غريب الحديث:
خَصلة: شُعبة، وجزءٌ، أو حالة[1]
فَجَر: الفجور في الخصومة، والفجور: الْمَيلُ عن الحقِّ، والاحتيالُ في ردِّه[2]
المراجع
- "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (2/ 38).
- "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلانيِّ (1/ 90).
المعنى الإجماليُّ للحديث:
يروي عبدِ الله بن عمرٍو رضي الله عنه عن النبيِّ ﷺ، أنه قال: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا»؛ أي: أربعُ خصال من خصال النِّفاق والمنافقين، إذا اجتمعت في الإنسان واتَّصف بها، كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه إحدى هذه الخصال، كانت فيه صفة من صفات المنافقين إلى أن يتركها، وهي:
«إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ»: إذا خان من ائْتَمَنه. «وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ»؛ أي: أخبر بغير الحقيقة عمدًا من غير عُذر. «وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ»: وإذا غَدَر بمن عاهَده. «وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ»: وإذا فَجَر في خصومته.
الشرح المفصَّل للحديث:
النفاقُ من أخطر الأمراض التي تُصيب الأفرادَ والجماعاتِ، ومن ثمَّ حذَّر منه الإسلامُ أشدَّ تحذير، وبيَّن صفاتِ المنافقين كي يَحذَرَهم المؤمنُ، ويحافظ على نفْسه من أن يتلبَّس بشيء من أخلاقهم.
وفي هذا الحديث يَذكُر النبيُّ ﷺ أربعَ علامات من علامات المنافقين، ومن حُسنِ تَعلِيمِ النبيِّ ﷺ لأصحابه تقريبُ المرادِ باستخدام شَتَّى الوسائلِ التَّعليميَّة؛ ومن ذلك استخدامُ العددِ والإشارةِ والتَّوْضِيحِ، فيقول ﷺ: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا»؛ أي: أربعُ خصال مَن كنَّ فيه كان منافقًا، وقوله «خَالِصًا»؛ أي: شديدَ الشَّبَه بالمنافقين بسبب هذه الخصال؛ لغَلَبتها عليه، ولكونها صارت عنده خُلقًا، وعادةً، ودَيْدنًا له[1]
والنفاق: هو أن يُظهر المرء خلافَ ما يُبطِن، وينقسم إلى قسمين: نفاق في الاعتقاد، ونفاقٍ في العمل، "والنفاقُ لغةً: مخالفةُ الباطن للظاهر، فإن كان في اعتقاد الإيمان فهو نفاقُ الكفر، وإلا فهو نفاقُ العمل، ويدخُلُ فيه الفعلُ والتركُ، وتتفاوتُ مراتبُه"[2]، والمقصودُ في هذا الحديث هو نفاقُ العمل دونَ الاعتقاد، فقد تقع هذه الخصالُ من المؤمن الصادق، ومن ثمَّ فقد تلبَّس بذنب، واتَّصَف بخَصلة من خصال المنافقين، وعليه أن يُراجع نفْسه، ويُصحِّح مسارَه. فـ"معناه أن هذه الخِصال خِصال نفاق، وصاحبها شبيهٌ بالمنافقين في هذه الخصال، ومُتخلِّق بأخلاقهم، فإن النفاق هو إظهار ما يُبطن خلافه، وهذا المعنى موجودٌ في صاحب هذه الخصال، ويكون نفاقُه في حقِّ مَن حدَّثه، ووعده، وائتمنه، وخاصَمه، وعاهَده من الناس، لا أنه منافقٌ في الإسلام، فيُظهره وهو يُبطن الكفرَ، ولم يُرِدِ النبيُّ ﷺ بهذا أنه منافقٌ نفاقَ الكفار المخلَّدين في الدرك الأسفل من النار"[3]
و"يُحتمَل أن يكونَ هذا الخطابُ مختصًّا بأبناء زمانه ﷺ؛ فإنه ﷺ علم بنور الوحي بواطنَ أحوالهم، وميَّز بين مَن آمَن به صدقًا، ومَن أذعَنَ له نفاقًا، وأراد تعريفَ أصحابه على حالهم؛ ليكونوا على حَذَر منهم، ولم يُصرِّحْ بأسمائهم؛ لأنه عليه الصلاة السلام عليمٌ أن منهم مَن سيتوب، فلم يَفضَحْهم بين الناس، ولأن عدمَ التعيين أوقَعُ في النصيحة، وأجلَبُ للدعوة إلى الإيمان، وأبعدُ عن النفور والمخاصَمة. ويُحتمَل أن يكون هذا الخطابُ عامًّا لينزجِرَ الكلُّ عن هذه الخصال على آكَد وجهٍ؛ إيذانًا بأنها طلائعُ النفاق الذي هو أقبحُ القبائح؛ كأنه كفر مموَّهٌ باستهزاءٍ، وخداع مع ربِّ الأرباب، ومُسبِّب الأسباب. فعُلم من ذلك أنها منافيةٌ لحال المسلمين، فينبغي للمسلم ألَّا يرتعَ حولَها؛ فإن مَن رتَعَ حول الحمى يوشكُ أن يقَعَ فيه، ويُحتمل أن يكون المراد بالمنافق العُرفيَّ، وهو مَن يُخالف سرُّه علنَه مُطلقًا"[4]
وقد ورد في رواية أُخرى ذِكْر ثلاث علامات للنفاق بدلَ أربع؛ قال ﷺ: «آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذَبَ، وإذا وعَدَ أخلَفَ، وإذا اؤتمنَ خانَ»[5]، ولا تَعارُضَ بين الروايتَين، وقد حصل بجمع الروايتَين خمسُ علامات للنفاق، وهي: الكذبُ في الحديث، والغدرُ في المعاهدات، والخُلفُ في الوعد، والفجورُ في المخاصمة، والخيانةُ في الأمانة.
وقد دفع العلماءُ التعارُضَ بين الروايات بأقوال؛ منها: احتمالُ أنه ﷺ استجدَّ له العلمُ بخصالهم ما لم يكن عنده، فأخبر مرَّةً بالأقلِّ، ثم بالأكثر[6]. فـ"ليس بين الحديثَين تعارضٌ؛ لأنه لا يَلزَمُ من عدِّ الخَصلة المذمومة الدالَّة على كمال النفاق كَوْنُها علامةً على النفاق؛ لاحتمال أن تكون العلاماتُ دالَّاتٍ على أصل النفاق، والخَصلة الزائدة إذا أُضيفت إلى ذلك كَمَل بها خُلوصُ النفاق"[7]. وقيل: "الأَوْلى في الجواب أن يقال: إن كلَّ واحدة من الخَمس علامةٌ من علامات النفاق؛ بل الخمس من علامات النفاق، فهي أكثرُ من ذلك؛ إذ منها الْمَلَق، وإظهار الرضا والإعجاب بالرؤساء مع بُغضهم وكراهيتهم، فالأربعُ إذا اجتمعت في شخص كان منافقًا خالصًا، وإذا وُجِدت فيه خصلةٌ منها كان فيه خصلةٌ من النفاق، وهناك غير هذه الأربع ما هو من علامات النفاق، أما رواية: «آية المنافق ثلاث» فهي على تقدير "مِنْ"؛ أي: من آيات المنافق الكثيرة ثلاث، والمقصود من هذه الخصال المذكورة التنبيهُ على ما عداها من خصال النفاق"[8]
وقوله ﷺ: «وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا»، الخصلةُ هي الخَلَّةُ والصِّفة، والمعنى: مَن كانت فيه صفةٌ من هذه الصفات الأربع، كانت فيه صفة من صفات المنافقين حتى يتركها[9]
وأول هذه الخصال: «إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ»؛ أي: إذا وُضعت عنده أمانةٌ خانها بأن تصرَّف فيها تصرُّفًا غير مشروع[10]، "وخيانة الأمانة ظلمٌ لصاحبها، ونزعٌ للثقة من نفوس الناس بخائنها، وهي نوعٌ من السرقة، وقد فسَّروا الخيانة بأنها التصرُّفُ في الأمانة بغير وجه شرعيٍّ؛ كبَيعها، أو جَحدها، أو انتقاصها، أو التهاون في حفظها. والأمانة تشمل كلَّ ما اؤتُمِن عليه الإنسان من مال، أو عِرض، أو حقٍّ؛ بل تشمل الشرائعَ التي جعلها اللهُ في يدنا أماناتٍ نُعلِّمها للناس، ونقوم على حفظها بالعمل؛ ولذلك سمَّى اللهُ تعالى مخالفةَ كتابه وسُنَّة رسوله خيانةً في
( يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوٓاْ أَمَٰنَٰتِكُمۡ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ )
وأشدُّ الناسِ فضيحةً يوم القيامة الخائنونَ؛ فلكلِّ غادرٍ لواءٌ يومَ القيامة؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: سمعتُ النبيَّ ﷺ يقول: «لكلِّ غادر لواءٌ يُنصَب بغَدْرته يوم القيامة»[12]، فالخائنُ وإن انْدَسَّ بين الناسَ، وإن عرف كَيفَ يرتِّب ويدبِّر أمورَه بحيث لا يُفتَضَحُ أمامَ عباد الله، فأين يذهب يوم القيامة؟!
ومن خصال النفاق التي ذكَرَها رسولُ الله ﷺ: «وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ»؛ أي: أخبر بغير الحقيقة عمدًا من غير عُذر[13]، وقد أمر اللهُ - عزَّ وجلَّ - ورسوله ﷺ بالصدق، وأكَّدا عليه؛
يقول الله - عزَّ وجلَّ -:
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ )
وقال ﷺ: «إن الصدقَ يَهدي إلى البرِّ، وإن البرَّ يَهدي إلى الجنة، وإن الرجُلَ لَيصدُقُ حتى يكون صدِّيقًا، وإن الكذبَ يَهدي إلى الفجور، وإن الفجورَ يَهدي إلى النار، وإن الرجُلَ لَيكذبُ حتى يُكتَب عند الله كذَّابًا»[14]
أما الخَصلةُ الثالثة، فقال ﷺ: «وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ»؛ أي: يَنقُضُ العهدَ ابتداءً. وإذا حالف تركَ الوفاء[15]، والغدرُ محرمٌ "لا سيَّما إذا كان الغادرُ من أصحاب الولاية العامَّة؛ لأن ضرر غَدره يتعدَّى إلى خَلْق كثير. وقيل: لأنه غيرُ مضطرٍّ إلى الغدر لقُدرته على الوفاء. والغدرُ محرَّمٌ بشتَّى صوره، سواءٌ أكان مع فرد أم جماعة، وسواءٌ أكان مع مسلم، أم ذمِّيٍّ، أم معاهَد"[16]، وفي تأكيد الوفاء بالعهد
(وَلَا تَقۡرَبُواْ مَالَ ٱلۡيَتِيمِ إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ حَتَّىٰ يَبۡلُغَ أَشُدَّهُۥۚ وَأَوۡفُواْ بِٱلۡعَهۡدِۖ إِنَّ ٱلۡعَهۡدَ كَانَ مَسۡـُٔولٗا )
وأما الخَصلة الرابعة، فقال ﷺ: «وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ»، والفجور في الخصومة هو الْمَيل عن الحقِّ، وقولُ الباطل[17]، فـ"الفجور في الخصومة، والفجورُ الْمَيل عن الحقِّ، والاحتيالُ في ردِّه"[18]، "ويعني بالفجور أن يخرج عن الحقِّ عمدًا حتى يصيرَ الحقُّ باطلًا، والباطلُ حقًّا...، فإذا كان الرجُلُ ذا قُدرة عند الخصومة - سواءٌ كانت خصومتُه في الدين أو في الدنيا - على أن ينتصر للباطل، ويُخيِّل للسامع أنه حقٌّ، ويوهن الحقَّ، ويُخرجه في صورة الباطل - كان ذلك من أقبح المحرَّمات، ومن أخبَث خصال النفاق"[19]
المراجع
- انظر "فيض القدير شرح الجامع الصغير" للمناويِّ (1/ 463).
- انظر "فتح الباري" لابن حجر (1/ 89).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 47).
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (2/ 509).
- رواه البخاريُّ (33)، ومسلم (59).
- انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العبَّاس القرطبيِّ (1/ 251).
- "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلانيِّ (1/ 90).
- "فتح المنعم بشرح صحيح مسلم" لموسى شاهين لاشين (1/ 221).
- انظر: "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيِّ (1/ 224).
- انظر: "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (1/ 128).
- "الأدب النبويُّ" لمحمد عبد العزيز الخولي (ص: 18).
- رواه البخاريُّ (3188)، ومسلم (1735).
- انظر: "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (1/ 128).
- أخرجه البخاريُّ (6094)، ومسلم (2607).
- انظر: "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (1/ 129).
- "كنوز رياض الصالحين" لمجموعة باحثين (9/ 547).
- "إرشاد الساري شرح صحيح البخاري" للقسطلانيِّ (1/ 120)
- "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلانيِّ (1/ 90).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب الحنبليِّ (2/ 486).
النقول
قال النوويُّ : "هذا الحديث ممّا عدَّه جماعة من العلماء مشكِلًا من حيث إنّ هذه الخصال توجد في المسلم المصدِّق الّذي ليس فيه شكٌّ، وقد أجمع العلماء على أنّ من كان مصدِّقًا بقلبه ولسانه، وفعل هذه الخصال، لا يُحكَم عليه بكفر، ولا هو منافق يخلَّد في النّار؛ فإنّ إخوة يوسف ﷺ جمعوا هذه الخصال، وكذا وُجد لبعض السّلف والعلماء بعضُ هذا أو كلُّه، وهذا الحديث ليس فيه - بحمد اللّه تعالى - إشكال؛ ولكن اختلف العلماء في معناه؛ فالّذي قاله المحقّقون والأكثرون وهو الصّحيح المختار: أنّ معناه أنّ هذه الخصال خصال نفاق، وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال، ومتخلِّق بأخلاقهم؛ فإنّ النّفاق هو إظهار ما يبطن خلافَه، وهذا المعنى موجود في صاحب هذه الخصال، ويكون نفاقه في حقِّ من حدَّثه ووعده وائتمنه وخاصَمه وعاهده من النّاس، لا أنّه منافق في الإسلام، فيُظهره وهو يُبطن الكفر، ولم يُرِدِ النّبيُّ ﷺ بهذا أنّه منافق نفاق الكفّار المخلَّدين في الدّرك الأسفل من النّار" [1]
قال ابن عثيمين : "قوله: «أربع من كن فيه»؛ أي: من اتَّصَف بهن، كان منافقًا خالصًا؛ لأنه أتى بجميع الأعمال التي يتَّصِف بها المنافقون، والعياذ بالله، والمراد بالنفاق هنا النفاق العمليُّ الذي يكون عليه أهل النفاق العَقَديِّ، وليس نفاقَ الاعتقاد؛ لأن نفاق الاعتقاد نفاق كفر، والعياذ بالله؛ وهو الذي يُظهر الإسلام ويُبطِن الكفر، أما هؤلاء الذين يتَّصِفون بهذه الصفات، فإنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر إيمانًا حقيقيًّا؛ ولكنهم يستعملون هذه الصفاتِ وفيها شيء من النفاق"[2]
قال ابن حجر : "والنفاقُ لغةً: مخالفةُ الباطن للظاهر، فإن كان في اعتقاد الإيمان فهو نفاقُ الكفر، وإلا فهو نفاقُ العمل، ويدخُلُ فيه الفعلُ والتركُ، وتتفاوتُ مراتبُه"[3]
قال الطِّيبيُّ : "هذا القول إنما خرج على سبيل الإنذار للمرء المسلم، والتحذير له أن يعتاد هذه الخصال، فيُفضي به إلى النفاق، لا أن من نَدَر منه هذه الخصال، أو فعل شيئًا من ذلك من غير اعتياد أنه منافق. والنفاق ضربان؛ أحدهما: أن يُظهر صاحبُه الإيمان وهو مُسِرٌّ للكفر؛ كالمنافقين على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام، والثاني: ترك المحافظة على حدود أمور الدين سرًّا، ومراعاتها علنًا، فهذا سمِّي منافقًا؛ ولكنه نفاقٌ دون نفاق، كما قال ﷺ: «سِبابُ المسلم فسوق، وقتاله كفر»؛ وإنما هو كفر دون كفر"[4]
قال النوويُّ : "وَقَوْلُهُ ﷺ: «كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا» معناه: شديدُ الشَّبَه بالمنافقين؛ بسبب هذه الخصال. قال بعض العلماء: وهذا فيمن كانت هذه الخصال غالبةً عليه، فأمّا من يَندُر ذلك منه، فليس داخلًا فيه؛ فهذا هو المختار في معنى الحديث، وقد نقل الإمام أبو عيسى التّرمذيُّ - رضي اللّه عنه - معناه عن العلماء مطلَقًا، فقال: إنّما معنى هذا عند أهل العلم نفاق العمل، وقال جماعة من العلماء: المراد به المنافقون الّذين كانوا في زمن النّبيِّ ﷺ فحدَّثوا بإيمانهم وكذبوا، واؤتُمِنوا على دينهم فخانوا، ووعدوا في أمر الدّين ونصره فأخلفوا، وفَجَروا في خصوماتهم، وهذا قول سعيدِ بنِ جُبير وعطاء بن أبي رباح، ورجع إليه الحسن البصريُّ رحمه اللّه بعد أن كان على خلافه، وهو مرويٌّ عن ابن عباس وابن عمر رضي اللّه عنهم، ورَوَياه أيضًا عن النّبيِّ ﷺ. قال القاضي عياض رحمه اللّه: وإليه مال كثير من أئمَّتنا، وحكى الخطّابيُّ رحمه اللّه قولًا آخر: أنّ معناه التّحذير للمسلم أن يعتاد هذه الخصال الّتي يخاف عليه أن تُفضيَ به إلى حقيقة النّفاق، وحكى الخطّابيُّ رحمه اللّه أيضًا عن بعضهم أنّ الحديث ورد في رجل بعينه منافق، وكان النّبيُّ ﷺ لا يواجههم بصريح القول، فيقول: فلان منافق؛ وإنّما كان يشير إشارةً كقوله ﷺ: «ما بال أقوام يفعلون كذا» واللّه أعلم"[5]
قال ابن حجر : "ليس بين الحديثَين تعارضٌ؛ لأنه لا يَلزَمُ من عدِّ الخَصلة المذمومة الدالَّة على كمال النفاق كَوْنُها علامةً على النفاق؛ لاحتمال أن تكون العلاماتُ دالَّاتٍ على أصل النفاق، والخَصلة الزائدة إذا أُضيفت إلى ذلك كَمَل بها خُلوصُ النفاق"[6]
قال موسى شاهين لاشين: "الأَوْلى في الجواب أن يقال: إن كلَّ واحدة من الخَمس علامةٌ من علامات النفاق؛ بل الخمس من علامات النفاق، فهي أكثرُ من ذلك؛ إذ منها الْمَلَق، وإظهار الرضا والإعجاب بالرؤساء مع بُغضهم وكراهيتهم، فالأربعُ إذا اجتمعت في شخص كان منافقًا خالصًا، وإذا وُجِدت فيه خصلةٌ منها كان فيه خصلةٌ من النفاق، وهناك غير هذه الأربع ما هو من علامات النفاق، أما رواية: «آية المنافق ثلاث» فهي على تقدير "من"؛ أي: من آيات المنافق الكثيرة ثلاث، والمقصود من هذه الخصال المذكورة التنبيهُ على ما عداها من خصال النفاق"[7]
قال محمد عبد العزيز الخولي: "وخيانة الأمانة ظلمٌ لصاحبها، ونزعٌ للثقة من نفوس الناس بخائنها، وهي نوعٌ من السرقة، وقد فسَّروا الخيانة بأنها التصرُّفُ في الأمانة بغير وجه شرعيٍّ؛ كبَيعها، أو جَحدها، أو انتقاصها، أو التهاون في حفظها. والأمانة تشمل كلَّ ما اؤتُمِن عليه الإنسان من مال، أو عِرض، أو حقٍّ؛ بل تشمل الشرائعَ التي جعلها اللهُ في يدنا أماناتٍ نُعلِّمها للناس، ونقوم على حفظها بالعمل، ولذلك سمَّى اللهُ تعالى مخالفةَ كتابه وسُنَّة رسوله خيانةً في
( يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوٓاْ أَمَٰنَٰتِكُمۡ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ )
قال ابن رجب : "ويعني بالفجور أن يخرج عن الحقِّ عمدًا حتى يصيرَ الحقُّ باطلًا، والباطلُ حقًّا...، فإذا كان الرجُلُ ذا قُدرة عند الخصومة - سواءٌ كانت خصومتُه في الدين أو في الدنيا - على أن ينتصر للباطل، ويُخيِّل للسامع أنه حقٌّ، ويوهن الحقَّ، ويُخرجه في صورة الباطل - كان ذلك من أقبح المحرَّمات، ومن أخبَث خصال النفاق"[9]
قال النوويُّ : "وأمّا قوله ﷺ في الرّواية الأولى: «أربع من كنّ فيه كان منافقًا»، وفي الرّواية الأخرى: «آية المنافق ثلاث»، فلا منافاة بينهما؛ فإنّ الشّيء الواحد قد تكون له علامات، كلُّ واحدة منهنّ تَحصُل بها صفته، ثمّ قد تكون تلك العلامة شيئًا واحدًا، وقد تكون أشياءَ واللّه أعلم. وقوله ﷺ: «وإذا عاهد غدر» هو داخل في قوله: «وإذا اؤتمن خان»، وقوله ﷺ: «وإن خاصم فجر»؛ أي: مال عن الحقّ وقال الباطل والكذب. قال أهل اللّغة: وأصل الفجور الميل عن القصد. وقوله ﷺ: «آية المنافق»؛ أي: علامته ودلالته. وقوله ﷺ: خَلَّة وخَصلة، هو بفتح الخاء فيهما، وإحداهما بمعنى الأخرى"[10]
قال الطِّيبيُّ : "قوله: «أربع»، يُحتمَل أن يكون هذا مختصًّا بأبناء زمانه؛ فإنه ﷺ علم بنور الوحي بواطنَ أحوالهم، وميَّز بين مَن آمَن به صدقًا، ومَن أذعَنَ له نفاقًا، وأراد تعريفَ أصحابه على حالهم؛ ليكونوا على حَذَر منهم، ولم يُصرِّحْ بأسمائهم؛ لأنه عليه الصلاة السلام عليمٌ أن منهم مَن سيتوب، فلم يَفضَحْهم بين الناس، ولأن عدمَ التعيين أوقَعُ في النصيحة، وأجلَبُ للدعوة إلى الإيمان، وأبعدُ عن النفور والمخاصَمة. ويُحتمَل أن يكون هذا الخطابُ عامًّا لينزجِرَ الكلُّ عن هذه الخصال على آكَد وجهٍ؛ إيذانًا بأنها طلائعُ النفاق الذي هو أقبحُ القبائح؛ كأنه كفر مموَّهٌ باستهزاءٍ، وخداع مع ربِّ الأرباب، ومُسبِّب الأسباب. فعُلم من ذلك أنها منافيةٌ لحال المسلمين، فينبغي للمسلم ألَّا يرتعَ حولَها؛ فإن مَن رتَعَ حول الحمى يوشكُ أن يقَعَ فيه، ويُحتمل أن يكون المراد بالمنافق العُرفيَّ، وهو مَن يُخالف سرُّه علنَه مُطلقًا"[11]
قال ابن تيمية : " والنّفاقُ له شُعَب ودعائمُ، كما أنّ للإيمان شُعبًا ودعائمَ؛ ففي الصّحيحين عن النّبيّ ﷺ أنّه قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتُمن خان»، وفيهما أيضًا أنّه قال: «أربع من كنّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهنّ كانت فيه خصلة من النّفاق حتّى يدعها: إذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا ائتمن خان»[12]
قال ابن تيمية : "والإيمان يَزيد ويَنقُص، ويجتمع في العبد إيمان ونفاق؛ كما ثبت عنه في الصّحيح أنّه قال: «أربع من كنّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهنّ كانت فيه خصلة من النّفاق حتّى يدعها: إذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا ائتمن خان»"[13]
المراجع
- "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 46، 47).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (6/ 163).
- انظر "فتح الباري" لابن حجر (1/ 89).
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (2/ 509).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 47، 48).
- "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلانيِّ (1/ 90).
- "فتح المنعم بشرح صحيح مسلم" لموسى شاهين لاشين (1/ 221).
- "الأدب النبوي" لمحمد عبد العزيز الخولي (ص: 18).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب الحنبليِّ (2/ 486).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 48).
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (2/ 509).
- "مجموع الفتاوى" (3/ 216).
- "مجموع الفتاوى" (7/ 616).النقول