36 - لا يعلم الغيب إلا الله تعالى

عن عبد الله بنِ عمرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ:«مَفَاتِحُ الغَيْبِ خَمْسٌ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ:لا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلَّا اللَّهُ،وَلاَ يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ إِلَّا اللَّهُ،وَلاَ يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِي المَطَرُ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ،وَلا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ،وَلا يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا اللَّهُ» 

عناصر الشرح

المعنى الإجماليُّ للحديث

يروي عبد الله بن عمرَ عن رَسُول اللَّهِ  أنه قَالَ: «مَفَاتِحُ الغَيْبِ خَمْسٌ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ»؛ أي: هناك أمورٌ خمسة استأثر الله بعلمها، ولم يُطلِع عليها أحدًا من خَلقِه، لا نبيًّا مرسَلًا، ولا مَلَكًا مقرَّبًا، وهي: «لا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلَّا اللَّهُ»؛ أي: لا يعلم يقينًا ما سيَحدُث غدًا إلا اللهُ تعالى. «وَلاَ يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ إِلَّا اللَّهُ»؛ أي: لا يَعلَم إلا اللهُ ما تغيض الأرحام من الدم الذي ينزل على المرأة الحامل، أو السَّقْط الناقص للأجنَّة قبل تمام خَلْقِها، وكذلك ما في الأرحام عمومًا. «وَلاَ يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِي المَطَرُ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ، وَلا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، وَلا يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا اللَّهُ»؛ أي: ولا يعلم أحدٌ إلا الله متى ينزل المطر، ولا أين يموت، ولا متى يوم القيامة؟

الشرح المفصَّل للحديث:

في هذا الحديث يُخبرنا رسول الله ﷺ عن الأمور الغَيبية التي استأثر الله تعالى بعلمها دون البشر، وذكر الحديثُ خمسةً، وقد استأثر الله تعالى بعلم هذه الأشياء لحِكمٍ ظاهرة؛ فقد تحدَّث الله تعالى في أكثرَ من آية عن اختصاصه بعلم الغيب؛

فقال تبارك وتعالى:

 ﴿قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ 

[النمل: 65]،

وقال جلَّ وعلا:

 ﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا * كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا﴾

[مريم: 77-80]،

وقال سبحانه:

 ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا﴾ 

[الجن: 26، 27]،

 وقال جلَّ جلاله: ﴿وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ﴾ 

[يونس: 20]،

وقال عزَّ وجلَّ مخاطبًا رسوله ﷺ:

 ﴿قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ 

[الأعراف: 188].

والغيب خمسةُ أمور:

أولًا: علم الساعة: أي: عِلْمُ موعد يوم القيامة، وقد حاول عدد من المدَّعين على مدار الزمان أن يحدِّدوا موعد يوم القيامة تحديدًا دقيقًا، ووضعوا مواعيدَ محدَّدةً بدقَّة، مرَّةً من خلال الحروف المقطَّعة في أوائل السور وحساب الجُمَّل، ومرَّةً بالأبراج، ومرَّت هذه المواعيد دون أن تقوم القيامة، ومن المضحِك أنه صدَّقهم مَن لا عقلَ لهم، وباعوا ممتلكاتِهم، وأوقفوا أعمالهم، منتظِرين القيامة!

ثانيًا: الغَيث: وهو الْمَطَر المقدَّر بقدَرٍ دقيق؛ بحيث لا يَزيد فيُهلِك الحرث والنَّسْلَ، ولا يَقِلُّ فلا تستفيد منه الأرض ولا الزرع ولا الإنسان ولا الحيوان، ولا ينزل في أرض لا تُمسِكه، فيذهب هَبَاءً دون أن يستفيد منه أحد، وقد عبَّر الله تعالى بلفظ الغَيث ولم يعبِّر بلفظ الْمَطر؛ لأن المطر لم يُذكَر في القرآن إلَّا في العذاب، فهو لا ينزل إلا في الهلاك؛

قال تعالى:

﴿وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِۚ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا ۚ بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا﴾

[الفرقان: 40].

ثالثًا: عِلْم ما في الأرحام: ومن علم الغَيب عِلْمُ ما في الأرحام؛ أذكرٌ أم أنثى؟ وفي آية أخرى وضَّحت المعنى أكثرَ؛

قال تعالى:

﴿اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ ۖ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ﴾

[الرعد: 8]،

وحتى وقتٍ قريب كان علم ما في الأرحام غَيبًا لا يختلف في ذلك أحدٌ، حتى ظهرت الأجهزة الحديثة، وعُرف من خلالها نوع الجَنين، وحَسِب قليلو العلم بقدرة الله تعالى أنهم عَلِموا الغَيب، وليس الأمرُ كذلك؛ فالتحدِّي في معرفة ما تَغِيض الأرحام، وهو ما يتكوَّن فيها في ثلاثة الأسابيع الأولى، وهو ما يَعجِز عن معرفته الإنسان حتى الآن. والتحدِّي أيضًا في معرفة مدَّة الحمل، تسعة أشهر أم سبع؟ كما أنهم علموا ما في بطن أنثى الإنسان؛ فكيف بما في أرحام كلِّ نوع من أنواع الأنثى على الأرض في وقت واحد؟! تعالى الله علوًّا كبيرًا.

رابعًا: الكسب: استأثر الله تعالى بعلم ما يَكسِبه الإنسان في غَدِه من رزق ومن عمل، ولم يدَّعِ أحدٌ معرفة ذلك حتى الآن كما ادَّعَوْا في أمر الأرحام.

خامسًا: مكان الموت: استأثر الله تعالى بمعرفة مكان موت الإنسان وزمانه.

وهذه الخمسة قيل: هي على سبيل التمثيل وليست للحصر، وقيل: بل هي للحصر إذا اتَّسَعنا في المعنى؛ ليكون كلٌّ منها يُشير إلى عالم واسع من الغَيبيات، فالأرحام تشير إلى عالم النفس والأرواح، والْمَطَرُ يُشير إلى أمور العالم العُلويِّ، والموت يشير إلى أمور العالم السُّفليِّ أو المكان، وما في غدٍ يشير إلى عالم الزمان، والساعة تشير إلى الآخرة [1]

ويمكِن تقسيم الغيب إلى أنواع وتقسيمات [2]؛ فمن حيث الزمانُ، يُقسَّم إلى ثلاثة أقسام؛ أحدها: غيب الماضي: كخلق السماوات والأرض والإنسان، وقصص الأمم السابقة. وثانيها: غيب الحاضر: مثل ما يجري الآن في مكان آخَرَ من العالم، ولا يقع تحت حواسِّي مباشرة، أو غير مباشر كنقل بالبثِّ المباشر، وما يدور في أذهان الآخرين ونفوسهم. وثالثها: غيب المستقبل: كعلم الساعة.

ومن حيث إمكانُ علم الإنسان به، وهو على قسمين: قسم يمكِن للإنسان أن يَعلَمه بالوسائل المادِّية التجريبية والمشاهَدة؛ كوقت طلوع الشمس في المستقبَل، ومتى سيحدث الكُسوف والخُسوف؛ فذلك جعله الله على قانون ثابت، وكيفيَّة بَدْءِ الخَلق والحياة؛ لوجود شواهدَ على ذلك، وما حلَّ بالأمم السابقة من خلال الآثار. أو أن يَعلَمه بالعقل؛ كوجود الله سبحانه وتعالى، وأن الكَون مخلوق، وأن المخلوق لابدَّ له من خالق، أو أن يَعلَمه بالخبر الصادق الصحيح، بشرط الاعتقاد بصحَّة الخبر، والاطمئنان إلى دقَّة ناقل الخبر؛ كالإيمان بالجنَّة والنار، والحشر والصراط والميزان.

وقسم لا يمكِن للإنسان أن يَعلَمه، وهو الغَيب المطلَق؛ كوقت قيام الساعة، وهو غير داخل في مجال العلم التجريبيِّ، أو المعرفة العقلية، ولم يَرِد به دليل نقليٌّ.

وينقسم من حيث ثبوتُه إلى غَيْبٍ قطعيِّ الثُّبوت؛ كالآخرة، والجنَّة والنار، والبعث والحَشْرِ، ويجب الإيمان به. وغَيْبٍ ظنيِّ الثُّبوت، وهو الوارد في السنَّة الصحيحة الآحادية، وهو ليس قطعيًّا؛ ولكنه غالب الظنِّ، وهو أيضًا يجب الإيمان به، ويَأثَم مُنكِره؛ ولكنه لا يَكفُر.  

الحكمة من تغييب علم هذه الغَيبيات عن الإنسان:

استئثار الله تعالى بعلم هذه الغَيبيات عامَّة لحِكَم ظاهرة، منها: زيادةُ الرجاء والتعلُّق بالله تعالى، وراحة للمؤمن من ترقُّبها والانشغال بها، وحريَّة للمسلم من أن يتذلَّل لمخلوقٍ مثلِه من أجل رزقٍ أو أَجَلٍ.

"كذلك أعطاهم من العلوم المتعلِّقة بصلاح مَعاشهم ودُنياهم بقَدْر حاجاتهم؛ كعلم الطبِّ والحساب، وعلم الزراعة والغِراس، وضروب الصنائع واستنباط المياه، وعقد الأَبْنِيَة، وصنعة السُّفن، واستخراج المعادن، وتهيئتها لما يراد منها، وتركيب الأدوية، وصنعة الأطعمة، ومعرفة ضروب الحِيَل في صيد الوحش والطير ودوابِّ الماء، والتصرُّف في وجوه التجارات، ومعرفة وجوه المكاسب، وغير ذلك مما فيه قيامُ معايشهم. ثم منعهم سبحانه علم ما سوى ذلك – أي: عِلم ما سوى ما يَنفَعهم- مما ليس في شأنهم، ولا فيه مصلحة لهم، ولا نشأتهم قابلة لـه؛ كعلم الغَيب، وعِلمِ ما كان، وكلّ ما يكون، والعِلم بعدد القَطر، وأمواج البحر، وذرَّات الرمال، ومَساقط الأوراق، وعدد الكواكب ومقادِيرها، وعلمِ ما فوق السموات وما تحت الثرى، وما في لُجَج البحار وأقطار العالم، وما يُكِنُّه الناس في صدورهم، وما تَحمِل كلُّ أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد، إلى سائر ما عَزَب عنهم عِلْمَه، فمن تكلَّف معرفة ذلك، فقد ظَلَم نفسه، وبَخَس من التوفيق حظَّه، ولم يحصل إلا على الجهل المركَّب والخيال الفاسد في أكثرِ أمرِه"[3]

"ومن حكمته سبحانه ما مَنعَهم من العِلم عِلم الساعة ومعرفة آجالهم، وفي ذلك من الحكمة البالغة ما لا يحتاج إلى نظر؛ فلو عَرَف الإنسان مقدار عُمُره، فإن كان قصيرَ العمر، لم يتهنَّأ بالعيش، وكيف يتهنَّأ به وهو يترقَّب الموت في ذلك الوقت، فلولا طول الأمل لخَرِبت الدنيا، وإنما عمارتها بالآمال، وإن كان طويلَ العمر وقد تحقَّق ذلك، فهو واثق بالبقاء، فلا يبالي بالانهماك في الشهوات والمعاصي وأنواع الفساد، ويقول: إذا قَرُب الوقت أحدثتُ توبة، وهذا مذهب لا يرتضيه الله عزَّ وجلَّ من عباده ولا يَقبَله منهم، ولا تَصلُح عليه أحوال العالم، ولا يَصلُح العالم إلا على هذا الذي اقتضته حكمته وسبَق في علمه، فلو أن عبدًا من عبيدك عَمِل على أن يُسخِطك أعوامًا، ثم يُرضيك ساعةً واحدة إذا تيقَّن أنه صائر إليك، لم تُقبَل منه، ولم يَفُز لديك بما يفوز به مَن همُّه رضاك، وكذا سُنَّة الله عزَّ وجل أن العبد إذا عايَن الانتقال إلى الله تعالى لم ينفعه توبة ولا إقلاع... فَبَانَ أنَّ من حكمة الله ونِعمـه على عباده أنْ سـتر عنهم مقادير آجالهم ومبلغ أعمارهم، فلا يزال الكيِّس يترقَّب الموت وقد وضعه بين عينيه، فينكَفُّ عمَّا يَضرُّه في مَعاده، ويجتهد فيما يَنفَعه ويُسَرُّ به عند القُدوم".

ولعلَّ من الحكمة أيضًا إثباتَ جهل الإنسان مهما أُوتي من علم، فيقول الله له: إنك لا تَعلَم مَعاشَكَ ومَعادك، ولا ما تكسب غدًا، مع أنه فعلك وزمانك، ولا تعلم أين تموت، مع أنه شغلك ومكانك؛ فكيف تعلم وقت الساعة؟! [4]، وهذا يدفع الإنسانَ للتمسُّك بالقرآن والوحي والرسل مصدرًا صادقًا للأخبار والإيمان والعمل.

وقد ادَّعى بعض الطوائف أنهم يعلمون أمرًا من هذه الأمور الغيبية؛ كالكهَّان والمنجِّمين والسَّحَرة والمتعامِلين مع الجنِّ، والضاربين بالرَّمل، وقارئي الكفِّ والفنجان، وأصحاب خُرافات أبراج الحظِّ، وهم كَذَبةٌ، وقد وردت الأحاديث في تغليظ عقوبة من يقوم بذلك ومن يتعامل معهم؛

كما في قول رسول الله ﷺ:

«مَنْ أَتَى كَاهِنًا، أَوْ عَرَّافًا، فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ»

[5]

المراجع

  1.  انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/124)، (13/ 365).
  2. انظر: بحث "مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله" للدكتور شرف القضاة، مجلة دراسات الجامعة الأردنية، مجلد 15، عدد 3، 1988م.
  3. "مفتاح دار السعادة" لابن القيم (1/282).
  4.  انظر: "فتح الباري" لابن حجر (13/ 365).
  5.  أخرجه أحمد والأربعة، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (3047).

النقول

قال ابن أبي جَمْرةَ رحمه الله: "عبَّر بالمفاتح لتقريب الأمر على السَّامع؛ لأنَّ كل َّشيءٍ جُعل بينك وبينه حجابٌ فقد غُيِّب عنك، والتوصُّلُ إلى معرفته في العادة من الباب، فإذا أُغلق البابُ، احتِيج إلى الْمِفتاح، فإذا كان الشيء الذي لا يطَّلِع على الغيب إلَّا بتوصيله لا يَعرِف موضعه؛ فكيف يَعرِف الْمَغِيب؟!"[1]

قال ابن القيم رحمه الله: "كذلك أعطاهم من العلوم المتعلِّقة بصلاح مَعاشهم ودُنياهم بقَدْر حاجاتهم؛ كعلم الطبِّ والحساب، وعلم الزراعة والغِراس، وضروب الصنائع واستنباط المياه، وعقد الأَبْنِيَة، وصنعة السُّفن، واستخراج المعادن، وتهيئتها لما يراد منها، وتركيب الأدوية، وصنعة الأطعمة، ومعرفة ضروب الحِيَل في صيد الوحش والطير ودوابِّ الماء، والتصرُّف في وجوه التجارات، ومعرفة وجوه المكاسب، وغير ذلك مما فيه قيامُ معايشهم. ثم منعهم سبحانه علم ما سوى ذلك – أي: عِلم ما سوى ما يَنفَعهم- مما ليس في شأنهم، ولا فيه مصلحة لهم، ولا نشأتهم قابلة لـه؛ كعلم الغَيب، وعِلمِ ما كان، وكلّ ما يكون، والعِلم بعدد القَطر، وأمواج البحر، وذرَّات الرمال، ومَساقط الأوراق، وعدد الكواكب ومقادِيرها، وعلمِ ما فوق السموات وما تحت الثرى، وما في لُجَج البحار وأقطار العالم، وما يُكِنُّه الناس في صدورهم، وما تَحمِل كلُّ أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد، إلى سائر ما عَزَب عنهم عِلْمَه، فمن تكلَّف معرفة ذلك، فقد ظَلَم نفسه، وبَخَس من التوفيق حظَّه، ولم يحصل إلا على الجهل المركَّب والخيال الفاسد في أكثرِ أمرِه"[2]

قال السعديُّ رحمه الله: "قد تقرَّر أن الله تعالى أحاط علمه بالغيب والشهادة، والظواهر والبواطن، وقد يُطلِع الله عباده على كثير من الأمور الغيبية، وهذه الأمور الخمسة من الأمور التي طوى عِلمَها عن جميع المخلوقات، فلا يعلمها نبيٌّ مُرسَل، ولا مَلَك مقرَّب، فضلًا عن غيرهما فقال:إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ؛ أي: يَعلَم متى مُرساها؛

 لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ

[الأعراف: ١٨٧]،

وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ؛ أي: هو المنفرِد بإنزاله، وعِلم وقت نزوله. وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ ؛ فهو الذي أنشأ ما فيها، وعَلِم ما هو، هل هو ذكرٌ أم أنثى؟ ولهذا يسأل الملَكُ الموكَّل بالأرحام ربَّه: هل هو ذكر أم أنثى؟ فيقضي الله ما يشاء.  وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًاﱠ من كسب دينها ودُنياها،  وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ؛ بل الله تعالى، هو المختصُّ بعلم ذلك جميعه، ولَمَّا خصَّص هذه الأشياء، عمَّم علمه بجميع الأشياء؛ فقال:  ﱠإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ محيطٌ بالظواهر والبواطن، والخفايا والخبايا، والسرائر، ومن حكمته التامَّة أن أخفى علم هذه الخمسة عن العباد؛ لأن في ذلك من المصالح ما لا يخفى على من تدبَّر ذلك"[3]


المراجع

  1.  "فتح الباري" لابن حجر (8/514).
  2.  "مفتاح دار السعادة" لابن القيم (1/282).
  3.  "تفسير السعديِّ" (ص: 356).

غريب الحديث

مفاتح: المقصود بالمفاتح إما مخازن الغيب، أو المفتاح الذي يفتح الغَيب  [1]

الغيب: ما غاب عن الإنسان، وهو ما لا تُدركه الحواسُّ بشكل مباشر أو غير مباشر.

الساعة: المقصود يوم القيامة.

المراجع

  1.  "فتح الباري" لابن حجر (8/514).

مشاريع الأحاديث الكلية