدة، جاز له أن يوقع ثلاثًا، وإنما السُّنَّة وردت في الموضع الذى يُخشى فيه الحَمل أو تَطُول فيه العِدَّة، فإذا كان طُهْر لم يمسَّها فيه، أُمِن فيه الحمل، وجاز أن يوقِع ما شاء من الطلاق في ذلك الموضع، فيُقال لهم:

قوله تعالى:

﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾

[الطلاق: 1]،

المراد منه أن لا يطلِّق في الحَيض، وكذلك حديث ابن عمر، وليس في الآية والحديث ما يتضمَّن العدد، وكيف يوقع العدد؟ مأخوذ من دليل آخَرَ" [16].

قال الصنعانيُّ رحمه الله: "وإذا عرفتَ أنّه مأمور منه ﷺ بالمراجعة، فهل الأمر للوجوب، فتجب الرّجعة أم لا؟ ذهب إلى الأوّل مالك، وهو رواية عن أحمد، وصحَّح صاحب الهداية من الحنفيّة وجوبها، وهو قول داود، ودليلُهم الأمر بها، قالوا: فإذا امتنع الرّجل منها، أدَّبه الحاكم، فإن أصرَّ على الامتناع، ارتجع الحاكم عنه، وذهب الجمهور إلى أنّها مستحبَّة فقط، قالوا: لأنّ ابتداء النّكاح لا يجب، فاستدامته كذلك، فكان القياس قرينةً على أنّ الأمر للنَّدب، وأُجيب بأنّ الطّلاق لَمَّا كان محرَّمًا في الحيض، كان استدامة النّكاح فيه واجبةً، وفي قوله: (حتّى تطهر ثمّ تحيض ثمّ تطهر) دليل على أنّه لا يطلِّق إلّا في الطُّهر الثّاني دون الأوّل، وقد ذهب إلى تحريم الطّلاق فيه مالك، وهو الأصحُّ عند الشّافعيّة، وذهب أبو حنيفة إلى أنّ الانتظار إلى الطُّهر الثّاني مندوب، وكذا عن أحمد مستدلِّين بقوله: (وفي رواية لمسلم)؛ أي: عن ابن عمر: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثمّ ليطلّقها طاهرًا أو حاملًا» فأطلق الطُّهر، ولأنّ التّحريم إنّما كان لأجل الحيض، فإذا زال، زال موجب التّحريم، فجاز طلاقها في هذا الطُّهر كما جاز في الذي بعده، وكما يجوز في الطُّهر الّذي لم يتقدَّمْه طلاق في حيضة، ولا يخفى قُرب ما قالوه. وفي قوله: (قبل أن يمسَّ) دليل على أنّه إذا طلَّق في الطُّهر بعد المسِّ، فإنّه طلاق بِدْعيٌّ محرَّم، وبه صرَّح الجمهور، وقال بعض المالكيّة: إنّه يُجبَر على الرّجعة فيه كما إذا طلَّق وهي حائض" [17]. 

قال الشوكانيُّ رحمه الله: "واتَّفقوا على أنّه لو طلَّق قبل الدُّخول وهي حائض، لم يؤمَر بالمراجعة إلّا ما نُقِل عن زُفَر، وحكى ابن بطَّال وغيره الاتِّفاق إذا انقضت العِدَّة أنّه لا رجعة، والاتّفاق أيضًا على أنّه إذا طلَّقها في طُهْر قد مسَّها فيه، لم يؤمَرْ بالمراجعة، وتعقَّب الحافظ ذلك بثبوت الخلاف فيه؛ كما حكاه الحنَّاطيُّ من الشّافعية وجهًا" [18].


المراجع

1. "فتح الباري" لابن حجر (9/ 346).

2.  "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (5/ 2134).

3. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العيني (19/ 244).

4. "شرح النووي على مسلم" (10/ 62).

5. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (7/ 377 - 379).

6. "الاستذكار" لابن عبدالبر (6/ 141، 142).

7. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (7/ 380، 381).

8. "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 208).

9. "نظام الطلاق في الإسلام" لأحمد شاكر (ص 23).

10. "فتح الباري" لابن حجر (9/ 346)

11. "المعلم بفوائد مسلم" للمازريِّ (2/ 183).

12. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (5/ 2134).

13. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (5/ 2134).

14. "فتح الباري" لابن حجر (9/ 346، 347).

15. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العيني (19/ 244، 245).

16. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (7/ 381، 382).

17. "سبل السلام" للصنعانيِّ (2/ 249).

18. "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (6/ 264).





مشاريع الأحاديث الكلية