عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رضي الله عنه، أن النبيَّ ﷺ قال:«لتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَن قَبْلَكم، شِبرًا بشِبرٍ، وذراعًا بذراعٍ، حتى لو سَلَكوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلكْتموه»، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: «فمَن؟!»
عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رضي الله عنه، أن النبيَّ ﷺ قال:«لتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَن قَبْلَكم، شِبرًا بشِبرٍ، وذراعًا بذراعٍ، حتى لو سَلَكوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلكْتموه»، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: «فمَن؟!»
1. في الحديث التَّرَفُّع عن ذِكر أسماء الفُسَّاق والكُفَّار؛ فإن النبيَّ ﷺ كنَّى عن اليهود والنصارى بقوله: «مَن كان قبلَكم».
2. أنذر ﷺ في كثير من حديثه أن الآخِر شرٌّ، وأن الساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق، وأن الدين إنما يبقى قائمًا عند خاصَّةِ من المسلمين لا يخافون العَدَاواتِ، ويحتسبون أنفسهم على الله في القول بالحقِّ، والقيام بالمنهج القويم في دين الله[1]
3. فَحْوى الكلام من الحديث هو التحذير من متابعة من قبلَنا في معصية الله، ومن اتِّباعِهم في الأهواء والبدع.
4. في الحديث إشارة إلى أنه ينبغي معرفة ما كان عليه مَن كان قبلَنا مما يجب الحَذَرُ منه؛ لنَحذَره، وغالبُ ذلك - ولله الحمد - موجود في القرآن والسنَّة.
5. وجهُ التخصيص بجُحر الضَّبِّ، لشدَّة ضِيقه ورداءته، ومع ذلك فإنهم لاقتفائهم آثَارَهم واتِّباعِهم طرائقَهم لَو دخلُوا في مثل هذا الضِّيق الرَّدِيء لوافقوهم[2]
6. قوله: «لتتبعن سنن من كان قبلكم» ليس على ظاهره أن جميع هذه الأمَّة تتَّبِع سنن من كان قبلها؛ بل هو عامٌّ مخصوص؛ لأن في هذه الأمة من لا يتَّبِع تلك السنن؛ كما أخبر النبيُّ ﷺ لأنه لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحقِّ[3]، وقيل: إن الحديث على عمومه، وأنه لا يلزم أن تتَّبِع هذه الأمة الأمم السابقة في جميع سُننها؛ بل بعض الأمة يتَّبِعها في شيء، وبعض الأمة يتَّبِعها في شيء آخَرَ، وحينئذ لا يقتضي خروجَ هذه الأمة من الإسلام، وهذا أَوْلى لبقاء الحديث على عمومه، ومن المعلوم أن من طُرق مَن كان قبلنا ما لا يُخرج من اْلِمَّلة؛ مثل: أكل الربا، والحسد، والبغيِ، والكذب، ومنه ما يُخرِج من الْمِلَّة؛ كعبادة الأوثان[4]
7. قول الصحابة: "اليهود والنصارى"، يدلُّ على استعظامهم هذا الأمر؛ أي: استعظام الأمر أن نتَّبِع سنن من كان قبلنا بعد أن جاءنا الهدى مع النبيِّ ﷺ [5]
8. كلَّما طال العهد بين الإنسان وبين الرسالة، فإنه يكون أبعدَ من الحقِّ؛ لأنه أخبر عن مستقبل، ولم يخبر عن الحاضر، ولأن من سنن من قبلنا أنه لما طال عليهم الأمد قست قلوبهم؛ قال تعالى:
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ
[الحديد: ١٦] [6]
9. إذا كان طول الأمد سببًا لقسوة القلب فيمن قبلنا، فسيكون فينا، ويشهد لذلك ما جاء في "البخاريِّ من حديث أنس - رضي الله عنه - أنه قال: سمعت النبيَّ ﷺ يقول:
«لاَ يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلاَّ وَالَّذِي بَعْدَهُ أَشَرُّ مِنْهُ، حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُم
[7]
10. من تتبَّع أحوال هذه الأمَّة، وجد أن كل زمان ما بعده أشرُّ منه؛ لكن يجب أن نعرف الفرق بين الجملة والأفراد؛ فالمراد به من حيث الجُملةُ؛ ولذلك يوجد في أتباع التابعين من هو خير من كثير من التابعين[8]
11. هذا لفظُ خبرٍ معناه النهيُ عن اتِّباعهم، ومنعهم من الالتفات لغير دين الإسلام؛ لأن نوره قد بهر الأنوار، وشِرْعتَه نسخت الشرائع، وهذا من معجزاته ﷺ؛ فقد اتَّبَع كثير من أمَّته سنن فارس في شِيَمهم ومراكبهم وملابسهم، وإقامة شعارهم في الحروب، وغيرها، وأهل الكتابين في زخرفة المساجد، وتعظيم القبور، حتى كاد يعبدها العوامُّ، وقبول الرِّشا، وإقامة الحدود على الضعفاء دون الأقوياء، وترك العمل يوم الجمعة، والتسليم بالأصابع، وعدم عيادة المريض يوم السبت، والسرور بخميس البيض، وأن الحائض لا تمسُّ عجينًا، إلى غير ذلك مما هو أشنعُ وأبشع[9]
12. من أكبر أسباب التقليد: أن النفس أبدًا تعتقد الكمال فيمن غَلَبها وانقادت إليه؛ إما لنظره بالكمال بما وَقَر عندها من تعظيمه، أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعيٍّ؛ إنما هو لكمال الغالب، فإذا غالطت بذلك، واتَّصل لها، حصل اعتقادًا، فانتحلت جميع مذاهب الغالب، وتشبَّهت به، وذلك هو الاقتداء[10]
13. ترى المغلوبَ يتشبَّه أبدًا بالغالب، في مَلْبَسِهِ، ومركبه وسلاحه، في اتِّخاذها وأشكالها؛ بل في سائر أحواله، وانظر ذلك في الأبناء مع آبائهم، كيف تجدهم مُتشبِّهين بهم دائمًا، وما ذلك إلا لاعتقادهم الكمال فيهم"[11]
الفوائد العقدية
14. كُفْر اليهود أصلُه من جهة عدم العمل بعلمهم؛ فهم يعلمون الحقَّ ولا يتَّبعونه عملًا، وكُفْر النصارى من جهة عمَلِهم بلا عِلم؛ فهم يجتهدون في أصناف العبادات بلا شريعة من الله، ويقولون على الله ما لا يعلمون[1]
15. اليهود يَعدِلون الخالقَ بالمخلوق، فيصِفون الله بالعجز والفقر والبُخل، تعالى الله عن ذلك، والنصارى يَعدِلون المخلوقَ بالخالق، حتى يجعلوا للمخلوق من صفات الربوبية والألوهية، ويُجَوِّزون له ما لا يجوز لغير الخالق سبحانه. وفي هذه الأمة أمثالُ هؤلاء وهؤلاء[2]
الفوائد اللغوية
16. في هذا الحديث أسلوب خبريٌّ يُقصَد به الطَّلَب؛ أي: هذا لفظُ خبرٍ معناه النهيُ عن اتِّباعهم، ومنعهم من الالتفات لغير دين الإسلام.
17. لتتبعُنَّ: أصلها لـ(تتبعونَ نَّ = تتبعونَ نْنَ) الفعل (تَتَّبِع)، وواو الجماعة فاعل، ونون الرفع، ونون التوكيد الثقيلة. حُذفت نون الرفع لتوالي الأمثال، فصارت (تتبعُونْنَ)، فالتقى ساكنان، الواو والنون الساكنة، فحُذفت الواو، فصارت (تتبعُنَّ). وإعرابها: تتبع: فعل مضارع مرفوع بثبوت النون المحذوفة لتلاقي الأمثال، واو الجماعة المحذوفة لالتقاء الساكنين: ضمير مبنيٌّ على السكون في محل رفع فاعل، ونون التوكيد الثقيلة: حرف مبنيٌّ على الفتح لا محلَّ له من الإعراب.
18. «سنن» بفتح السين هو أَوْلى من ضمِّها؛ لأنه لا يُستعمَل الشِّبر والذراع إلا في السَّنن، وهو الطريق، والسَّنَن مُفرَد، أما السُّنن فجمع سُنَّة، وهي الطريقة حسنةً كانت أو سيِّئةً، والمراد بها هاهنا طريقةُ أهل الأهواء والبِدَع التي ابتدعوها من تلقاء أنفسهم بعد أنبيائهم، من تغيير دينهم، وتحريف كتابهم، كما أتى على بني إسرائيل حَذْوَ النَّعل بالنعل
19. «شِبرًا بشِبرٍ، وذراعًا بذراعٍ»: مثل (يدًا بيد)؛ أي: حال كون الاتِّباع شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، ويجوز إعراب "شبرًا": منصوبًا بنزع الخافض؛ أي: لتتبعن سنن من كان قبلكم اتباعًا بشبر متلبِّس بشبر، وذراعٍ متلبِّس بذراع، وفي الحالتين هو كناية عن شدَّة الموافقة لهم في المخالفات والمعاصي لا في الكفر.