الفوائد العلمية
1. في الحديث بيان سموِّ دين الإسلام، وحرصه على مصالح العباد، وحياتهم، حيث يحفظ على أتباعه عقولهم، وأبدانهم، ودينهم.
2. قال ﷺ : «إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ»: ولم يقل النبيُّ ﷺ: (حرَّما)؛ تأدُّبًا مع الله تعالى، وإشارةً إلى أن أمر النبيِّ ﷺ ناشئٌ عن أمر الله تعالى، فتأدَّب النبيُّ ﷺ، فلم يَجمَع بينه وبين اسم الله تعالى في ضمير الاثنين [1].
1. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (4/ 461).
الفوائد الفقهية
3. أحلَّ الله تعالى الطيِّباتِ، وهى أغلبُ ما خَلَق الله في الأرض لنا، وحذَّر من كلِّ ما فيه مفاسدُ ومَضارُّ، وحرَّم الخبائث؛
﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَٰٓئِثَ﴾
4. في الحديث تحريم أربعة أشياءَ من الخبائثِ هي عناوينُ الْمَفاسِدِ، والْمَضارِّ، العائدةِ على العقول، والأبدان، والأديان، والطباع، والأخلاق.
5. اشتمَلَت هذه الكلمات الجوامعُ في الحديث على تحريم ثلاثةِ أجناس: مَشاربَ تُفسِد العقول، ومَطاعمَ تُفسِد الطِّباع وتغذِّي غذاءً خبيثًا، وأعيانٍ تُفسِد الأديان وتدعو إلى الفِتنة والشِّرك، فصان بتحريم النوع الأول العقولَ عما يُزيلها ويُفسدها، وبالثاني: القلوبَ عما يُفسِدُها من وصول أثر الغذاء الخبيث إليها، وبالثالث: الأديانَ عمَّا وُضِع لإفسادها، فتضمَّن هذا التحريمُ صيانة العقول، والقلوب، والأديان [1].
6. حرَّم الله تعالى بيع الخمر، وشُربها؛
﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلْأَنصَابُ وَٱلْأَزْلَٰمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَٰنِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾
7. لعن النبيُّ ﷺ في الخَمْرِ عشَرةً؛
فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ:
«لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي الخَمْرِ عَشَرَةً: عَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَشَارِبَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ، وَسَاقِيَهَا، وَبَائِعَهَا، وَآكِلَ ثَمَنِهَا، وَالْمُشْتَرِيَ لَهَا، وَالْمُشْتَرَاةَ لَهُ»
8. في الحديث تحريم بيع الْمَيتة، ويُفهَم منه كذلك حُرمةُ بيع جثث الموتى؛ فقد "ذَكَر ابنُ إسحاقَ في السِّير قال: لَمَّا كان يومُ الخَنْدقِ، اقتحمه نوفلُ بنُ عبدِ الله بنِ المغيرةِ المخزوميُّ، فتورَّط فيه فقُتِل، فغَلَب المسلمون على جَسَده، فسألوا رسولَ الله أن يَبِيعهم جَسَده، فقال رسول الله: لا حاجة لنا بجسده، ولا ثَمَنه" [3].
9. حرَّم الله تعالى أكلَ الْمَيتة في القرآن الكريم؛
﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلدَّمُ وَلَحْمُ ٱلْخِنزِيرِ﴾
10. يُستثنى من تحريم أكل الميتة وبيعها السَّمَكُ والجَرَاد؛ ف
عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ:
سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَرْكَبُ البَحْرَ، وَنَحْمِلُ مَعَنَا القَلِيلَ مِنَ الْمَاءِ، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا، أَفَنَتَوَضَّأُ مِنَ الْبَحْرِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الحِلُّ مَيْتَتُهُ»
وعَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ:
«أُحِلَّتْ لَكُمْ مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ، فَالْحُوتُ وَالْجَرَادُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ، فَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ»
11. في الحديث تحريم بيع الخنزير، وقد حرَّم لحم الخنزير، فلا يجوز الانتفاعُ به بأيِّ وجه من وجوه الانتفاع؛
﴿قُل لَّآ أَجِدُ فِى مَآ أُوحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍۢ يَطْعَمُهُۥٓ إِلَّآ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍۢ فَإِنَّهُۥ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِۦ ۚ ﴾
12. لا يجوز بيع الأصنام، حتى وإن كانت لا تُعبَد من دون الله، فما عُبِدت الأصنام من دون الله إلا بعد أن صُنعت ابتداءً لغير العبادة، وقد أخبر النبيُّ ﷺ أن هذه الأمَّة سوف تَعبُد الأصنام مرَّةً أخرى؛
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَضْطَرِبَ أَلَيَاتُ نِسَاءِ دَوْسٍ، حَوْلَ ذِي الْخَلَصَةِ»، وَكَانَتْ صَنَمًا تَعْبُدُهَا دَوْسٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ
13. ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يجوز الانتفاعُ بشحم الميتة في شيءٍ أصلاً؛ لعُموم النهيِ عن الانتفاع بالْمَيتة إلا ما خُصَّ، وهو: الجِلد المدبوغ، وذهب الشافعيُّ وأصحابه إلى جواز الانتفاع بشحم الْمَيتة في طَلْيِ السُّفن، والاستصباحِ بها، وغيرِ ذلك مما ليس بأكلٍ، ولا في بَدَنِ الآدميِّ [7].
14. الإجماع قائمٌ على أنه: لا يجوز بَيْعُ الْمَيتة والأصنام؛ لأنه لا يَحِلُّ الانتفاع بها، ووضع الثمن فيها إضاعةُ مال، وقد نهى الشارع عن إضاعته [8].
15. العلَّة في منع بيع الْمَيتة والخمر والخنزير عند جمهور العلماء: النجاسةُ، فيتعدَّى ذلك إلى كلِّ نَجَاسة؛ (أي: يَحرُم بيع كلِّ نجاسة)، والمشهور عند مالكٍ طهارةُ الخِنزير، والعلَّة في منع بيع الأصنام: عَدَمُ المنفعة المباحة؛ فعلى هذا إن كانت بحيث إذا كُسِرت يُنتَفع برُضَاضها، جاز بيعها عند بعض العلماء من الشافعية، والأكثرُ على المنع؛ حملاً للنهيِ على ظاهره [9].
16. فقال: «لا، هو حرام»؛ أي: البيع، هكذا فسَّره بعض العلماء؛ كالشّافعيِّ ومن اتَّبَعه، ومنهم من حمل قوله: «وهو حرام» على الانتفاع، فقال: يحرم الانتفاع بها، وهو قول أكثر العلماء، فلا ينتفع من الميتة أصلًا عندهم إلّا ما خُصَّ بالدّليل، وهو الجِلد المدبوغ، وسياق قوله ﷺ: «قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ...» إِلَخْ: مُشْعِرٌ بِقُوَّةِ ما أَوَّلَه الأكثرُ أن المراد بقوله: «هُوَ حَرَامٌ» البيعُ، لا الانتفاعُ [10].
17. خرَج قوله ﷺ: «لعن اللّه اليهود» في بيع الشّحوم، وأكل ثَمَنها، وفي بيع الخمر، وأكل ثَمَنها؛ لأنّها نجسة الذّات؛ مثل شحوم الميتة والدَّم، وليس الزّيتُ تقع فيه الميتة كذلك؛ لأنّه إنّما نَجِس بالمجاوَرة؛ وليس بنَجِس الذّات؛ فلذلك جاز بيعُه إذا بُيِّن بعَيبه، وجاز أكل ثمنه؛ لأنّه ممّا يُنتفَع به للاستصباح وغيره [11].
18. أَجمَع المسلمون على تحريم بيع الْمَيتة والخمر والخِنزير [12].
19. في تحريم بيع الخمر والْمَيتة، دليلٌ على تحريم بيع الأعيان النَّجِسة، وإن كانت منتفَعًا بها في الضرورة [13].
20. في تحريم بيع الأصنام، دليلٌ على تحريم بيع جميع الصور المتَّخَذة من الخشب والحديد وغيرهما، وعلى تحريم بيع جميع آلات اللهو كالطنبور والمزمار والمعازف، فإذا طُمست الصور وغيِّرت آلات اللهو عن حالتها، يجوز بيع جواهرها وأصولها [14].
21. قوله: «قاتل الله اليهود...» إلخ: فيه دليلٌ على بُطلان كلِّ حيلة تُحتال للتوصُّل إلى محرَّم، وأنه لا يتغيَّر حُكمه بتغيير هيئته، وتبديل اسمه [15].
22. في الحديث إشارة إلى أن من احتال في استعمال الأشياء المحرّمة، كان سالكًا مسلك اليهود الذين لعنهم الله تعالى؛ لانتهاكهم ما حرَّم الله تعالى بالاحتيال.
1. "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم (5/ 661).
2. رواه الترمذيُّ (1295)، وابن ماجه (3381)، وقال الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (2357): حسن صحيح.
3. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (5/ 369).
4. رواه أحمد (7233)، والنسائيُّ (59)، وأبو داود (83)، وابن ماجه (386)، والترمذيُّ (69)، وقال الترمذيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وصححه الألبانيُّ في "صحيح أبي داود" (76).
5. رواه أحمد (5723)، وابن ماجه (3314)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الجامع" (210).
6. رواه البخاريُّ (7116)، ومسلم (2906).
7. "شرح النوويِّ على مسلم" (11/ 6).
8. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيِّ (12/ 55).
9. "فتح الباري" لابن حجر (4/ 425).
10. "فتح الباري" لابن حجر (4/ 425).
11. "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 510).
12. "شرح النوويِّ على مسلم" (11/ 6 - 8).
13. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (7/ 2104).
14. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (7/ 2104).
15. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (7/ 2104).
الفوائد العقدية
23. من باب حماية جَنَاب التوحيد، لا يجوز بَيْعُ الأصنام، والمتاجَرة فيها، وقد حَمَى نبيُّ الله ﷺ جَنَاب التوحيد في أقلَّ من هذا؛
فعن ثابتِ بنِ الضحَّاكِ، قال:
نَذَر رجلٌ على عهد رسول الله ﷺ أن يَنحَر إِبِلاً ببُوَانةَ - موضع بأسفل مكةَ - فأتى النبيَّ ﷺ، فقال: إني نذرتُ أن أَنحَر إبلاً ببُوَانةَ، فقال النبيُّ ﷺ: «هل كان فيها وَثَنٌ من أوثان الجاهلية يُعبَد؟» قالوا : لا، قال: «هل كان فيها عيدٌ من أعيادهم؟»، قالوا: لا، قال رسول الله ﷺ: «أَوْفِ بنَذْرِكَ؛ فإنه لا وفاءَ لنَذر في معصية الله، ولا فيما لا يَملِك ابنُ آدم»
1. رواه أبو داود (3313)، وصححه الألبانيُّ في المشكاة (3437).
الفوائد الحديثية
24.
عن جابر رضي الله عنه أنه (سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، يَقُولُ عَامَ الفَتْحِ وَهُوَ بِمَكَّةَ):
وفي هذا بيان لزمان، ومكان سماع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما لهذا الحديث من النبيِّ ﷺ، فكان سماعُه بمكَّةَ، في عام الفتح سنةَ ثمانٍ من الهجرة، "ويُحتمَل أن يكون التحريمُ وقع قبلَ ذلك، ثم أعاده ﷺ ليَسمَعه مَن لم يكن سَمِعه" [1].
25. مسند جابر بن عبد الله بلغ ألفًا وخمسمِائة وأربعين حديثًا، اتفق له الشيخان على ثمانية وخمسين حديثًا، وانفرد له البخاريُّ بستة وعشرين حديثًا، ومسلمٌ بمائة وستة وعشرين حديثًا [2].
1. "فتح الباري" لابن حجر (4/ 424).
2. "سير أعلام النبلاء" للذهبيِّ (3/194).
الفوائد اللغوية
26. «فَقَالَ: لاَ، هُوَ حَرَامٌ» "ومعناه: لا تبيعوها؛ فإن بيعها حرامٌ، وهناك خلاف بين العلماء في عود الضمير (هو)، هل يعود إلى البَيع أو الانتفاع؟ [1].
1. "شرح النوويِّ على مسلم" (11/ 6).