عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: (أمُّك) قال: ثم من؟ قال: (أمك)، قال: ثم من؟ قال: (أمك)، قال: ثم من؟ قال: (أبوك)، وفي رواية قال: (أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أباك، ثم أدناك أدناك)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: (أمُّك) قال: ثم من؟ قال: (أمك)، قال: ثم من؟ قال: (أمك)، قال: ثم من؟ قال: (أبوك)، وفي رواية قال: (أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أباك، ثم أدناك أدناك)
يروي أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟)؛ أي: مَن أَوْلى الناس بحُسن المعاملة وطِيب المعاشرة، والإحسانِ إليه والبِرِّ به؟ فأجابه النَّبيُّ ﷺ بأن قَالَ: «أُمُّكَ»، ثمَّ سأله الرجل قَالَ: (ثُمَّ مَنْ؟)؛ أي: ثمَّ مَن يلي الأمَّ في هذا الحَقِّ؟ فأجابه النبيُّ ﷺ بالإجابةِ نفسِها قَالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ» قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ»: أوصاه النبيُّ ﷺ بالأمِّ ثَلاثَ مرَّاتٍ، مؤكِّدًا فضلَها وحقَّها في البِرِّ وحسن الْمُعاملةِ، ثمَّ سأله الرابعةَ (قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أَبُوكَ»): وهكذا كرَّر النبيُّ ﷺ حقَّ الأمِّ ثلاث مرات، وذكَر حقَّ الأبِ مرَّةً واحدةً، وما كان ذلك تَقليلًا مِن حقِّ الأبِ؛ وإنَّما هو تأكيدٌ على عِظَمِ حقِّ الأمِّ؛ لكثرةِ أفضالِها على ولدِها، وعظم ما تحمَّلَتْه مِن مَشاقَّ ومتاعبَ جِسميةٍ ونفسيَّة أثناءَ حمْلِها به، ووضْعِها وإرضاعِها له، وخِدمتِها وشَفقتِها عليه. وفي رواية لمسلم قال: «أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أَبُوكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ»؛ أي: ثم الأقرب فالأقرب من ذَوي القُربى لهم حقٌّ في البرِّ وحُسن المعاملة بعد الأمِّ والأب.
الشرح المفصَّل للحديثلقد حثَّ الإسلام على برِّ الوالدينِ، وجعله من أعلى مراتب الدين، ونهى عن عقوقهما، وجعله من أكبر الكبائر؛ فجاء الأمرُ ببِرِّ الوالدَين في القرآن الكريم في أكثرَ من موضعٍ؛
قال تعالى:
﴿۞ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوٓا إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّۢ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴿٢٣﴾ وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا﴾
[الإسراء: 23، 24]
وقال تعالى:
﴿وَوَصَّيْنَا ٱلْإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُۥ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍۢ وَفِصَٰلُهُۥ فِى عَامَيْنِ أَنِ ٱشْكُرْ لِى وَلِوَٰلِدَيْكَ إِلَىَّ ٱلْمَصِيرُ﴾.
[لقمان: 14]
وحقُّ الوالدَين متعقِّب لحقِّ الله عزَّ وجلَّ؛
كما قال تعالى:
﴿أَنِ ٱشْكُرْ لِى وَلِوَٰلِدَيْكَ إِلَىَّ ٱلْمَصِيرُ﴾
[لقمان:14].
وبرُّ الوالدين من أحب الأعمال إلى الله تعالى؛
فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ:
سَأَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلى اللَّهِ؟ قَالَ: «الصَّلاةُ عَلى وقْتِهَا»، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ»، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «الجِهَادُ في سَبيل اللهِ»
[1].
وذلك لعِظَم منزلةِ وحقِّ الوالدينِ، وبِرُّ الوالدينِ يكون بالإحسان إليهما، والقيام بخِدمتهما، وتَرْك عُقوقهما.
وإن كنتَ تريد الجنَّةَ، فحافظ على والديكَ؛
فعن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول:
«الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَأَضِعْ ذَلِكَ الْبَابَ، أَوِ احْفَظْهُ»
[2].
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:
«رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ»، قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ، أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا، فَلَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ»
[3].
ومعنى (رَغِم أنفه)؛ أي: خاب وخَسِر وضاعت منه فرصة لدخول الجنة ما حصَّلها الذي يُدرك والدَيْهِ أو أحدهما عند كبرهما ولم يَبَرَّهما.
وفي برِّ الوالدين وصلة الأرحام بركة العُمر، وزيادة الرزق؛
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله ﷺ:
«مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُمَدَّ لَهُ فِي عُمْرِهِ، وَأَنْ يُزَادَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، فَلْيَبَرَّ وَالِدَيْهِ، وَلْيَصِلْ رَحِمَهُ»
[4].
وفي الحديث يروي أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: «أُمُّكَ» قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ» قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ» قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أَبُوكَ»، وفي رواية لمسلم قال: «أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أَبُوكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ»
وفيه "تأكيد حقِّ الأمِّ وأمانة مَبرَّتها على مَبرَّة الأب؛ لكثرة تكلُّفها له من الحمل، ومشقَّة الوضع، ومعاناة الرضاع والتربية، ثم الأب، ثم تنزيل ذلك في القرابة على الأقرب فالأقرب، وفيه تنزيل الناس منازلهم، وأن يوفَّى كلُّ أحد حقَّه على قدر قُرباه وحُرمته ورَحِمه" [5].
و"في هذا الحديث دليل على أن محبَّة الأمِّ والشَّفَقة عليها ينبغي أن تكون ثلاثة أمثال محبَّة الأب؛ لأنه ﷺ كرَّر الأمَّ ثلاثَ مرَّات، وذكر الأب في المرَّة الرابعة فقط، وإذا تؤمِّل هذا المعنى، شهد له العيان؛ وذلك أن صعوبة الحَمل، وصعوبة الوضع، وصعوبة الرضاع والتربية، تنفرد بها الأمُّ، وتشقى بها دون الأب، فهذه ثلاث منازلَ يخلو منها الأب" [6].
وفي الحديث "الحثُّ على برِّ الأقارب، وأنَّ الأمَّ أحقُّهم بذلك، ثمّ بعدها الأب، ثمّ الأقرب فالأقرب" [7].
وقد "تردَّد بعض العلماء في الجَدِّ والأخ، والأكثر على تقديم الجَدِّ، قالوا: يقدَّم الجَدُّ ثمّ الأخُ، ثمّ يقدَّم من أدلى بأبوينِ على من أدلى بواحد، ثمّ تقدَّم القرابة من ذَوي الرَّحِم، ويقدَّم منهم المحارم على مَن ليس بمَحرَم، ثمّ سائر العَصَبات، ثمّ المصاهَرة ثمّ الولاء، ثمّ الجار، وأشار ابن بطَّال إلى أنّ التّرتيب حيث لا يمكِن إيصال البرِّ دَفْعةً واحدةً، وهو واضح، وجاء ما يدلُّ على تقديم الأمِّ في البرِّ مطلَقًا، وهو ما أخرجه أحمد والنّسائيُّ وصحَّحه الحاكم من حديث عائشة
قالَتْ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ:
«أَيُّ النَّاسِ أَعْظَمُ حَقًّا عَلَى الْمَرْأَةِ؟ قَالَ: «زَوْجُهَا»، قُلْتُ: فَأَيُّ النَّاسِ أَعْظَمُ حَقًّا عَلَى الرَّجُلِ؟ قَالَ: «أُمُّهُ»
[8]" [9].
"وأجمع العلماء على أنّ الأمَّ والأب آكَدُ حُرمةً في البِرِّ ممّن سواهما، وتردَّد بعضهم بين الأجداد والإخوة؛ لقوله ﷺ: «ثمّ أدناك أدناك»، فقيل: يُستحبُّ أن تقدَّم في البرِّ الأمُّ، ثمَّ الأبُ، ثمّ الأولاد، ثمّ الأجداد والجَدَّات، ثمّ الإخوة والأخوات، ثمّ سائر المحارم من ذوي الأرحام؛ كالأعمام والعمَّات والأخوال والخالات، ويُقدَّم الأقربُ فالأقرب، ويقدَّم من أدلى بأبوينِ على من أدلى بأحدهما، ثمّ بذي الرَّحِم غير الْمَحرَم؛ كابن العمِّ وبنته، وأولاد الأخوال والخالات، وغيرهم، ثمّ بالمصاهرة، ثمّ بالمولى من أعلى وأسفل، ثمّ الجار، ويقدَّم القريبُ البعيدُ الدّار على الجار، وكذا لو كان القريب في بلد آخَرَ قدِّم على الجار الأجنبيِّ، وألحقوا الزّوج والزَّوجة بالمحارم، واللّه أعلم" [10].
"وقد اختلف العلماء فيما بين الأب والأمِّ، فقيل: يجب أن يكون بِرُّهما سواءً، وقيل: إن حقَّ الأمِّ آكَدُ، وأن لها ثُلثَيِ البِرَّ. أما الأجداد فلا يَبلُغون مبلغ الآباء؛ فقد سُلب اسم الأبوَّة عنهم في الحقيقة،
ولقوله تعالى:
﴿أَحَدُهُمَآ أَوْ كِلَاهُمَا﴾
[الإسراء: 23]،
ولو كان حُكْمُ الأجداد حُكْمَ الآباء، لقاله بلفظ الجمع. وذهب أهل العلم إلى لُزومِ برِّ الأجداد، وتقديمهم، وقُرْبهم من برِّ الآباء، وقد رأى مالك وأصحابه أنه لا يُقتصُّ من الجَدِّ في ابن ابنه إلا أن يفعل به ما لا يُشَكُّ في قصده قتلَه كالأب سواءً. وكذلك قالوا في الجهاد بغير إذنهما، لا يجوز كالآباء، وكذلك اختلفوا في تغليظ الدِّيَة عليه في عمدِ قتلِه، وفى قطعهم في السَّرِقة من مال فقرائهم" [11].
"وهذا كله تفسير لقوله تعالى:
﴿۞ وَٱعْبُدُوا ٱللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِۦ شَيْـًٔا ۖ وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا وَبِذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَٰمَىٰ﴾
[النساء: 36]،
وقوله تعالى:
﴿وَءَاتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُۥ﴾
[الإسراء: 26]،
فجعل سبحانه حقَّ ذي القُربى يلي حقَّ الوالدينِ، كما جعله النبيُّ ﷺ سواء بسواء، وأخبر سبحانه أن لذي القربى حقًّا على قَرابته، وأمر بإتيانه إيَّاه، فإن لم يكن ذلك حقَّ النَّفَقة، فلا ندري أيُّ حقٍّ هو؟ وأمر تعالى بالإحسان إلى ذي القُربى. ومن أعظم الإساءة أن يراه يموت جوعًا وعُرْيًا، وهو قادر على سدِّ خَلَّته، وستر عَوْرته، ولا يُطعمه لُقمة، ولا يستر له عورة إلَّا بأن يُقرضه ذلك في ذمَّته" [12].
وللوالدين كثير من حقوق البر والإحسان المعلومة، ومن أهمِّها حقُّ الوالدين في استئذانهما للجهاد غير الفريضة؛ فعن عبدِالله بنِ عمرٍو – رضي الله عنهما – قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الجِهَادِ، فَقَالَ: «أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟»، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ» [13]؛ أي: ابذل جَهْدَك في إرضائهما وبِرِّهما، والإحسان إليهما، فيُكتَب لك أجر الجهاد في سبيل الله تعالى.
و"هذا كلُّه دليل لعِظَم فضيلة برِّهما، وأنّه آكَدُ من الجهاد، وفيه حُجَّة لِما قاله العلماء أنّه لا يجوز الجهاد إلّا بإذنهما إذا كانا مسلمينِ، أو بإذن المسلم منهما، فلو كانا مشركينِ لم يُشترَط إذنهما عند الشّافعيِّ ومن وافَقَه، وشَرَطه الثَّوريُّ، هذا كلُّه إذا لم يَحضُر الصَّف ويتعيَّن القتال، وإلّا فحينئذ يجوز بغير إذن، وأجمع العلماء على الأمر ببرِّ الوالدينِ، وأنّ عقوقهما حرامٌ من الكبائر" [14].
ولعظم حقِّ الأبوين؛ لا يقوم ولدٌ بما لأبيه عليه من حقٍّ ولا يُكافِئه بإحسانه به إلَّا أن يصادفه مملوكًا فيُعتقه؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله ﷺ: «لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدًا، إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا، فَيَشْتَرِيَهُ، فَيُعْتِقَهُ» [15].
ولا ينتهي بر الوالدين بموتهما؛
فعن أبي أُسَيْدٍ قال:
بَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ بَقِيَ عَلَيَّ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ بَعْدَ مَوْتِهِمَا أَبَرُّهُمَا بِهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ، خِصَالٌ أَرْبَعَةٌ: الصَّلاَةُ عَلَيْهِمَا، وَالاِسْتِغْفَارُ لَهُمَا، وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لا رَحِمَ لَكَ إِلاَّ مِنْ قِبَلِهِمَا، فَهُوَ الَّذِي بَقِيَ عَلَيْكَ مِنْ بِرِّهِمَا بَعْدَ مَوْتِهِمَا»
[16].
1. رواه البخاريُّ (527)، ومسلم (85).
2. رواه أحمد (28061)، وابن ماجه (3663)، والترمذيُّ (1900)، وقال: هذا حديث صحيح، وصححه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (2486).
3. رواه مسلم (2551).
4. رواه أحمد (13434)، وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (2488).
5. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (8/ 5).
6. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (9/ 189).
7. "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 102، 103).
8. رواه النسائيُّ (9103)، والحاكم (7244) وصحَّحه.
9. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 402).
10. "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 102، 103).
11. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (8/ 5 - 7).
12. "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 484).
13. رواه البخاريُّ (3004)، ومسلم (2549).
14. "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 104).
15. رواه مسلم (1510).
16. رواه أحمد (16156)، والبخاريُّ في "الأدب المفرد" (35)، وأبو داود (5142)، وابن ماجه (3664)، والحاكم (4/154)، وصحَّحه الحاكم ووافقه الذهبيُّ، وضعَّفه الألبانيُّ في "ضعيف الترغيب والترهيب" (1482).
قال ابن بطال رحمه الله: "في هذا الحديث دليل على أن محبَّة الأمِّ والشَّفَقة عليها ينبغي أن تكون ثلاثة أمثال محبَّة الأب؛ لأنه - عليه السلام - كرَّر الأمَّ ثلاثَ مرَّات، وذكر الأب في المرَّة الرابعة فقط، وإذا تؤمِّل هذا المعنى، شهد له العيان؛ وذلك أن صعوبة الحَمل، وصعوبة الوضع، وصعوبة الرضاع والتربية، تنفرد بها الأمُّ، وتشقى بها دون الأب، فهذه ثلاث منازلَ يخلو منها الأب" [1].
قال النوويُّ رحمه الله: "وفيه الحثُّ على برِّ الأقارب، وأنَّ الأمَّ أحقُّهم بذلك، ثمّ بعدها الأب، ثمّ الأقرب فالأقرب. قال العلماء: وسبب تقديم الأمِّ كثرةُ تَعَبها عليه، وشَفَقتها، وخِدمتها، ومعاناة المشاقِّ في حمله، ثمّ وضعه ثمّ إرضاعه ثمّ تربيته وخدمته وتمريضه، وغير ذلك، ونقل الحارث المحاسبيُّ إجماع العلماء على أنّ الأمَّ تفضَّل في البرِّ على الأب، وحكى القاضي عياض خلافًا في ذلك، فقال الجمهور بتفضيلها، وقال بعضهم: يكون بِرُّهما سواءً. قال: ونَسَب بعضهم هذا إلى مالك، والصّواب الأوّل؛ لصريح هذه الأحاديث في المعنى المذكور واللّه أعلم. قال القاضي: وأجمعوا على أنّ الأمَّ والأب آكَدُ حُرمةً في البِرِّ ممّن سواهما. قال: وتردَّد بعضهم بين الأجداد والإخوة؛ لقوله ﷺ: «ثمّ أدناك أدناك»، قال أصحابنا: يُستحبُّ أن تقدَّم في البرِّ الأمُّ، ثمَّ الأبُ، ثمّ الأولاد، ثمّ الأجداد والجَدَّات، ثمّ الإخوة والأخوات، ثمّ سائر المحارم من ذوي الأرحام؛ كالأعمام والعمَّات والأخوال والخالات، ويُقدَّم الأقربُ فالأقرب، ويقدَّم من أدلى بأبوينِ على من أدلى بأحدهما، ثمّ بذي الرَّحِم غير الْمَحرَم؛ كابن العمِّ وبنته، وأولاد الأخوال والخالات، وغيرهم، ثمّ بالمصاهرة، ثمّ بالمولى من أعلى وأسفل، ثمّ الجار، ويقدَّم القريبُ البعيدُ الدّار على الجار، وكذا لو كان القريب في بلد آخَرَ قدِّم على الجار الأجنبيِّ، وألحقوا الزّوج والزَّوجة بالمحارم، واللّه أعلم" [2].
قال القاضي عياض رحمه الله: "لكنه تأكيد حقِّ الأمِّ وأمانة مَبرَّتها على مَبرَّة الأب؛ لكثرة تكلُّفها له من الحمل، ومشقَّة الوضع، ومعاناة الرضاع والتربية، ثم الأب، ثم تنزيل ذلك في القرابة على الأقرب فالأقرب، وفيه تنزيل الناس منازلهم، وأن يوفَّى كلُّ أحد حقَّه على قدر قُرباه وحُرمته ورَحِمه" [3].
قال ابن حجر رحمه الله: "قال ابن بطّال: مقتضاه أن يكون للأمِّ ثلاثة أمثال ما للأب من البِرِّ، قال: وكان ذلك لصعوبة الحمل، ثمّ الوضع، ثمّ الرَّضاع، فهذه تنفرد بها الأمُّ، وتشقى بها، ثمّ تشارك الأب في التّربية، وقد وقعت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى:
﴿وَوَصَّيْنَا ٱلْإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُۥ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍۢ وَفِصَٰلُهُۥ فِى عَامَيْنِ﴾
[لقمان: 14]،
فسوَّى بينهما في الوصاية، وخصَّ الأمَّ بالأمور الثّلاثة. قال القرطبيُّ: المراد أنّ الأمَّ تستحقُّ على الولد الحظَّ الأوفر من البرِّ، وتقدَّم في ذلك على حقِّ الأب عند المزاحمة، وقال عياض: وذهب الجمهور إلى أنَّ الأمَّ تفضَّل في البرِّ على الأب، وقيل: يكون برُّهما سواءً، ونقله بعضهم عن مالك، والصّواب الأوّل. قلت: إلى الثّاني ذهب بعض الشّافعيّة؛ لكن نقل الحارث المحاسبيُّ الإجماع على تفضيل الأمِّ في البرِّ، وفيه نظر، والمنقول عن مالك ليس صريحًا في ذلك" [4].
قال القاضي عياض رحمه الله: "وقد اختلف العلماء فيما بين الأب والأمِّ، فقيل: يجب أن يكون بِرُّهما سواءً، وتأوَّل أن هذا اختيار مالك، ومذهبُه، وروى الليثُ أن حقَّ الأمِّ آكَدُ، وأن لها ثُلثَيِ البِرَّ. وذكر المحاسبيُّ أن تفضيل الأمِّ على الأب في البِرِّ إجماع العلماء. ولا خلاف أن الآباء والأمَّهات آكَدُ حرمةً في البِرِّ ممَّن عَدَاهما. وتردَّد بعضهم بين الأجداد والإخوة؛ لقوله: «ثم أدناك فأدناك». قال الإمام أبو بكر الطرطوشيُّ: ولم أجد نصًّا للعلماء في الأجداد، والذى عندي أنهم لا يَبلُغون مبلغ الآباء، واستدلَّ بسلب اسم الأبوَّة عنهم في الحقيقة،
ولقوله تعالى:
﴿أَحَدُهُمَآ أَوْ كِلَاهُمَا﴾
[الإسراء: 23]،
ولو كان حُكْمُ الأجداد حُكْمَ الآباء، لقاله بلفظ الجمع، ولقوله: «أمك، ثم أباك فأدناك»، وفى حديث آخَرَ: «أمك وأباك وأختك وأخاك ومولاك، ثم أدناك فأدناك»، قال: فتقبل - عليه الصلاة والسلام – الجواب، ورتَّب الإخوة بعد الآباء. واحتجَّ أيضًا بقوله:
﴿كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا﴾
[الإسراء: 24]،
قال: والتربية لا تكون إلا للوالدينِ.
قال القاضي: والذي عندي خلاف ما ذهب إليه كلِّه، والمعروف من قول مالك ومَن وافَقَه من أهل العلم من أصحابه وغيرهم لُزومُ برِّ الأجداد، وتقديمُهم، وقُرْبُهم من برِّ الآباء. وقد رأى مالك وأصحابه أنه لا يُقتصُّ من الجَدِّ في ابن ابنه إلا أن يفعل به ما لا يُشَكُّ في قصده قتلَه كالأب سواءً. وكذلك قالوا في الجهاد بغير إذنهما، لا يجوز كالآباء.
وكذلك اختلفوا في تغليظ الدِّيَة عليه في عمدِ قتلِه، وفى قطعهم في السَّرِقة من مال فقرائهم، وأما الحديث الذى احتجَّ به من قوله: «أمك وأباك، وأختك وأخاك ومولاك»، فهو حُجَّة عليه؛ لأنه لَمَّا لم يَذكُر الأجداد، وقد ذكر الموالي، دلَّ أنهم داخلون في عموم الآباء" [5].
قال النوويُّ رحمه الله: "هذا كلُّه دليل لعِظَم فضيلة برِّهما، وأنّه آكَدُ من الجهاد، وفيه حُجَّة لِما قاله العلماء أنّه لا يجوز الجهاد إلّا بإذنهما إذا كانا مسلمينِ، أو بإذن المسلم منهما، فلو كانا مشركينِ لم يُشترَط إذنهما عند الشّافعيِّ ومن وافَقَه، وشَرَطه الثَّوريُّ، هذا كلُّه إذا لم يَحضُر الصَّف، ويتعيَّن القتال، وإلّا فحينئذ يجوز بغير إذن، وأجمع العلماء على الأمر ببرِّ الوالدينِ، وأنّ عقوقهما حرامٌ من الكبائر" [6].
قال القاضي عياض رحمه الله: "قوله - عليه السلام - للذي قال له: أُبايعُك على الهجرة والجهاد، وقوله له: أبتغى الأجر: «ارجعْ إلى والدَيْكَ، فأَحْسِنْ صُحْبتَهما»، وفى الحديث الآخر: «وفيهما فجاهد»: يحتمل أن هذا كان بعد الفتح وسُقوط فرض الهجرة والجهاد، وظُهور الدين، أو كان ذلك من الأعراب وغيره، كانت تجب عليه الهجرة، فرجَّح برَّ والدَيْهِ وعظيم حقِّهما، وكثرة الأجر على بِرِّهما، وأن ذلك أفضل من الجهاد، وحسبُك بهذا، ولم يرَ أهل العلم الجهاد إلا بإذنهما. واختُلف إذا كانا مشركينِ، فقال الثوريُّ: هما كالمسلمينِ. وقال الشافعيُّ: له الغزو بغير إذنهما. قال أهل العلم: وهذا ما لم يتعيَّن فرضه ويَلزَم النَّفِير، وهذا لا إذنَ فيه لهما، ولا خلاف في وجوب برِّ الوالدين، وأن عقوقهما من الكبائر" [7].
قال ابن حجر رحمه الله: "قال عياض: تردَّد بعض العلماء في الجَدِّ والأخ، والأكثر على تقديم الجَدِّ. قلت: وبه جزم الشّافعيّة، قالوا: يقدَّم الجَدُّ ثمّ الأخُ، ثمّ يقدَّم من أدلى بأبوينِ على من أدلى بواحد، ثمّ تقدَّم القرابة من ذَوي الرَّحِم، ويقدَّم منهم المحارم على مَن ليس بمَحرَم، ثمّ سائر العَصَبات، ثمّ المصاهَرة ثمّ الولاء، ثمّ الجار، وأشار ابن بطَّال إلى أنّ التّرتيب حيث لا يمكِن إيصال البرِّ دَفْعةً واحدةً، وهو واضح، وجاء ما يدلُّ على تقديم الأمِّ في البرِّ مطلَقًا، وهو ما أخرجه أحمد والنّسائيُّ وصحَّحه الحاكم من حديث عائشة قَالَتْ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ: أَيُّ النَّاسِ أَعْظَمُ حَقًّا عَلَى الْمَرْأَةِ؟ قَالَ: «زَوْجُهَا»، قُلْتُ: فَأَيُّ النَّاسِ أَعْظَمُ حَقًّا عَلَى الرَّجُلِ؟ قَالَ: «أُمُّهُ» [8]" [9].
قال ابن القيم رحمه الله: "وهذا كله تفسير لقوله تعالى:
﴿وَٱعْبُدُوا ٱللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِۦ شَيْـًٔا ۖ وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا وَبِذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَٰمَىٰ وَٱلْمَسَٰكِينِ وَٱلْجَارِ ذِى ٱلْقُرْبَىٰ﴾
[النساء: 36]،
وقوله تعالى:
﴿وَءَاتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُۥ﴾
[الإسراء: 26]
فجعل سبحانه حقَّ ذي القُربى يلي حقَّ الوالدينِ، كما جعله النبيُّ ﷺ سواء بسواء، وأخبر سبحانه أن لذي القربى حقًّا على قَرابته، وأمر بإتيانه إيَّاه، فإن لم يكن ذلك حقَّ النَّفَقة، فلا ندري أيُّ حقٍّ هو؟ وأمر تعالى بالإحسان إلى ذي القُربى. ومن أعظم الإساءة أن يراه يموت جوعًا وعُرْيًا، وهو قادر على سدِّ خَلَّته، وستر عَوْرته، ولا يُطعمه لُقمة، ولا يستر له عورة إلَّا بأن يُقرضه ذلك في ذمَّته" [10].
1. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (9/ 189).
2. "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 102، 103).
3. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (8/ 5).
4. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 402).
5. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (8/ 5 - 7).
6. "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 104).
7. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (8/ 7).
8. رواه النسائيُّ (9103)، والحاكم (7244) وصحَّحه.
9. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 402).
10. "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 484).