الفوائد العلمية
1. في الحديث التعبير بالمفاتح لتقريب الأمر على السَّامع؛ لأنَّ كل َّشيءٍ جُعل بينك وبينه حجابٌ فقد غُيِّب عنك، والتوصُّلُ إلى معرفته في العادة من الباب، فإذا أُغلق البابُ، احتِيج إلى الْمِفتاح، فإذا كان الشيء الذي لا يطَّلِع على الغيب إلَّا بتوصيله لا يَعرِف موضعه؛ فكيف يَعرِف الْمَغِيب؟![1]
2.في الحديث بيان مفاتيح الغيب الّتي استأثر اللّه تعالى بعلمها، فلا يعلمها أحد إلّا بعد إعلامه تعالى بها.
3. في الحديث بيان أن علم وقت السّاعة لا يعلمه نبيٌّ مرسَل ولا مَلَك مقرَّب
لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ
4. إنزال الغَيث لا يعلمه إلّا اللّه؛ ولكن إذا أَمَر به، عَلِمته الملائكة الموكَّلون بذلك، ومَن شاء اللّه من خلقها[2]
5. لا يَعلَم ما في الأرحام ممّا يُريد أن يَخلُقه اللّه تعالى سواه؛ ولكن إذا أَمَر بكونه ذكرًا أو أنثى، أو شَقيًّا أو سعيدًا، عَلِم الملائكة الموكَّلون بذلك، ومن شاء اللّه من خَلْقِه[3]
6. لا تَدري نفس ماذا تكسب غدًا في دنياها وأخراها، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ في بلدها أو غيره من أيِّ بلاد اللّه كان، لا عِلْمَ لأحد بذلك[4]
7. جعل الله تعالى الساعة غَيبًا، لا يعلمه سواه؛ ليبقى الناس على حَذَر دائم، وتوقُّع دائم، ومحاولة دائمة أن يقدِّموا لها، وهم لا يعلمون متى تأتي، فقد تأتيهم بغتةً في أيَّة لحظة، ولا مجال للتأجيل في اتِّخاذ الزاد، وكنز الرصيد.
8. هناك من البشر من ادَّعَى علم الغيب في اثنتين من الخمس، وهما: معرفة نزول المطر، وعلم ما في الأرحام.
9. إن الله تعالى هو الذي يُنزِّل الغيث؛ لأنه سبحانه هو الْمُنشئ للأسباب الكونية التي تكوِّنه، والتي تنظِّمه، وينزِّل الله تعالى وَفْقَ حكمته، بالقَدْرِ الذي يريده، وقد يَعرِف الناس بالتجارب والمقاييس قُرْبَ نزوله؛ ولكنهم لا يَقدِرون على خلق الأسباب التي تُنشئه.
10. بالنسبة لمعرفة نزول المطر، فإن ما يقوله علماء الطقس ما هو إلا توقُّع؛ فنزولُ المطر عملية معقَّدة للغاية، يَدخُل فيها من العوامل المعروفة وغير المعروفة ما لا يمكِن لمخلوق أن يتحكَّم فيها؛ مثل: كَمِّ ونوع الشحنات الكهربية في السحابة الواحدة، وفي السُّحب المتصادمة، وأثر الرياح الشمسية على أجواء الأرض... إلخ. ويَتِمُّ بواسطة العديد من التفاعلات الطبيعية والكيميائية غير المعروفة بالكامل، من بينها: تصريف الرياح، وتبخير الماء، وتجميع البخار، ونقله بواسطه الرياح التي تُثير السحاب، وتؤلِّف بينه وتَبسُطه في السماء، أو تَرْكُمُه إلى أعلى نطاق الرجع من الغِلاف الغازيِّ، وتستمرُّ في تلقيحه بمزيد من بخار الماء الذى يُثريه، وبهباءات الغبار التي تعمل كنوى للتكثيف في داخله، فتعمل على نموِّ قُطيرات الماء حتى تصل إلى الحجم المناسب لهطول المطر أو البَرَد أو الثلج، كلُّ ذلك والسحابُ في حركة دائبة، فلا يُعلَم أين يَنزِل مَطَرُه، ولا كمُّ المطر النازل، ولا متى ينزل هذا المطر يقينًا لا ظنًّا وتوقُّعًا، إلا الله.
11.الله سبحانه هو الذي يعلم وحده، ماذا في الأرحام في كل لحظة، وفي كلِّ طَور، من فَيْضٍ وغَيْضٍ، ومِن حمل حتى حين لا يكون للحمل حجم ولا جِرْمٌ، ونوع هذا الحمل ذكرًا أم أنثى، حين لا يملك أحد أن يعرف عن ذلك شيئًا في اللحظة الأولى لاتِّحاد الخلية والبُوَيضة، وملامح الجنين، وخواصَّه وحالته واستعداداتِه؛ فكلُّ أولئك مما يختصُّ به عِلم الله تعالى.
12. ما توصَّل إليه العلمُ حديثًا من استطاعته معرفة نوع الجنين، فهذا من علم الشهادة، الخاضع لسنن الاستكشاف والمعرفة التي بثَّها الله في الخلق، ويكون ذلك في مراحل الحمل المتأخِّرة من تشكُّل الجنين، دون معرفة أي أمر آخَر؛ مثل الشكل والسعادة والشقاء...إلخ، فاللهُ وحدَه من يعلم ذلك.
13. قوله: «لا يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ إِلَّا اللَّه»: دار تفسير العلماء لغَيْضِ الأرحام حول معنيين؛ أحدهما: الدم الذي ينزل على المرأة الحامل، والثاني: السَّقْطُ الناقص للأجنَّة قبل تمام خَلْقِها.
14. قوله: «وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَدًا»: ماذا تكسب من خير وشرٍّ، ومن نَفْعٍ وضرٍّ، ومن يُسر وعُسر، ومن صحَّة ومرض، ومن طاعة ومعصية؛ فالكسب أعمُّ من الرِّبح الماليِّ وما في معناه، وهو كلُّ ما تُصيبه النفس في الغَداة، وهو غَيب مغلَق، عليه الأستار. والنفسُ الإنسانية تقف أمام أستار الغيب، لا تملك أن ترى شيئًا مما وراء الستار.
15. في الحديث بيان أن النفس البشرية تَقِفُ أمام هذه الأستار عاجزة خاشعة، تدرك بالمواجهة حقيقة علمها المحدود، وعجزها الواضح، ويتساقط عنها غرور العلم والمعرفة المدَّعاة.
16. من حكمته سبحانه أن مَنعَ الخلق عِلمَ الساعة ومعرفة آجالهم، وفي ذلك من الحكمة البالغة ما لا يحتاج إلى نظر؛ فلو عَرَف الإنسان مقدار عُمُره، فإن كان قصيرَ العمر، لم يتهنَّأ بالعيش، وكيف يتهنَّأ به وهو يترقَّب الموت في ذلك الوقت، فلولا طولُ الأمل لخَرِبت الدنيا، وإنما عمارتها بالآمال، وإن كان طويلَ العمر وقد تحقَّق ذلك، فهو واثق بالبقاء، فلا يبالي بالانهماك في الشهوات والمعاصي وأنواع الفساد، ويقول: إذا قَرُب الوقت أحدثتُ توبة، وهذا مذهب لا يرتضيه الله عزَّ وجلَّ من عباده ولا يَقبَله منهم، ولا تَصلُح عليه أحوال العالم [5]
17. من حكمة الله ونِعمـه على عباده أنْ سـتر عنهم مقادير آجالهم ومبلغ أعمارهم، فلا يزال الكيِّس يترقَّب الموت وقد وضعه بين عينيه، فينكَفُّ عمَّا يَضرُّه في مَعاده، ويجتهد فيما يَنفَعه ويُسَرُّ به عند القُدوم [6]
18. يدرك الإنسان أمام ستر الغَيب الْمُسدَل أن الخَلْقَ لم يؤتوا من العلم إلا قليلًا، وأن وراء الستر الكثير مما لم يَعلَمه الناس، ولو علموا كلَّ شيء آخَرَ فسيظلُّون واقفين أمام ذلك السِّتر لا يدرون ماذا يكون غدًا؟! بل ماذا يكون اللحظةَ التالية؟! وعندئذ يَذِلُّ كبرياء النفس البشرية وتخشع لله.
19. هذه الأمور الغيبية تَظلُّ مغلَقةً في وجه الإنسان؛ لأنها فوق قُدرتِه، ووراء علمه، وهي خالصة لله لا يعلمها غيره، إلا بإذن منه وإلا بمقدار.
20. من أركان الإيمان أن تؤمن بالغيب، وتكتفي منه بما أخبرك الله تعالى به سواء في القرآن، أو من خلال سنَّة رسوله ﷺ.
21. في الإيمان بهذه الغَيْبيَّات والوقوف عند ما أخبرنا به الوحيُ راحةُ النفس، وبثُّ الأمل، وزيادة التعلُّق بالله تعالى والإيمان به.
22. عدم تصديق من يدَّعي علم شيء من هذه الغَيبيات بسِحر وشَعْوَذة وتنجيم وتخمين وغيرها، فالآيات واضحة في استحالة ذلك.
1. "فتح الباري" لابن حجر (8/514).
2. "تفسير ابن كثير" (6/ 352).
3. "تفسير ابن كثير" (6/ 352).
4. "تفسير ابن كثير" (6/ 352).
5. "مفتاح دار السعادة" لابن القيم (1/283).
6. "مفتاح دار السعادة" لابن القيم (1/283).
الفوائد العقدية
23. قد تقرَّر أن الله تعالى أحاط علمه بالغيب والشهادة، والظواهر والبواطن، وقد يُطلِع الله عباده على كثير من الأمور الغيبية، وهذه الأمور الخمسة من الأمور التي طوى عِلمَها عن جميع المخلوقات، فلا يعلمها نبيٌّ مُرسَل، ولا مَلَك مقرَّب، فضلًا عن غيرهما [1]
المراجع
- "تفسير السعديِّ" (ص: 653).
الفوائد الحديثية
24. لابْنِ عُمَرَ – رضي الله عنه - أَلْفَانِ وَسِتُّمائَةٍ وَثَلاَثُونَ حديثًا بالمكرَّر، اتَّفَق له البخاريُّ ومسلم على مِائةٍ وَثَمَانِيَةٍ وَسِتِّينَ حديثًا، وانْفَرَد له البخاريُّ بِأَحَدٍ وثمانين حديثًا، ومسلمٌ بِأَحَدٍ وثلاثين حديثًا [1]
المراجع
- "سير أعلام النبلاء" للذهبيِّ (4/ 303).