عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ، قَالَ: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ».
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ، قَالَ: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ».
1. في الحديث حثٌّ على المبادرة إلى الدعوة إلى الله، والعمل على الأخذ بيدِ الناس إلى الله.
2. في الحديث بيان أن الدعوة إلى الله تعالى من أيسر الأمور، فيُمكِنك ممارستُها في كلِّ أحوالك؛ فليس شرطًا أن يقوم بها العلماء، أو المختصُّون، أو الْمُدرَّبون، أو مَن وظيفتُهم الدعوة؛ بل يَسهُل أن يقوم بها كلُّ مسلم، حتى لو نَشَر آيةً، أو حديثًا، أو ذِكرًا، فيؤجَر على ذلك.
3. في الحديث يأمر النبيُّ ﷺ المسلمَ بتبليغ ولو آيةً واحدة؛ حتى يُسارع كلُّ مسلم إلى تبليغ ما بَلَغه من الشرع مهما قلَّ، وحتمًا سيَصِل كلُّ ما جاء به ﷺ إذا فَعَل كلُّ مسلم ذلك.
4. إن الدعوة إلى الله تعالى فاتحةٌ لكلِّ خير، ومُغْلِقةٌ لكلِّ شرٍّ، والتواصي بالحقِّ والتواصي بالصبر من أخصِّ سمات المسلم، وطريقٌ لفلاحه ونجاحه في الدنيا والآخرة.
5. إن تبليغَ شرائع الدين، والدعوة إلى الله تعالى، هي أشرفُ الأعمال وأعظمها، وهي مَهمَّة الأنبياء والرسل، عليهم السلام.
6. من أكبر النِّعَم على المرء أن يحظى بشرف تبليغ دين الله، والدعوة إليه تعالى، ويكفي شرفًا مَن يبلِّغ ما جاء به المصطفى ﷺ أنه يدخل في قوله تعالى:
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}
[فصلت: 33]
وهذا استفهام تقريريٌّ؛ أي: لا أحدَ أحسنُ قولًا ممن دعا إلى الله مع العمل الصالح الذي يُصدِّق قوله، ومع استسلامه لله تعالى منكِرًا ذاته، فتصبح دعوته خالصةً لله تعالى، ليس له فيها إلا التبليغ.
7. قال ﷺ: «ولو آيةً»، ولم يقل: ولو حديثًا؛ لأنَّ الأمر بتبليغ الحديث يُفهَم من هذا بطريق الأَوْلَوية؛ فإنَّ الآياتِ مع انتشارها وكثرة حَمَلتها، وتكفُّل الله سبحانه بحفظها، وصَونها عن الضياع والتحريف، إذا كانت واجبةَ التبليغ، فالحديثُ الذي لا شيء فيه مما ذُكِر أَوْلى[1].
8. بالدعوة تستقيم أمور الخَلق وتَصلُح مَعايشُهم، ويتوجَّه المذنِب إلى التوبة، والعاصي إلى الطاعة، والكافرُ إلى الإسلام، وبالدعوة يكون المسلم في رحاب رضوان الله تعالى.
9. إن كانت الدعوةُ واجبةً على كلِّ مسلم، ويَسهُلُ القيام بها بمجرَّد تبليغ ما يَعلَمه مهما قلَّ، فإنه لا بدَّ للدعوة إلى الله تعالى من داعية يمتثل وجوبها، ويَعرِف شرفَها، فيحمل همَّ دعوته، ويعرف ماهيَّتها وغايتها، والمطلوبَ منه في طريق الدعوة، وما يجب عليه من التحلِّي بالأخلاق الحسنة والشِّيم الكريمة؛ فإنه كالسراج المنير يمحو ظلماتِ الكفر والضلال والمعاصي.
10. إذا كانت الدعوةُ هي إخبارَ الناس بدينهم، وهذا لا يكون إلا بعلم وتثبُّت وحُجَّة مقنِعة، كان لا بدَّ أن تكون هناك علومٌ تُعين الداعية على إبلاغ الرسالة للناس، علومٌ دينية ودنيوية تؤهِّل الداعية، وتُنير له صراط دعوة الناس إلى ربهم، فعلى الداعية أن يسعى للتعلُّم؛ حتى يدعوَ إلى الله بعلم وبصيرة.
11.
قال النبيُّ ﷺ:
«إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ، وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرَضِينَ، حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا، وَحَتَّى الحُوتَ، لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الخَيْر»[2].
12.
قال تعالى:
{ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}
[النحل: 125]
"أَطلَق الحِكْمةَ ولم يقيِّدْها بوصف الحَسَنة؛ إذ كلُّها حَسَنةٌ، ووصفُ الحُسْن لها ذاتيٌّ، وأمَّا الموعظة، فقيَّدها بوصف الإحسان؛ إذ ليس كلُّ موعظة حسنةً، وكذلك الجَدَلُ، قد يكون بالتي هي أحسن، وقد يكون بغير ذلك"[3].
13. ليس مقصودُ هذا الحديث تبليغَ أيِّ شيء لأيِّ أحد؛ فالدعوة تحتاج إلى بصيرة
كما قال تعالى:
{قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}
[يوسف: 108]
بصيرة في كلِّ أمور الدعوة، ومنها مراعاةُ حال المدعوِّين ومستواهم العقليِّ، فما يُناسب شخصًا قد لا يُناسب آخَرَ، وما يَفهَمه أحدُ المدعوِّين قد لا يفهمه مدعوٌّ آخَرُ.
14. قال عليُّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه: "حَدِّثُوا النَّاسَ بما يَعْرِفُونَ؛ أَتُحِبُّون أن يُكذَّبَ اللَّهُ ورسولُه؟!"[4].
15. إن الغاية العظمى من الدعوة للإسلام ما قاله رِبْعِيُّ بْنُ عَامِرٍ: "اللَّهُ ابتَعَثَنا لنُخرِجَ مَن شاء من عبادة العباد إلى عبادة اللَّه، ومن ِضيق الدُّنيا إلى سَعَتها، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام، فأَرسَلنا بدينه إلى خَلقِه لندعوَهم إليه"[5].
16. إن على العبد المؤمن أن يتحيَّن كلَّ فرصة سانحةٍ؛ لكي يسابق بالخيرات، ويزاحم الآخرين بالطاعات، ويدعو إلى ذلك، فينال أجره وأجورهم؛ فيكفي الداعيةَ جزاءً وأجرًا دخولُه في قوله ﷺ:
«مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا»[6].
17.
قال ﷺ:
«مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ»[7].
18.
قال ﷺ:
«فواللهِ، لَأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ»[8].
19. في الحديث أنه لا حرج في التحدُّث عن بني إسرائيل؛ لأنّه كان تَقدَّم منه ﷺ الزَّجْرُ عن الأخذ عنهم، والنَّظَر في كُتبهم، ثمَّ حَصَل التّوسُّع في ذلك، وكأنَّ النّهيَ وقع قبل استقرار الأحكام الإسلامية، والقواعد الدِّينية؛ خشيةَ الفتنة، ثمَّ لَمَّا زال المحذور، وقع الإذن في ذلك؛ لِما في سماع الأخبار التي كانت في زمانهم من الاعتبار.
20. اتَّفق العلماء على تغليظ الكَذِب على رسول اللّه ﷺ وأنّه من الكبائر، حتّى بالَغ الشَّيخ أبو محمَّد الجُوَينيُّ فحَكَم بكُفر من وقع منه ذلك، وكلامُ القاضي أبي بكرِ بنِ العربيِّ يَميل إليه، وجَهِل من قال من الكرَّاميَّة وبعض المتزهِّدة أنَّ الكذب على النّبيِّ ﷺ يجوز فيما يتعلَّق بتقوية أمر الدِّين، وطريقة أهل السّنَّة والتّرغيب والتّرهيب، وعلَّلوا بأنّ الوعيد ورَدَ في حقِّ من كَذَب عليه، لا في الكَذِب له، وهو تعليل باطل؛ لأنّ المراد بالوعيد مَن نَقَل عنه الكَذِب، سواءٌ كان له أو عليه، والدِّين بحمد اللّه كاملٌ غير محتاج إلى تقويته بالكذب[1].
21. الدعوة إلى الله تعالى هي الدعوة إلى الإيمان به، وبما جاءت به رُسله، بتصديقهم فيما أخبروا به، وطاعتهم فيما أَمَروا، وهي البَلاغ والإنذار؛ تبليغُ الناس رسالة الإسلام، ودعوتهم إلى الإيمان بالله وحده، وإخلاص العبادة له، وإنذارُ المنحرفين عن دينه بأن لهم عذابًا أليمًا.
22. إن الدعوة إلى الله تعالى تكليف لكلِّ المسلمين، كلٌّ حسب طاقته ومَقدِرته؛ فقد أمرهم الله أن يَدْعوا إليه، ويكفي الداعيةَ شرفًا وجزاءً وكرمًا من الله أن يكون من المفلِحين
قال تعالى:
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
[آل عمران: 104]
"والمقصودُ من هذه الآية أن تكون فِرْقةٌ من الأمَّة مُتَصدِّيَةً لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجبًا على كُلِّ فرد من الأُمَّة بحَسَبِه"[1].
23. الأمر بالتحدُّث عن بني إسرائيل في الحديث للإباحة؛ إذ لا وجوب ولا نَدْبَ فيه بالإجماع[2].
24. الكَذِب على العالِم ليس كالكذب على عامَّة الناس؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء يبلِّغون شريعة الله إرثًا لرسول الله ﷺ، فإذا كذبتَ عليهم؛ فقلت: قال العالم فلان كذا وكذا، وأنت تكذب، فهذا إثمُه عظيم؛ حيث إن بعضَ الناس إذا أراد أن يَكُفُّ الناسَ عن شيء، قال: قال العالم فلان: هذا حرامٌ. وهو يَكذِب؛ لأنه يعلم أن الناس، إذا نُسِب العلم إلى العالم فلان، قَبِلوه، فيَكذِب، وهذا أشدُّ من الكذب على عامَّة الناس[3].
25. «وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ»: قيل: المرادُ رفعُ الحرج عن حاكي ذلك؛ لِما في أخبارهم من الألفاظ الشَّنيعة؛ نحوُ قولِهم:
{فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}
[المائدة: 24]
وقولهم:
{اجْعَلْ لَنَا إِلَٰهًا}
[الأعراف: ١٣٨]
وقيل: المعنى: حدِّثوا عنهم بمثل ما وَرَد في القرآن والحديث الصَّحيح، وقيل: المراد جواز التّحدُّثِ عنهم بأيِّ صورة وَقَعت من انقطاع أو بلاغ؛ لتعذُّر الاتِّصال في التّحدُّث عنهم، بخلاف الأحكام الإسلامية؛ فإنَّ الأصل في التّحدُّث بها الاتِّصال، ولا يتعذَّر ذلك؛ لقُرب العهد، وقيل: الْمُراد جوازُ التحدُّث عنهم بما كان من أمرٍ حَسَنٍ، أمَّا ما عُلِم كَذِبُه، فلا. وقيل: من المعلوم أنّ النّبيَّ ﷺ لا يُجيز التّحدُّث بالكذب؛ فالمعنى: حدِّثوا عن بني إسرائيل بما لا تعلمون كَذِبَه، وأمَّا ما تجوِّزونه، فلا حرج عليكم في التّحدُّث به عنهم، وهو نَظِير قوله: «إذا حدَّثكم أهلُ الكتاب فلا تصدِّقوهم ولا تكذِّبوهم»، ولم يُرِدِ الإذْنَ ولا المنع من التّحدُّث بما يَقطَع بصدقه[4].
26. (لو) في الحديث للتقليل؛ فلا يقول الإنسان: أنا لا أبلِّغ إلا إذا كنتُ عالِمًا كبيرًا؛ بل يبلِّغ ولو آيةً، بشرط أن يكون قد عَلِمها، وأنها من كلام الرسول ﷺ.
27. «وَلَوْ آيَةً»: آيةً: خبرُ (كان) المحذوفة مع اسمها، والمعنى: ولو كان المبلَّغُ آيةً، وحذفُ (كان) بعد (لو) مطَّرِد في مثل هذا السياق.
28. الآيةُ في اللُّغة تُطلَق على ثلاثةِ مَعانٍ: العلامة الفاصلة، والأُعجوبة الحاصلة، والبليَّة النَّازلة؛ فمن الأوَّل: قوله تعالى:
{آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا}
[مريم: ١٠]
ومن الثّاني: (إن في ذلك لآيةً)، ومن الثّالث: جَعَل الأميرُ فلانًا اليومَ آيةً، ويَجمَع بين هذه المعاني الثّلاثة أنّه قيل لها: آيةٌ؛ لدلالتها وفصلها وإبانتها[1].
29. «فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»: اللام للأمر، والفعل مجزوم بعد اللام، والمراد بالأمر هنا الخَبَر؛ بمعنى: فقد تبوَّأ مقعده من النار؛ أي: فقد استحقَّ أن يكون من ساكني النار.