المعني الاجمالي للحديث
يروي أبو هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ ﷺ
يروي أبو هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنه قَالَ «إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ، لَمْ تَكَدْ رُؤْيَا الْمُسْلِمِ تَكْذِبُ، وَأَصْدَقُكُمْ رُؤْيَا أَصْدَقُكُمْ حَدِيثًا، وَرُؤْيَا الْمُسْلِمِ جُزْءٌ مِنْ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ»
أي: إذا قَرُب أمرُ الساعة والآخرة، لم تكد رؤيا المؤمن تَكذِب، وأصدقُ الناس حديثًا أصدقُهم رؤيا، والرؤيا جزءٌ من خَمْسٍ وأربعين جزءًا من النبوَّة. «وَالرُّؤْيَا ثَلَاثَةٌ»؛ أي: ثلاثةُ أنواع: «فَرُؤْيَا الصَّالِحَةِ بُشْرَى مِنَ اللهِ». أوَّلُها: الرؤيا الصالحة الحَسَنة، وهي بُشرى من الله. «وَرُؤْيَا تَحْزِينٌ مِنَ الشَّيْطَانِ» ثانيها: الرؤيا السيِّئة، وهي من الشيطان، تُصِيبكُ بالحُزْنِ والهمِّ والغمِّ. «وَرُؤْيَا مِمَّا يُحَدِّثُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ» وهذه الثالثة: يرى الْمَرء في منامه أنه يَلُوم نفسَه، أو يحدِّث نفسَه بحديث، أو يَأمُر نفسَه بأمر، أو ينهاها عن نهيٍ، أو يوبِّخ نفسَه، أو غير ذلك.
«فَإِنْ رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يَكْرَهُ، فَلْيَقُمْ فَلْيُصَلِّ، وَلَا يُحَدِّثْ بِهَا النَّاسَ»
أي: إن رأى أحدكم ما يَكرَه في مَنامه، فليَقُمْ من نومه، ثم ليتوضَّأْ، وليُصَلِّ ركعتينِ أو ما يشاء، ولا يحدِّث بها الناس.
الشرح المفصَّل للحديث:
إن الرؤيا الصالحة هي عاجلُ بُشرى المؤمن في الدنيا؛ فعن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ
قال: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَنْ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:
لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۚ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [يونس: ٦٤]، فَقَالَ: «هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ، يَرَاهَا الْمُسْلِمُ، أَوْ تُرَى لَه»
وبعد انقطاع الوحيِ، لم يَبْقَ من مبشِّرات النُّبوَّة إلَّا الرؤيا الصالحة؛
فعَن ابْنِ عَبَّاسٍ، قَال:
كَشَفَ رَسُولُ اللهِ ﷺ السِّتَارَةَ وَالنَّاسُ صُفُوفٌ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ، يَرَاهَا الْمُسْلِمُ، أَوْ تُرَى لَهُ».
«إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ، لَمْ تَكَدْ رُؤْيَا الْمُسْلِمِ تَكْذِبُ، وَأَصْدَقُكُمْ رُؤْيَا أَصْدَقُكُمْ حَدِيثًا، وَرُؤْيَا الْمُسْلِمِ جُزْءٌ مِنْ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ»؛
أي: إذا قَرُب أمرُ الساعة والآخرة، لم تكد رؤيا المؤمن تَكذِب، وأصدقُ الناس حديثًا أصدقُهم رؤيا، وهذا يدلُّ على أن الرؤيا الصالحةَ لها شأنٌ عظيم؛ فهي جزء من النبوَّة، وإنها لا تكاد تَكذِب في آخر الزمان إذا رآها المؤمنُ الصَّدُوق، فينبغي للمؤمن أن يتحرَّى الصِّدق في حديثه كلِّه، وأن يتحرَّى الاستقامة في أعماله كلِّها؛ فإنه كلَّما استقام في دينه، نالته بُشرى الدنيا ومبشِّرات النبوَّة، وكانت الرؤيا أقربَ إلى الصِّدق؛ فعلى حَسَبِ صِدقه في يَقَظته واستقامتِه في يقظته، وصلاحه، تكون رؤياه.
و"قولُه ﷺ: «وأصدقُكم رؤيا أصدقُكم حديثًا»: ظاهره أنّه على إطلاقه، وقال بعض العلماءِ: إنّ هذا يكون في آخِر الزمان عند انقطاع العلم، ومَوت العلماء والصالحين، ومن يُستضاء بقوله وعَمَله، فجعله اللّه تعالى جابرًا وعِوَضًا ومنبِّهًا لهم، والأوَّلُ أظهر؛ لأن غيرَ الصادق في حديثه يتطرَّق الخَلَل إلى رؤياه وحكايته إيَّاها" [3]
ففي "قوله: «أصدقُكم رؤيا أصدقكم حديثًا»: إنما كان ذلك لأن من كَثُر صِدقُه تَنوَّر قلبُه، وتَقَوَّى إدراكُه، فانتقشت فيه المعاني على وجه الصِّحَّة والاستقامة، وأيضًا فإن من كان غالبُ حالِه الصِّدقَ في يقظته، استَصحَب ذلك في نومه، فلا يَرى إلَّا صدقًا. وعكسُ ذلك الكاذبُ والْمُخلِّط، يَفسَدُ قلبه، ويُظلِم، فلا يَرى إلا تخليطًا وأضغاثًا، هذا غالبُ حال كلِّ واحد من الفريقين، وقد يَنْدُرُ فيرى الصادقُ ما لا يصحُّ، ويرى الكاذب ما يصِحُّ؛ لكن ذلك قليل، والأصلُ ما ذكرناه"[4].
"وإن الرؤيا لا تكون من أجزاء النبوَّة إلَّا إذا وقعت من مسلم صادق صالح، وهو الذي يُناسِب حالُه حالَ النبيِّ ﷺ، فكُرِّم بنوع ممَّا أُكرِم به الأنبياء عليهم السلام، وهو الاطِّلاع على شيء من علم الغيب؛ كما قال ﷺ: «إنه لم يبقَ من مبشِّرات النبوَّة إلا الرؤيا الصادقة في النَّوْمِ، يراها الرجلُ الصالح، أو تُرى له»، فإنَّ الكافر، والكاذبَ، والمخلِّطَ، وإن صَدَقت رؤاهم في بعض الأوقات، لا تكون من الوحيِ، ولا من النبيِّ ﷺ؛ إذ ليس كلُّ من صَدَق في حديث عن غَيْبٍ، يكون خبرُه ذلك نبوَّةً؛ فالكاهنُ يُخبِر بكلمة الحقِّ، وكذلك المنجِّم قد يَحْدِس فيَصدُق؛ لكن على النُّدُور والقِلَّة، وكذلك الكافرُ، والفاسق، والكاذب، وقد يرى الْمَنام الحقَّ، ويكون ذلك الْمَنامُ سببًا في شرٍّ يَلحَقُه، أو أمرٍ يَنالُه... إلى غير ذلك من الوجوه المعتبَرة المقصودة به، وقد وقعت لبعض الكفَّار مناماتٌ صحيحة صادقة؛ كمَنام الْمَلِك الذي رأى سَبْعَ بَقَرات، ومَنامِ الفتَيَيْنِ في السِّجن، ومَنام عاتكةَ عمَّة رسول الله ﷺ وهي كافرة، ونحوُه كثير؛ لكن ذلك قليل بالنسبة إلى مناماتهم المخلِّطة والفاسدة"[5].
"وأما قولُه: «رؤيا المسلم جزءٌ من خمسة وأربعين – وفي رواية: ستة وأربعين - جزءًا من النُّبوَّة» فسَّر بعض العلماء معنى هذا العدد من الأجزاء بأن النبيَّ ﷺ أقام يوحَى إليه ثلاثةً وعشرين عامًا: عشَرةً بالمدينة، وثلاثةَ عَشَرَ بمكَّةَ، وكان قبل ذلك بستَّة أشهر يَرى في الَمنَامِ ما يُلقيه إليه الْمَلَك عَلَيهِما السلام، وذلك نصفُ سَنة، ونصف سَنَةٍ من ثلاث وعشرين سنةً جزءٌ من ستَّة وأربعين جزءًا من النّبوَّة.
وقد قيل: إن النّبيَّ ﷺ قد خُصَّ دون الخَلِيقة بضُروب وفنون، وجُعِل له إلى العلم طُرُقٌ لم تُجعَل لغيره، فيكون المرادُ أن الْمَناماتِ نِسبتُها مما حصل له وميِّز به جزءٌ من ستَّة وأربعين، فلا يبقى على هذا إلا أن يُقال: بَيِّنُوا هذه الأجزاء، ولا يَلزَم العلماءَ أن تَعرِف كلَّ شيء جُملةً وتفصيلاً، وقد جعل الله سبحانه للعلماء حَدًّا تَقِف عنده، فمنها ما لا تَعْلَمُه أصلاً، ومنها ما تَعلَمه جُملةً ولا تَعلَمه تفصيلاً، وهذا منه، ومنها ما تَعْلَمُه جُملةً وتفصيلاً، لا سِيَّما ما طريقتُه السَّمْعُ، ولا مدخَلَ للعقل فيه؛ فإنّما يُعرَف منه قَدْرُ ما عُرِف به السَّمع"[6]
و"اختلفت الرواية في عدد أجزاء النبوَّة التي جُعلت رؤيا الرجل الصالح واحدًا منها، من ستَّة وعشرين إلى سبعين، وأكثرُها في الصحيحين، وكلُّها مشهور؛ فلا سبيلَ إلى أخذ أحدِها، وطَرْحِ الباقي، والوجهُ الذي يتعيَّن الْمَصيرُ إليه أن يُقال: إن هذه الأحاديثَ - وإن اختلفت ألفاظُها - متَّفِقةٌ على أن الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح جزءٌ من أجزاء النبوَّة؛ فهذه شهادة صحيحة من النبيِّ ﷺ لها بأنها وحيٌ من الله تعالى، وأنها صادقةٌ لا كَذِب فيها؛ ولذلك قال مالك، وقد قيل له: أيفسِّر الرؤيا كلُّ أَحَدٍ؟ فقال: أيُلعَب بالوحي؟! وإذا كانت هكذا، فيتَعيَّن على الرائي أن يعتنيَ بها، ويسعى في تفهُّمها، ومعرفة تأويلها؛ فإنَّها إمَّا مبشِّرةٌ له بخير، أو محذِّرة له من شرٍّ، فإنْ أَدرَك تأويلها بنفسه، وإلَّا سأل عنها من له أهليَّةُ ذلك، وهو اللبيبُ الحبيب؛ ولذلك كان النبيُّ ﷺ يقول إذا أصبح: «هل رأى أحدٌ منكم الليلة رؤيا فليقصَّها، أُعبِّرها؟»[7]، فكانوا يقصُّون عليه، ويَعْبُرُ. وقد سلك أصحابه ذلك المسلك في حياته، وبعد وفاته، وقد كان يقتبس الأحكام من منامات أصحابه؛ كما فَعَل في رؤيا الأذان، وفي رؤيا ليلة القدر. وكلُّ ذلك بناءً على أنها وحيٌ صحيح"[8].
والرؤيا تقع حقًّا، وما فيها هو خَبَرٌ بالغَيب، والخبرُ بالغَيب أحدُ ثمرات النبوَّة؛ إلا أنه ربما دلَّت الرؤيا على شيء، ولم يَقَع ما دلَّت عليه؛ إمّا لِكَوْنهَا مِن الشّيطان، أو من حَدِيثِ نَفْسٍ، أو من غَلَطِ العَابِر في أصل العبارة، إلى غير ذلك من الضُّروب الكثيرة التي توجب عدم الثقة بدلالة الْمَنام أو الاعتماد عليه.
لذا؛ قال ﷺ: «وَالرُّؤْيَا ثَلَاثَةٌ»؛ أي: ثلاثة أنواع: «فَرُؤْيَا الصَّالِحَةِ بُشْرَى مِنَ اللهِ». أوَّلها: الرؤيا الصالحة الحسنة، وهي بُشرى من الله؛ إلَّا أنه لا ينبغي للإنسان أن يعتمد على الرؤيا؛ بل عليه أن يَجتهِد في العمل الصالح والاستقامة، فتَسُرُّه الرؤيا الصالحة؛ ولكن لا تُضعِفه عن عمل، ولا تُوكِله عن العمل؛ بل عليه أن يظلَّ مُجِدًّا في العمل الصالح.
«وَرُؤْيَا تَحْزِينٌ مِنَ الشَّيْطَانِ» ثانيها: الرؤيا السيِّئة أو الحُلم السيِّئ من الشيطان، تُصِيبكُ بالحُزْنِ والهمِّ والغمِّ. «وَرُؤْيَا مِمَّا يُحَدِّثُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ» وهذه الثالثة: يرى الْمَرء في منامه أنه يَلُوم نفسَه، أو يحدِّث نفسَه بحديث، أو يَأمُر نفسَه بأمر، أو ينهاها عن نهيٍ، أو يوبِّخ نفسَه، أو غير ذلك.
«فَإِنْ رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يَكْرَهُ، فَلْيَقُمْ فَلْيُصَلِّ، وَلَا يُحَدِّثْ بِهَا النَّاسَ»؛ أي: إن رأى أحدكم ما يَكرَه، فليَقُمْ من نومه، ثم ليتوضَّأْ، وليُصَلِّ ركعتينِ أو ما يشاء، ولا يحدِّث بها الناس، فإنها لا تضرُّه.
و"الرؤيا الصحيحة إنذارٌ من الله، وعناية بعبده؛ لئلَّا يَفجَؤه ما قدِّر عليه بغتةً، وليكون فيه على حَذَرٍ وأُهْبَة، كما أن الرؤيا الصالحة والحسنة من الصالحين، هذا أيضًا على الغالب، وقد يكون في رؤياهم أضغاث؛ ولكن على سبيل النُّدور، بضدِّ الأولى لعوارضَ تقتضى ذلك - واللهُ أعلم - من وسوسة النفس وحديثها، أو غلبة خلط عليه، أو فساد ذكرها أحيانًا وتخييلها وفكرها.
ويَحتمِل قوله: (الصالحة) أن يكون راجعًا إلى حُسن ظاهرها، ويَحتمِل أن يرجع إلى صحَّتها، كما أن قوله في الأخرى: (السوء) يَحتمِل الوجهين: سوء الظاهر، أو سوء التأويل.
وفي أمره بنَفثِه وبَصقِه ثلاثًا: طردٌ للشيطان الذي حَضَر رؤياه المكروهة، واستقذاره لها، كما يَبصُق على ما يَستقذِر ويَكرَه، كما أَمَر بذلك عند التثاؤب. وكَوْنُ ذلك في يساره؛ لأن اليسار أبدًا جِهَةُ الشيطان، وجهة الْمَذامِّ والأقذار، والجهة المشؤومة، بضدِّ اليَمين، والعربُ تسمِّيها الشُّؤْم. وقولُه: "فليَبصُق، وليتفل، ولينفث" على اختلاف الأحاديث، كلُّه بمعنًى.
وأمرُه بتحويله عن جَنْبِه: تفاؤلاً بتحويل حالها، وظاهر مكروه تأويلها، وأنها لا تضرُّه، وهذا يصحِّح أحد التأويلين في قوله: «لا تضرُّه» أنه عائد إلى صرف سوء تأويلها، ودَفْع اللهِ بما فعل عنه مكروهها.
وأما قولُه: «ولا يحدِّث بها الناس»، أو «ولا تُخبِرْ بها أحدًا»، فما فائدة كتمانها؟ فقيل: إن ذلك مخافة تعجيل اشتغال السوء بمكروه تفسيرها، إن وافَقَ ظاهرُها باطنَها، والتعذيب به مدَّةً لا يُدرى قُرْبُها من بُعْدِها، فقد تَخرُج الرؤيا بعد طول السنين، وإذا لم يُخبِر بها، وفعل ما أُمِر به من النَّفث والاستعاذة، كان دواءَ مكروهها، وخروجُها عن ذلك على أحد التأولين، وعلى التأويل الآخر: أن ذلك إنما يُريك رَوعتها، وتحزنه بها. وإذا لم يَذكُرْها لأحدٍ، ولم يُفصَّل له تفسيرها، بَقِيَ بين الطمع والرجاء من أنه أهل لها تفسيرًا حسنًا، أو أنها من أضغاث الأحلام، أو حديث النفس، فكان أسكنَ لنفسه، وأقلَّ لتعذيب قلبه"[9]
والأحاديث التي تتناول كيفية التعامل مع الرؤيا متكاثرة؛ منها:
عن أبي قتادة قال: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ:
«الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنَ اللَّهِ، وَالْحُلُمُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا حَلَمَ أَحَدُكُمْ حُلُمًا يَخَافُهُ، فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ، وَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا، فَإِنَّهَا لا تَضُرُّهُ»
وعَنْ جَابِرٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ:
«إِذَا رَأَى أَحَدُكُمُ الرُّؤْيَا يَكْرَهُهَا، فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا، وَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ ثَلَاثًا، وَلْيَتَحَوَّلْ عَنْ جَنْبِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ»
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ:
«إِذَا رَأَى أَحَدُكُمُ الرُّؤْيَا يُحِبُّهَا، فَإِنَّهَا مِنَ اللَّهِ، فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ عَلَيْهَا، وَلْيُحَدِّثْ بِهَا، وَإِذَا رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَكْرَهُ، فَإِنَّمَا هِيَ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ شَرِّهَا، وَلا يَذْكُرْهَا لِأَحَدٍ؛ فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ»
وعَنْ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ
أَنَّهُ قَالَ لأَعْرَابِيٍّ جَاءَهُ فَقَالَ: إِنِّي حَلَمْتُ أَنَّ رَأْسِي قُطِعَ فَأَنَا أَتَّبِعُهُ، فَزَجَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ وَقَالَ: «لا تُخْبِرْ بِتَلَعُّبِ الشَّيْطَانِ بِكَ فِي الْمَنَامِ»
وعليه؛ فإن الرؤيا الصالحة الحسنة السارَّة هي من الله، وأن الرؤيا السيِّئة التي يَكرهها الإنسان، هي حُلْمٌ من الشيطان؛ فعليه أن يستعيذ من شرِّها.
ونلخِّص أهمَّ الآداب في هذه الأحاديث لمن رأى ما يَكرَه في منامه؛ فإن التزم الْمَرْءُ بهذه الآداب، فيُرجى له أن لا تَضُرَّه هذه الرؤيا المكروهة كما ورد في الأحاديث، وأهمُّها:
أن يَعلَم أن هذا الحُلم من الشيطان يُريد إحزانه، وأن يصيبه بالهمِّ والغمِّ، فليُرغِمِ الشيطان، ولا يلتفت إليه.
يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم.
يستعيذ بالله من شرِّ هذه الرؤيا.
يَنفُث أو يتفل أو يبصق (يَنفُخ مع شيء يسير من الريق) عن يساره ثلاثًا.
لا يحدِّث بها أحدًا.
يتحوَّل عن جنبه الذي كان عليه، فإن كان على جنبه الأيسر، تحوَّل للأيمن، والعكس بالعكس.
يقوِّم ليُصلِّيَ.
المراجع
- رواه أحمد (23063)، وابن ماجه (3898)، والترمذيُّ (2273)، وقال الترمذيُّ: هذا حديث حسن، قال شُعيب الأرنؤوط: صحيحٌ لغَيره، وهذا إسنادٌ رجالُه ثِقاتٌ رجالُ الشَّيخين.
- رواه مسلم (479).
- شرح النوويِّ على مسلم" (15/ 20، 21).
- "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (18/ 117).
- "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (18/ 119).
- "المعلم بفوائد مسلم" للمازريِّ (3/ 203، 204).
- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ يَقُولُ: «هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمُ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا؟»، وَيَقُولُ «إِنَّهُ لَيْسَ يَبْقَى بَعْدِي مِنَ النُّبُوَّةِ إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ». رواه أحمد (8296)، وأبو داود (5017)، والترمذيُّ (2294)، وقال الترمذيُّ: هذا حديث حسن صحيح.
- المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (18/ 120).
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (7/ 207، 208).
- رواه البخاريُّ (3292).
- رواه مسلم (2262).
- رواه البخاريُّ (7045)
- رواه مسلم (2268).
النقول
قال المازريُّ رحمه الله : "اختلف النَّاس في معنى قوله: «إذا اقترب الزّمان لمَ تكن رؤيَا المسلم تكذب» فقال بعضهم: المرادُ به: إذا اقترب من اعتدال اللَّيل والنّهار، فإن الرُّؤيا حينئذ لم تَكَد تَكِذب. وبهذا فسَّره أبو داود، وقال بعضُهم: بل المراد: آخِرُ الزَّمان والقُرب من القِيَامة"[1].
قال أبو العباس القرطبيُّ رحمه الله: "وقوله: «أصدقُكم رؤيا أصدقكم حديثًا»: إنما كان ذلك لأن من كَثُر صِدقُه تَنوَّر قلبه، وتَقوَّى إدراكُه، فانتقشت فيه المعاني على وجه الصِّحَّة والاستقامة، وأيضًا فإن من كان غالبُ حالِه الصِّدقَ في يقظته، استَصحَب ذلك في نومه، فلا يَرى إلَّا صدقًا. وعكسُ ذلك الكاذبُ والْمُخلِّط، يَفسَدُ قلبه، ويُظلِم، فلا يَرى إلا تخليطًا وأضغاثًا، هذا غالبُ حال كلِّ واحد من الفريقين، وقد يَنْدُرُ فيرى الصادقُ ما لا يصحُّ، ويرى الكاذب ما يصِحُّ؛ لكن ذلك قليل، والأصلُ ما ذكرناه"[2]
قال النوويُّ رحمه الله : "قولُه ﷺ: «وأصدقُكم رؤيا أصدقُكم حديثًا»: ظاهره أنّه على إطلاقه، وحكى القاضي عن بعض العلماءِ أنّ هذا يكون في آخِر الزمان عند انقطاع العلم، ومَوت العلماء والصالحين، ومن يُستضاء بقوله وعَمَله، فجعله اللّه تعالى جابرًا وعِوَضًا ومنبِّهًا لهم، والأوَّلُ أظهر؛ لأن غيرَ الصادق في حديثه يتطرَّق الخَلَل إلى رؤياه وحكايته إيَّاها. قوله ﷺ: «ورؤيا المسلم جزء من خمسة وأربعين جزءًا من النُّبوَّة»، وفي رواية: «رؤيا المؤمن جزء من ستّة وأربعين جزءًا من النّبوَّة»، وفي رواية: «الرّؤيا الصّالحة جزء من ستّة وأربعين جزءًا من النّبوّة»، وفي رواية: «رؤيا الرّجل الصّالح»، وفي رواية: «الرّؤيا الصّالحة جزء من سبعين جزءًا من النّبوَّة»، فحصل ثلاثُ روايات، المشهور (ستَّة وأربعين، والثانية خمسة وأربعين، والثالثة سبعين جزءًا)، وفي غير مسلم من رواية ابن عبّاس: «من أربعين جزءًا»، وفي رواية: «من تسعة وأربعين»، وفي رواية العبَّاس: «من خمسين»، ومن رواية ابن عمر: «ستّة وعشرين»، ومن رواية عبادة: «من أربعة وأربعين». قال القاضي: أشار الطّبريُّ إلى أنّ هذا الاختلاف راجع إلى اختلاف حال الرّائي؛ فالمؤمن الصّالح تكون رؤياه جزءًا من ستَّة وأربعين جزءًا، والفاسق جزءًا من سبعين جزءًا. وقيل: المراد أنّ الخفيَّ منها جزءٌ من سبعين، والجَليُّ جزء من ستَّة وأربعين"[3].
قال المازريُّ رحمه الله: "وأما قولُه: «رؤيا المسلم جزء من ستة وأربعين جزءًا من النُّبوَّة»، فإنّه مما قال بعض الناس فيه: إنّه ﷺ أقام يوحَى إليه ثلاثةً وعشرين عامًا: عشَرةً بالمدينة، وثلاثةَ عَشَرَ بمكَّةَ، وكان قبل ذلك بستَّة أشهر يَرى في الَمنَامِ ما يُلقيه إليه الْمَلَك عَلَيهِما السلام، وذلك نصف سَنة، ونصف سَنَةٍ من ثلاث وعشرين سنةً جزءٌ من ستَّة وأربعين جزءًا من النّبوءة، وقد قيل: إن النّبيَّ ﷺ قد خُصَّ دون الخَلِيقة بضُروب وفنون، وجُعِل له إلى العلم طُرُقٌ لم تُجعَل لغيره، فيكون المرادُ أن الْمَناماتِ نِسبتُها مما حصل له وميِّز به جزءٌ من ستَّة وأربعين، فلا يبقى على هذا إلا أن يُقال: بَيِّنُوا هذه الأجزاء، ولا يَلزَم العلماءَ أن تَعرِف كلَّ شيء جُملةً وتفصيلاً، وقد جعل الله سبحانه للعلماء حَدًّا تَقِف عنده، فمنها ما لا تَعْلَمُه أصلاً، ومنها ما تَعلَمه جُملةً ولا تَعلَمه تفصيلاً، وهذا منه، ومنها ما تَعْلَمُه جُملةً وتفصيلاً، لا سِيَّما ما طريقتُه السَّمْعُ، ولا مدخَلَ للعقل فيه، فإنّما يُعرَف منه قَدْرُ ما عُرِف به السَّمع، وقد مال بعض شيوخنا إلى هذا الجواب الثّاني، وقدح في الأوَّل بأنه لم يَثبُت أن أَمَدَ رؤيَاه ﷺ قبل النّبوءة كانت ستَّةَ أشهر، وبأنه بعد النُّبوءة رأى مناماتٍ كثيرةً، فيجب أن يلفَّق منها ما يُضاف إلى الستَّة أشهر، فيتغيَّر الحساب، وتَفسَد النِّسبة، ولا وجه عندي لاعتراضه بما كان من المنامات خلال زمن الوحيِ؛ لأنَّ الأشياء توصَف بما يَغلِب عليها، وتُنسَب إلى الأكثَرِ منها، فَلَمَّا كانت الستَّة أشهر مَحْضَةً في المنامات، والثَّلاثُ والعشرون سنةً جُلُّها وحيٌ، وإنما فيها مناماتٌ شيءٌ يسير، يُعَدُّ عَدًّا، صَحَّ أن يُطرَح الأقَلُّ في حُكم النِّسبة والِحسَاب. ويَحتمِل عندي أن يُراد بالحديث وجهٌ آخَرُ، وهو أنّ ثمرةَ الْمَناماتِ الخَبَرُ بالغَيب لا أكثَرَ، وإن كان يَتبَع ذلك إنذارٌ وَتَبشِير، والإخبار بالغَيب أحَدُ ثمرات النبوَّة، وأحدُ فوائدها، وهو في جنب فوائد النبوَّة، والمقصودُ بها يسيرٌ؛ لأنّه يصحُّ أن يُبْعَثَ نَبيٌّ ليُشرِّع الشرائع، ويبيِّن الأحكام، ولا يُخبَر بغَيب أبدًا، ولا يكون ذلك قادحًا في نبوَّته، ولا مبطِلاً للمقصود منها، وهذا الجزء من النبوَّة، وهو الإخبار بالغيب، إذا وقع، فلا يكون إلَّا صِدْقًا، ولا يقع إلَّا حقًّا، والرؤيا ربما دلَّت على شيء، ولم يقع ما دلَّت عليه؛ إمّا لِكَوْنهَا مِن الشّيطان، أو من حَدِيثِ نَفْسٍ، أو من غَلَطِ العَابِر في أصل العبارة، إلى غير ذلك من الضُّروب الكثيرة التي توجب عدم الثقة بدلالة الْمَنام، فَقد صار الَخبرُ بالغَيب أحَدَ ثمرات النّبوءة، وهو غير مقصود فيها؛ ولكنه لا يقع إلا حَقًّا، وثمرةُ الْمَنَام الإخبارُ بالغَيب؛ ولكنه قد لا يقع صِدْقًا، فتُقدَّر النِّسبة في هذا بقدر ما قدَّره الشرع بهذا العدد على حَسَبِ ما أَطلَعه الله سبحانه عليه، ولأنه يَعلَم من حقائق نبوَّته ما لا نَعلَمُه نحن"[4]
قال القاضي عياض رحمه الله: "وأما قوله ﷺ: «فإنها لن تضرَّه»، فقيل: معناه: أن الرَّوع يُذهب هذا التعب المذكور في الحديث، إذا كان فاعله مصدِّقًا به، متَّكِلاً على الله جلَّت قُدرته في دفع المكروه عنه. وقيل: يُحتمَل أن يريد أن هذا الفعل منه يَمنَع من نفوذ ما دلَّ عليه الْمَنام من المكروه، ويكون ذلك سببًا فيه، كما تكون الصَّدَقة تَدفَع البلاء، إلى غير ذلك من النظائر المذكورة عند أهل الشريعة"[5]
قال القاضي عياض رحمه الله: "قال الإمام: كَثُر كلام الناس في حقيقة الرؤيا، وقال فيها غير الإسلاميين أقاويلَ كثيرةً مُنكَرةً لَمَّا حاولوا الوقوفَ على حقائقَ لا تُعلَم بالعقل، ولا يقوم عليها بُرهان، وهم لا يصدِّقون بالسَّمع، فاضطربت لذلك مقالاتُهم، فمَن ينتهي إلى الطلب، يَنسُب جميع الرؤيا إلى الأخلاط، ويستدلُّ بالْمَنَامات على الخلط المغالِب، فيقول: من غَلَب عليه البَلْغَم، رأى السباحة في الماء، ويُشبِهه لمناسبة الماء في طبيعته طبيعة البَلغَم، ومن غَلَب عليه الصفراءُ، رأى النيران والصعود في العُلوِّ، ويُشبِهه لمناسبة النار في الطبيعة طبيعة الصفراء، ولأن خِفَّتها وانقيادها يخيَّل إليه الطيران في الجوِّ، والصُّعود في العُلو، وهكذا يصنعون في بقيَّة الأخلاط، وهذا مذهب، وإن جوَّزه العقل، وأَمكَن عندنا أن يُجريَ الباري - جلَّت قُدرته - العادة؛ بأن يَخلُق مثل ما قالوه عند غلبة هذه الأخلاط، فإنه لم يَقُم عليه دليل، ولا اطَّردت به عادة، والقطع في موضع التجويز غَلَطٌ وجَهَالة. هذا لو نسبوا ذلك إلى الأخلاط على جهة الاعتياد، وأما إن أضافوا الفعل، فإنها تَقطَع بخطئهم، ولا يجوز ما قالوه؛ إذ لا فاعل إلا الله. ولبعض أئمة الفلاسفة تخليط طويلٌ في هذا، وكأنه يرى أن صور ما يجري في الأرض في العالم العُلويِّ كالمنقوش، وكأنه يدور بدوران الآخر، فما حاذى البعض المنقوش منه انتقش فيها، وهذا أوضح فسادًا من الأول، مع كونه تحكُّمًا بما لم يقع عليه برهان، والانتقاش من صفات الأجسام، وكثيرًا ما يجري في العالم الأعراض، والأعراض لا تنتقش ولا يتنقَّش فيها.
والمذهب الصحيح ما عليه أهل السنَّة، وأن الله - سبحانه - يَخلُق في قلب النائم اعتقاداتٍ كما يَخلُقها في قلب اليقظان، وهو - تبارك اسمُه - يفعل ما يشاء، ولا يَمنَعه من فعله نَوْمٌ ولا يَقَظة، فإذا خَلَق هذه الاعتقاداتِ، فكأنه - سبحانه - جعلها عَلَمًا على أمور أُخَرَ، يَخلُقها الله في ثاني حال، أو كان قد خَلَقها. فإذا خَلَق في قلب النائم اعتقادَ الطيران، وليس بطائر، فقُصارى ما فيه أنه اعتقد أمرًا على خلاف ما هو عليه، وكم في اليقظة ممن يعتقد أمرًا خلاف ما هو عليه، فيكون ذلك الاعتقاد عَلَمًا على غيره، كما يكون خلق الله - سبحانه - الغَيم عَلَمًا على المطر، والجميعُ خَلْقُ الله - سبحانه - ولكن يَخلُق الرؤيا والاعتقاداتِ التي جَعَلها عَلمًا على ما يسَّر بحضرة أو بغير حضرة الشيطان، ويَخلُق ضدَّها مما هو عَلَم على ما يضرُّ بحضرة الشيطان، فيُنسَب إليه مجازًا واتِّساعًا. وهذا المعنيُّ بقوله ﷺ: «الرؤيا من الله، والحُلم من الشيطان»، لا على أن الشيطان يفعل شيئًا في غيره، وتكون الرؤيا اسمًا لما يُحَبُّ، والحُلم لما يُكرَه"[6]
قال أبو العباس القرطبيُّ رحمه الله: "وإن الرؤيا لا تكون من أجزاء النبوَّة إلَّا إذا وقعت من مسلم صادق صالح، وهو الذي يُناسِب حاله حال النبيِّ ﷺ، فكرِّم بنوع ممَّا أُكرِم به الأنبياء عليهم السلام، وهو الاطِّلاع على شيء من علم الغيب، كما قال ﷺ: «إنه لم يبقَ من مبشِّرات النبوَّة إلا الرؤيا الصادقة في النَّوْمِ، يراها الرجلُ الصالح، أو تُرى له»، فإنَّ الكافر، والكاذبَ، والمخلِّطَ، وإن صَدَقت رؤاهم في بعض الأوقات، لا تكون من الوحيِ، ولا من النبيِّ ﷺ؛ إذ ليس كلُّ من صَدَق في حديث عن غَيْبٍ، يكون خبرُه ذلك نبوَّةً؛ فالكاهنُ يُخبِر بكلمة الحقِّ، وكذلك المنجِّم قد يَحْدِس فيَصدُق؛ لكن على النُّدُور والقِلَّة، وكذلك الكافرُ، والفاسق، والكاذب، وقد يرى الْمَنام الحقَّ، ويكون ذلك الْمَنام سببًا في شرٍّ يَلحَقُه، أو أمرٍ يَنالُه... إلى غير ذلك من الوجوه المعتبَرة المقصودة به، وقد وقعت لبعض الكفَّار مناماتٌ صحيحة صادقة؛ كمَنام الْمَلِك الذي رأى سَبْعَ بَقَرات، ومَنامِ الفتَيَيْنِ في السِّجن، ومَنام عاتكةَ عمَّة رسول الله ﷺ وهي كافرة، ونحوُه كثير؛ لكن ذلك قليل بالنسبة إلى مناماتهم المخلِّطة والفاسدة"[7]
قال المازريُّ رحمه الله: "وأمَا اختلاف الرِّوايات في هذا القَدْرِ، ففي كتاب مسلمٍ "خمسة"، وفيه "ستة"، وفيه "من سبعين جزءًا من النُّبوَّة"، وقد أشار الطَّبريُّ إلى أن هذا الاختلاف راجع إلى اختِلاف حَالِ الرَّائي؛ فالمؤمنُ الصالح تكون نسبةُ رؤياه من ستَّةٍ وأربعين، والفاسقُ من سبعين؛ ولهذا لم يَشترِط في رواية السَّبعين في وصف الرائي ما اشترَطَه في وصف الرائي في الحديث المذكور فيه ستَّة وأربعون، فقد قال في بعض طُرق مسلم: «رؤيا الرّجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة»، وإن كان قد أَطلَق في بعض طُرقه فقال: «رؤيا المؤمن جزء من ستَّة وأربعين»، وقال في السّبعين: «الرؤيا الصالحة جزء من سبعين جزءًا من النبوءة»، ولم يشترط كون الرائي صالحًا، وقد يُحمَل مُطلَقُ قوله: «الرؤيا الصالحة جزء من ستةٍ وأربَعِين» على أن المراد به إذا كانت من رَجلٍ صالح؛ بدليل الحديث الآخَر، وقد قيل: إن المنامات دلالاتٌ، والدلالة منها خَفيٌّ، ومنها جَلِيٌّ، فما ذُكِر فيه السبعون أُرِيد به أنّه الخَفيُّ منها، وما ذُكِر فيه الستة والأربعون أُرِيدَ بِه الجَليُّ منها"[8]
قال القاضي عياض رحمه الله: "الرؤيا الصحيحة إنذارٌ من الله، وعناية بعبده؛ لئلَّا يَفجَؤه ما قدِّر عليه بغتةً، وليكون فيه على حَذَر وأُهْبَة، كما أن الرؤيا الصالحة والحسنة من الصالحين، هذا أيضًا على الغالب، وقد يكون في رؤياهم أضغاث؛ ولكن على سبيل النُّدور بضدِّ الأولى لعوارضَ تقتضى ذلك - والله أعلم - من وسوسة النفس وحديثها، أو غلبة خلط عليه، أو فساد ذكرها أحيانًا وتخييلها وفكرها. ويَحتمِل قوله: (الحسنة، والصالحة) أن يكون راجعًا إلى حُسن ظاهرها، ويَحتمِل أن يرجع إلى صحَّتها، كما أن قوله في الأخرى: (السوء) يَحتمِل الوجهين: سوء الظاهر، أو سوء التأويل. وفي أمره بنَفثِه وبَصقِه ثلاثًا: طردٌ للشيطان الذي حَضَر رؤياه المكروهة، واستقذاره لها، كما يَبصُق على ما يَستقذِر ويَكرَه، كما أَمَر بذلك عند التثاؤب. وكَوْنُ ذلك في يساره؛ لأن اليسار أبدًا جِهَةُ الشيطان، وجهة الْمَذامِّ والأقذار، والجهة المشؤومة، بضدِّ اليَمين، والعربُ تسمِّيها الشُّؤْم. وقولُه: "فليَبصُق، وليتفل، ولينفث" على اختلاف الأحاديث، كلُّه بمعنًى. وأمرُه بتحويله عن جَنْبِه: تفاؤلاً بتحويل حالها، وظاهر مكروه تأويلها، وأنها لا تضرُّه، وهذا يصحِّح أحد التأويلين في قوله: «لا تضرُّه» أنه عائد إلى صرف سوء تأويلها، ودَفْع اللهِ بما فعل عنه مكروهها. وأما قولُه: «ولا تُخبِرْ بها أحدًا»، فما فائدة كتمانها؟ فقيل: إن ذلك مخافة تعجيل اشتغال السوء بمكروه تفسيرها، إن وافَقَ ظاهرُها باطنَها، والتعذيب به مدَّةً لا يُدرى قُرْبُها من بُعْدِها، فقد تَخرُج الرؤيا بعد طول السنين، وإذا لم يُخبِر بها، وفعل ما أُمِر به من النَّفث والاستعاذة، كان دواءَ مكروهها، وخروجُها عن ذلك على أحد التأولين، وعلى التأويل الآخر: أن ذلك إنما يُريك رَوعتها، وتحزنه بها. وإذا لم يَذكُرْها لأحدٍ، ولم يفصَّل له تفسيرها، بَقِيَ بين الطمع والرجاء من أنه أهل لها تفسيرًا حسنًا، أو أنها من أضغاث الأحلام، أو حديث النفس، فكان أسكنَ لنفسه، وأقلَّ لتعذيب قلبه"[9]
قال أبو العباس القرطبيُّ رحمه الله: "اختلفت الرواية في عدد أجزاء النبوَّة التي جعلت رؤيا الرجل الصالح واحدًا منها، من ستَّة وعشرين إلى سبعين، وأكثرُها في الصحيحين، وكلُّها مشهور؛ فلا سبيلَ إلى أخذ أحدِها، وطرح الباقي، والوجهُ الذي يتعيَّن الْمَصيرُ إليه أن يُقال: إن هذه الأحاديثَ - وإن اختلفت ألفاظُها - متَّفِقةٌ على أن الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح جزءٌ من أجزاء النبوَّة؛ فهذه شهادة صحيحة من النبيِّ ﷺ لها بأنها وحيٌ من الله تعالى، وأنها صادقةٌ لا كَذِب فيها؛ ولذلك قال مالك، وقد قيل له: أيفسِّر الرؤيا كلُّ أَحَدٍ؟ فقال: أيُلعَب بالوحي؟! وإذا كانت هكذا، فيتَعيَّن على الرائي أن يعتنيَ بها، ويسعى في تفهُّمها، ومعرفة تأويلها؛ فإنَّها إمَّا مبشِّرةٌ له بخير، أو محذِّرة له من شرٍّ، فإنْ أَدرَك تأويلها بنفسه، وإلَّا سأل عنها من له أهليَّةُ ذلك، وهو اللبيبُ الحبيب؛ ولذلك كان النبيُّ ﷺ يقول إذا أصبح: «هل رأى أحدٌ منكم الليلة رؤيا فليقصَّها، أعبِّرها؟»[10]، فكانوا يقصُّون عليه، ويَعْبُرُ. وقد سلك أصحابه ذلك المسلك في حياته، وبعد وفاته، وقد كان يقتبس الأحكام من منامات أصحابه، كما فَعَل في رؤيا الأذان، وفي رؤيا ليلة القدر. وكلُّ ذلك بناءً على أنها وحيٌ صحيح"[11]
المراجع
- "المعلم بفوائد مسلم" للمازريِّ (3/ 203).
- "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (18/ 117).
- شرح النوويِّ على مسلم" (15/ 20، 21).
- "المعلم بفوائد مسلم" للمازريِّ (3/ 203، 204).
- إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (7/ 205).
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (7/ 204، 205).
- المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (18/ 119).
- "المعلم بفوائد مسلم" للمازريِّ (3/ 205).
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (7/ 207، 208).
- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ يَقُولُ: «هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمُ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا؟»، وَيَقُولُ «إِنَّهُ لَيْسَ يَبْقَى بَعْدِي مِنَ النُّبُوَّةِ إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ». رواه أحمد (8296)، وأبو داود (5017)، والترمذيُّ (2294)، وقال الترمذيُّ: هذا حديث حسن صحيح.
- المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (18/ 120).