عَنْ أَبِي مُوسَـى الأشعريِّ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: «مَثَلُ الْبَيْتِ الَّذِي يُذْكَرُ اللهُ فِيهِ، وَالْبَيْتِ الَّذِي لَا يُذْكَرُ اللهُ فِيهِ، مَثَلُ الْـحَيِّ وَالْـمَيِّتِ». 

وَلِلْبُخَارِيِّ: «مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ، وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ، مَثَلُ الحَيِّ وَالـمَيِّتِ».

فوائد الحديث

الفوائد العلمية

1. في الحديث يمثِّل النبيُّ ﷺ الذِّكْرَ بالرُّوح حيثما حلَّت تهب الحياة، حتى إنها تُحيي الجمادَ كالبيت، لا الأبدان فقط؛ فالذِّكْرُ حياةُ القلب كما أن الروحَ حياة الجسد.

2. شبَّه ﷺ حالة البيت الذي يُذكر الله فيه بالإنسان الحيِّ، الذي يتمتَّع بروحه، ويبتهج ويَسعَد، ويَضِجُّ بالحياة والحركة، والسعادة والبهجة، وشبَّه حالة البيت الذي لا يُذكَر الله تعالى فيه بحالة الميِّت، ساكنِ الحركة، لا رُوح فيه، ولا يَقترِب أحد منه؛ بل يستوحشون منه، ويَهرُبون من دخوله.

3. كلَّما غَفَل الإنسان عن ذِكر اللهِ - عزَّ وجلَّ - فإنه يقسو قلبه، وربما يموت قلبه[1].

4. الذي يوصَف بالحياة والموت حقيقةً هو السَّاكنُ لا السَّكَنُ، وأن إطلاق الحَيِّ والمَيِّت في وصف البيت إِنَّما يُراد به ساكنُ البيت، فشَبَّه الذاكرَ بِالْحَيِّ الذي ظاهرُه مُتزيِّنٌ بنور الحياة، وباطنُه بنور المعرفة، وغيرَ الذاكر بالبيت الذي ظاهرُه عاطلٌ، وباطنُه باطلٌ[2].

5. مَوقعُ التشبيه بِالْحَيِّ والميِّت لِما في الْحَيِّ من النفع لمن يُواليه، والضُّرِّ لمن يُعاديه، وليس ذلك في المَيِّت[3].

6. الذكرُ هو استحضار القلب لعظمة الله، وللخوف من اليوم الآخر، وجَرَيان اللسان بالثناء على الله تعالى بما ثبت شرعًا من أسمائه أو صفاته، أو بطَلَب غُفرانه وفضله.

7. للذكر معنًى أشمل وأعمُّ؛ حيث يَشمَل كلَّ عمل صالح؛ من صلاة وزكاة وسُنن وطَلَب عِلم وذِكر أحوال، وذِكر مُطلَق وذكر مقيَّد.

8. أمر الله تعالى في مواضعَ كثيرةٍ من كتابه بالذكر

مثل قوله تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرً}

[الأحزاب: 41]

وقوله:

{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ}

[البقرة: 152]

9. مدح الله تعالى الذاكرين في قوله:

{وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}

[الأحزاب: 35]

وأمر به نبيَّه ﷺ في قوله:

{وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} 

[الأعراف: ٢٠٥]

10. المراد بالذكر: الإتيانُ بالألفاظ التي ورد الترغيب في قولها، والإكثارُ منها؛ مثل: "سبحان اللَّه، والحمد للَّه، ولا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر"، وما يَلتحِق بها من الْحَوْقَلة والبَسْمَلة والحَسْبَلة والاستغفار، ونحوِ ذلك، والدعاء بخيرَيِ الدنيا والآخرة.

11. قد يُطْلَق ذكرُ اللَّه، ويراد به المواظبَةُ على العمل بما أَوجَبه، أو نَدَب إليه؛ كتلاوة القرآن، وقراءة الحديث، ومُدارسة العلم، والتنفُّل بالصلاة[4].

12. يقع الذكرُ تارةً باللسان، ويؤجَر عليه الناطق، ولا يُشترَط استحضاره لمعناه؛ ولكن يُشترَط أن لا يقصد به غير معناه، وإن انضاف إلى النُّطق الذكرُ بالقلب، فهو أكملُ، فإن انضاف إلى ذلك استحضارُ معنى الذكر، وما اشتمل عليه من تعظيم الله تعالى، ونفيِ النقائص عنه، ازداد كمالًا، فإن وقع ذلك في عمل صالح من صلاة، أو جهاد، أو غيرهما، ازداد كمالًا، فإن صحَّح التوجُّهَ، وأخلص للَّه تعالى في ذلك، فهو أبلغُ الكمال[5].

13. الذِّكْرُ لَذَّةُ قلوب العارفين

قال اللَّه - عزَّ وجلَّ -:

{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}

[الرعد: 28]

14.

قال رسول الله ﷺ:

«ألا أُنبِّئُكم بخيرِ أعمالِكم، وأزكاها عند مَليكِكم، وأرفعِها في درجاتِكم، وخيرٍ لكم من إنفاقِ الذَّهبِ والوَرِقِ، وخيرٍ لكم من أن تَلْقَوا عدوَّكم فتضرِبوا أعناقَهم، ويضرِبوا أعناقَكم؟». قالوا: بلى. قال: «ذكرُ اللهِ»[6].

15.

قال الله تعالى في الحديث القدسيِّ:

«أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي، إِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ، ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ، ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً»[7]. 

16.

قال رجل: يا رسولَ الله، إنَّ شرائعَ الإسلامِ قد كثُرت عليَّ، فأخبِرني بشيءٍ أتشبَّثُ به، قال: «لا يَزَالُ لسانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللهِ»[8].

17. الذكر عبادةٌ سهلةٌ يسيرة، لا تحتاج إلى تهيئة كحاجة الصلاة للتهيئة بالوضوء، ولا تحتاج إلى هيئة معيَّنة مثل حركات الصلاة، فالذكر يكون على كلِّ حال، قيامًا أو قعودًا أو على جَنْب

كما في قوله تعالى:

{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ 190 الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ}

[آل عمران: 190، 191]

18. فوائدُ الذكر دنيويًّا وأُخرويًّا كثيرة جدًّا، يجمعها أنه - على اختصاص كلِّ ذكرٍ بفضلٍ - يُشعِر بالصلة القويَّة بالله تعالى وبمعيَّته، ومقرِّبٌ من الله، ومريحٌ للنَّفْس، ونافعٌ للبدن، وجالبٌ لكلِّ خيرٍ، وحافظٌ من كلِّ شرٍّ، ورافعٌ للدرجات، وماحٍ للسيِّئات.

19. من فوائد الذكر أنه: يَطرُد الشيطان ويقمعه ويكسره، ويُرضي الرحمن عزَّ وجلَّ، ويُزيل الهمَّ والغمَّ عن القلب، ويَجلِب للقلب الفرح والسرور، ويقوِّي القلب والبدن، وينوِّر الوجه والقلب، ويَجلِب الرزق، ويكسو الذاكرَ الْمَهابةَ والحلاوة والنَّضرة، وينال الذاكرُ محبَّة الله عزَّ وجلَّ، ويُورِث الذاكرَ المراقبة حتى يُدخله في باب الإحسان فيعبد الله كأنه يراه، وغير ذلك كثير[9].

20. ذِكْرُ الله متنوِّعٌ؛ فقد يكون مُطلَقًا يَجُوز في كلِّ وقت؛ مثل: قراءة القرآن، وهو أفضلُ الذِّكر، وفيه بكلِّ حرف حسنةٌ، والحسنةُ بعشْرِ أمثالها، ومثل التسبيح والتهليل والتكبير والاستغفار، والثناء على الله تعالى بأسمائه وصفاته.

21. هناك أذكار مقيَّدة بأحوال خاصة؛ مثل: ذِكْرِ دخول المسجد والخروج منه، والذِّكْرِ بعد الصلاة، وذِكر دخول البيت والخروجِ منه، وذكر النوم، وذكر الاستيقاظ من النوم، وذكر النَّظَر في الْمِرآة، وذكر لُبس الثوب، وذكر بَدء الطعام، وذكر الفراغ من الطعام، وذكر شُرب الماء، وذكر رؤية الهلال، وذكر طلوع الأماكن المرتفعة، وذكر النُّزول من الأماكن المرتفعة، وذكر دخول الخلاء، وذكر الخروج منه، وغيرها من أذكار الأحوال.

22. للذكر آداب، منها: إخلاصُ النيَّة الذي هو شرطُ قَبول كلِّ عمل، والحرصُ على حضور القلب، ويُستحبُّ الوضوء ونظافة المكان، واستقبال القِبلة إن تهيَّأ.

23. يمكِن للذاكر أن يَقطَع الذكرَ لترديد الأذان، أو لإرشاد الضالِّ عن الطريق، أو لردِّ السلام، أو للأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر، ثم يعود إلى ذكره.

24. الذّكر ثلاثة أنواع: ذكر الأسماء والصّفات ومعانيها، والثّناء على اللّه بها، وتوحيد اللّه بها، وذكرُ الأمر والنّهي والحلال والحرام، وذكرُ الآلاء والنّعماء والإحسان والأيادي[10].

25. الذّكر ثلاثة أنواع: ذكر يتواطأ عليه القلب واللّسان، وهو أعلاها، وذكر بالقلب وحده وهو في الدّرجة الثّانية، وذكر باللّسان المجرَّد، وهو في الدّرجة الثّالثة[11].

26. في الحديث النَّدْبُ إلى ذكر اللَّه تعالى في البيت، وأنه لا يُخْلَى من الذِّكر[12].

المراجع

  1. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (5/ 517).
  2. "فتح الباري" لابن حجر (11/ 210، 211).
  3. "فتح الباري" لابن حجر (11/ 210، 211).
  4. "البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" للولويِّ (16/ 159).
  5. "البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" للولويِّ (16/ 159).
  6. رواه أحمد (21702)، والترمذيُّ (3377)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1493).
  7. رواه مسلم (2675).
  8. رواه أحمد (18167)، وابن ماجه (3793)، والترمذيُّ (3375)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1491).
  9. جمع الإمام ابن القيم - رحمه الله - في كتابه "الوابل الصيِّب" أكثرَ من سبعين فائدةً للذِّكر، فارجع إليه.
  10. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 403).
  11. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 403).
  12. "شرح النوويِّ على مسلم" (6/ 68).


الفوائد العقدية

27. من أوضح صفات الإيمان وشُعبه وأفضلِها: ذكرُ الله تعالى؛ فهو حياة قلب المؤمن؛ بل إن الله تعالى حَصَر الإيمان وقَصَره على بعض الصفات، أوَّلُها الذين تَجِل قلوبهم عند ذكر الله وآياته

قال تعالى:

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}

[الأنفال: ٢]

الفوائد التربوية

28. كان النبيُّ ﷺ ينتقي أفضلَ أساليب التعليم لتبليغ رسالة ربِّه، ومنها ضربُ الأمثال؛ ليفهموا مُراده، ويقرِّب المعانيَ للأذهان، ويرسِّخها في النفوس.

29. من أفضل أساليب التعليم ضرب الأمثال؛ لأن ضرب الأمثال الحسية يقرِّب المعانيَ العقلية؛ أي: ما يُدرَك بالعقل يقرِّبه ما يُدرَك بالحِسِّ، وهذا مشاهَد؛ فإن كثيرًا من الناس لا يفهم، فإذا ضربتَ له مثلًا محسوسًا فَهِم وانتفع

ولهذا قال الله تعالى:

{ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}

[العنكبوت: 43]

وقال تعالى:

{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ}

[الروم: 58]

فضربُ الأمثال من أحسن طرق التعليم ووسائل العلم[1]. 

30. على الداعية التنويعُ في أساليب حديثه، واستعمال الصور البلاغية التي تُبرز المعنى وتؤكِّده.

المراجع

  1. "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/ 295).


الفوائد اللغوية

31. الحديث قائم على بلاغة التشبيه التمثيليِّ، وهو تشبيه صورة مركَّبة بصورة مركَّبة، ووجه الشَّبَه فيه صورة مركَّبة مُنتزَعة من أشياءَ متعدِّدة؛ فالمشبَّه الذي يَذكُر ربَّه، والذي لا يذكر ربَّه، أو البيتُ الذي يُذْكَرُ اللهُ فيه، والبيتُ الذي لا يُذْكَرُ اللهُ فيه، والمشبَّه به: الْـحَيُّ وَالْـمَيِّتُ. ووجهُ الشَّبَه: ما يَجمَع بين الذِّكر والرُّوح من إحياء ما يَسْرِيان فيه.

مشاريع الأحاديث الكلية