عن عبدِ الله بنِ مسعودٍ رضي الله عنه، قال: كُنَّا مع النبيِّ شَبابًا لا نجدُ شيئًا، فقال لنا رسولُ الله ﷺ: «يا معشرَ الشباب، مَن استطاع الباءةَ، فليتزوَّجْ؛ فإنه أغَضُّ للبصر، وأحصَنُ للفَرْجِ، ومَن لم يستطِعْ، فعليه بالصَّوْمِ؛ فإنه له وِجاءٌ»
عن عبدِ الله بنِ مسعودٍ رضي الله عنه، قال: كُنَّا مع النبيِّ شَبابًا لا نجدُ شيئًا، فقال لنا رسولُ الله ﷺ: «يا معشرَ الشباب، مَن استطاع الباءةَ، فليتزوَّجْ؛ فإنه أغَضُّ للبصر، وأحصَنُ للفَرْجِ، ومَن لم يستطِعْ، فعليه بالصَّوْمِ؛ فإنه له وِجاءٌ»
1. في هذا الحديث بيان أهمية أمر الزواج في حالتَيِ القدرة عليه، وعدم القدرة، وخصَّ الشباب؛ لأنهم مَظِنَّة قوَّة الشهوة، بعكس الشيوخ.
2. في الحديث بيان أن الزواج أشدُّ حفظًا للبصر من التطلُّع إلى الشهوات، والانشغال الشديد بها عن النافع المفيد في الدين والدنيا؛ لأن الذي يحفظ شهوته بالزواج يَندُر منه التطلُّع.
3. في الحديث بيان أن الصيام يُضعِف الشهوة، فيَقِلُّ تحريكها للنفس لتلمُّسها والانشغال بها، فهي تعمل عمل الإخصاء في الإنسان عن طريق تقليل الشهوة، وليس عن طريق إزالة العُضْوِ كما هو مفهوم الإخصاء.
4. في الحديث علاج لمن لا يَجِد القدرة على الزواج، وربما خاف الفتنة ووجد المشقَّة بفقد النكاح، فرسم لهم ﷺ الطريق لِمُدافعة سَوْرة الشهوة، وهو الصيام.
5. إن الله سبحانه وتعالى تكفَّل بمقتضى وعده إعانةَ من يريد النكاح حتى يعفَّ؛
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله ﷺ:
«ثلاثة حقٌّ على الله عزَّ وجل عَوْنُهم: الْمُكاتَب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف، والمجاهد في سبيل»
[1].
6. إن الزواج هو الطريق الطبيعيُّ لمواجهة الميول الجنسية الفِطرية، وهو الغاية النظيفة لهذه الميول، وربما حدث للإنسان عَنَتٌ ومَشَقَّةٌ بدون الزواج، فكان توجيه النبيِّ للمسلم في هذا الحديث.
7. إن الإسلام لا يحارب دوافع الفِطرة ولا يستقذرها؛ إنما ينظِّمها ويطهِّرها، ويرفعها ويُرقِّيها عن المستوى الشهوانيِّ الحيوانيِّ.
8. يُقيم الإسلام العلاقاتِ الجنسيةَ على أساس من المشاعر الإنسانية الراقية، التي تجعل من التقاء جسدين، التقاءَ نفسين وقلبين وروحين. وبتعبير شامل: التقاء إنسانين، تربط بينهما حياة مشتركة، وآمال مشتركة، وآلام مشتركة، ومستقبل مشترك، يلتقي في الذرية المرتقَبة، ويتقابل في الجيل الجديد، الذي ينشأ في العُشِّ المشترك، الذي يقوم عليه الوالدان حارسينِ لا يفترقان.
9. يَعُدُّ الإسلام الزواجَ وسيلةً للتطهُّر والارتفاع، فيدعو الأمَّة المسلمة لتزويج رجالها ونسائها إذا قام المال عَقَبة دون تحقيق هذه الوسيلة الضرورية لتطهير الحياة ورفعها؛
قال تعالى:
﴿وَأَنكِحُوا ٱلْأَيَٰمَىٰ مِنكُمْ وَٱلصَّٰلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَآئِكُمْ ۚ إِن يَكُونُوا فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِۦ ۗ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ﴾
[النور: ٣٢].
10. يسمِّي الإسلام الزواجَ إحصانًا؛ أي: وقايةً وصيانة.
11. جعل الإسلام الزواج من الطاعات التي يتقرَّب بها المسلم إلى ربِّه، وحضَّ عليه، ووعد من لم يجد بالإعانة من ربِّه.
12. إن الأصل في الرابطة الزوجية هو الاستقرار والاستمرار، والإسلام يحيط هذه الرابطة بكلِّ الضمانات التي تَكفُل استقرارها واستمرارها، وفي سبيل هذه الغاية يرفعها إلى مرتبة الطاعات.
13. إن الإسلام يراعي الميول الجنسية الفِطرية، فجعل الزواج الطريق الطبيعيَّ لهذه الميول، وحضَّ عليه، وجعله من الطاعات، وأَمَر الجماعة المؤمنة بإنكاح الأيامى الفقراء ومساعدتهم ليتزوَّجوا، وفَرَض الآداب التي تمنع التبرُّج والاختلاط والفتنة كي تستقرَّ العواطف، ولا تتلفَّت القلوب لكل داعٍ للشهوات، وفرض حدَّ الزنا وحدَّ القذف، وجعل للبيوت حُرْمَتها بالاستئذان عليها.
1. رواه الترمذيُّ (1655)، والنسائيُّ (3120)، وابن ماجه (2518)، وحسَّنه الترمذيُّ، والبغويُّ في "شرح السنَّة" (5/6)، وصحَّحه ابن العربيِّ في "عارضة الأحوذي" (3/5)، وجوَّد إسناده ابن باز في "حاشية بلوغ المرام" (765).
14. ذهب جماعة الفقهاء إلى أن النكاح مندوبٌ إليه مرغَّب فيه، واحتجُّوا بقوله: «ومن لم يستطع فعليه بالصوم»، والصوم البدل عن النكاح ليس بواجب، فالنكاح الْمُبدَل منه مثلُه، وأيضًا فإن جماعة من الصحابة تركوه وهم قادرون، وعكفوا على العبادة، ولَمَّا لم يُنقَل عنه ﷺ ولا عن الأئمَّة بعده النَّكير على من لم يتزوَّج، عُلِم أنه غير واجب [1].
15. ذهب أهل الظاهر إلى أنه فرضٌ على الرجل والمرأة مرَّةً في الدهر إن كان الرجل واجدًا لتكاليف الزواج، واحتجُّوا بظاهر هذا الحديث، وحَمَلوا أمره ﷺ بالنكاح على الإيجاب، قالوا: ولكنَّه أمرٌ لخاصٍّ من الناس، وهم الخائفون على أنفسهم العَنَت بتركهم النكاحَ، فأما مَن لم يَخَفِ العَنَت، فهو غيرُ مُرَاد بالحديث؛ قالوا: وقد بيَّن صَّحة قولنا إخبارُه ﷺ عن السبب الذى من أجله أَمَر الذى يستطيع الباءة بالنكاح، وذلك قوله: «فإنه أغضُّ للبصر، وأحصن للفرج»، فمن قَدَر على غضِّ بصره عن المحارم، وتحصين فرجه، فغير فرض عليه النكاح، ومن كان غيرَ قادر على ذلك، وخَشِيَ مُواقَعة الحرام، فالنكاح فرضٌ عليه؛ لأمر النبيِّ ﷺ إيَّاه به [2].
16. اختلف العلماء في المراد بالباءة هنا على قولين يرجعان إلى معنًى واحد، أصحُّهما أنّ المراد معناها اللّغويُّ، وهو الجماع، فتقديره: من استطاع منكم الجماع لقُدرته على مُؤَنِه، وهي مؤن النّكاح، فليتزوَّج، ومن لم يستطع الجماع؛ لعجزه عن مُؤَنه، فعليه بالصّوم؛ ليدفع شهوته، ويقطع شرَّ مَنيِّه كما يقطعه الوِجاء، وعلى هذا القول وقع الخطاب مع الشُّبَّان الّذين هم مَظِنَّة شهوة النّساء، ولا ينفكُّون عنها غالبًا [3].
17. القول الثّاني في المراد بالباءة: أنّ المراد هنا بالباءة مُؤَن النّكاح، سُمِّيت باسم ما يُلازمها، وتقديره: من استطاع منكم مؤن النّكاح فليتزوَّج، ومن لم يستطعها فليَصُم؛ ليدفع شهوته والحجَّة قوله ﷺ: «ومن لم يستطع فعليه بالصّوم»، والعاجز عن الجماع لا يحتاج إلى الصّوم لدفع الشّهوة، فوجب تأويل الباءة على المؤن، وأجيب بأنّ تقديره: من لم يستطع الجماع لعجزه عن مُؤَنه وهو محتاج إلى الجماع، فعليه بالصّوم [4].
18. المراد بالوِجاء في الحديث أنّ الصّوم يقطع الشّهوة، ويقطع شرَّ المنيِّ كما يفعله الوجاء الذي هو دَقُّ الخُصْيَتين [5].
19. في هذا الحديث الأمر بالنّكاح لمن استطاعه وتاقت إليه نفسه، وهذا مُجمَع عليه؛ لكنَّه أمر نَدْبٍ لا إيجاب، فلا يَلزَم التّزوُّج ولا التّسرِّي، سواءٌ خاف العَنَت أم لا، هذا مذهب العلماء كافَّةً، ولا يُعلَم أحدٌ أَوجَبه إلّا داودُ ومن وافَقَه من أهل الظّاهر، وروايةٌ عن أحمد، فإنّهم قالوا: يلزمه إذا خاف العنت أن يتزوَّج أو يتسرَّى، قالوا: وإنّما يلزمه في العمر مرّةً واحدةً، ولم يشرِط بعضهم خوفَ العَنَت [6].
20. النّاس في النكاح أربعة أقسام: قسم تَتُوق إليه نفسه ويجد الْمُؤَن، فيُستحبُّ له النّكاح، وقسم لا تَتُوق ولا يجد الْمُؤَن، فيُكره له، وقسم تَتُوق ولا يجد المؤن، فيُكره له، وهذا مأمور بالصَّوم لدفع التَّوَقان، وقسم يجد المؤن ولا تتوق، فمذهب الشّافعيِّ أنّ ترك النّكاح لهذا والتّخلِّيَ للعبادة أفضل، ولا يُقال: النّكاح مكروه؛ بل تركه أفضل، ومذهب أبي حنيفة وبعض أصحاب الشّافعيِّ وبعض أصحاب مالك أنّ النّكاح له أفضل [7].
21. قال تعالى:
﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ ٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِۦ ۗ﴾
[النور: 33]؛
"أي: ليَطلُب العِفَّة عن الحرام والزنا الذين لا يجدون ما لا يَنكِحون به للصَّدَاق والنَّفَقة، حتى يُغْنِيَهم اللَّهُ من فضله؛ أي: يوسِّع عليهم من رزقه" [8].
1. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (7/ 162، 163).
2. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (7/ 162، 163).
3. "شرح النوويِّ على مسلم" (9/ 172).
4. "شرح النوويِّ على مسلم" (9/ 172).
5. "شرح النوويِّ على مسلم" (9/ 173).
6. "شرح النوويِّ على مسلم" (9/ 173).
7. "شرح النوويِّ على مسلم" (9/ 174).
8. "معالم التنزيل" للبغويِّ (6/41).
22. قال أهل اللّغة: الْمَعشَر هم الطّائفة الّذين يَشمَلهم وصفٌ؛ فالشّباب مَعشَر، والشّيوخ مَعشَر، والأنبياء معشر، والنّساء معشر، فكذا ما أشبهه [1].
23. الشّباب جمع (شابٍّ)، ويُجمَع على شُبَّانٍ وشَبَبة، والشّابُّ من بلغ ولم يجاوز ثلاثين سنةً [2].
24. الباءة: فيها أربع لغات، الفصيحة المشهورة الباءة بالمدِّ والهاء، والثّانية الْبَاةُ بلا مدٍّ، والثّالثة البَاءُ بالمدِّ بلا هاء، والرّابعة البَاهَةُ بهاءين بلا مدٍّ، وأصلُها في اللّغة الجِمَاع، مشتقَّة من الْمَبَاءة، وهي المنزِل، ومنه مَبَاءة الإبل، وهي مَوَاطِنها، ثمّ قيل لعَقد النّكاح: باءَة؛ لأنّ من تزوَّج امرأةً بوَّأها منزلًا [3].
1. "شرح النوويِّ على مسلم" (9/ 172، 173).
2. "شرح النوويِّ على مسلم" (9/ 172).
3. "شرح النوويِّ على مسلم" (9/ 172).