فقه
1- قام عثمان بن عفانرضي الله عنه أمام النَّاس يُعلِّمهم صفة الوضوء، فدعا بماءٍ يتوضَّأ به، فبدأ بكفَّيه فغسلهما ثلاثَ مرَّاتٍ، ثم أخذ ماءً في كفِّه فتمضمض وأدخل الماء في أنفه ثم طرده ليُنَظِّف ما بداخله، يفعل ذلك ثلاثًا، ثُمَّ غسل وجهه ثلاثًا، وحدُّ الوجه من منابت الشعر إلى أسفل الذقن طولًا، وبين شحمتي الأذنين عرضًا، ثم غسل يديه إلى المرفقين - وهما المفصلان بين الذراع والعضد – يبدأ بيده اليمنى فيغسلها ثلاثًا ثم يغسل اليسرى ثلاثًا كذلك، ثم مسح رأسه بيده المبلولة مرَّةً واحدةً، والفرضُ في الرَّأسِ المسحُ لا الغسل؛ تخفيفًا ورأفةً، ثم يغسل رِجْليه مع الكعبين – والكعبُ: العظم البارز في أسفل السَّاق- ثلاثًا، يبدأ باليمنى ثم اليُسْرى.
ولم يذكر الراوي أنَّه غسل أذنيه لأنَّها تُغسل – ظاهرًا وباطنًا - مع مسح الرأس، كما ثبت عنه ﷺ[1]
وقد روى عثمانرضي الله عنه في هذا الحديث أنَّ وضوءَ النَّبي ﷺ كان ثلاثًا ثلاثًا، وقد ورد في أحاديث أخرى أنه توضأ مرةً مرةً، ومرتين مرتين، فدلَّ مجموع ذلك أنَّ الفرضَ يحصلُ بمرةٍ واحدة مُطَهِّرة، وأن ما زاد عليها فهو سُنَّة، غير أنَّه ﷺ لم يزد على ثلاثِ غسلاتٍ لكلِّ عضوٍ، وقال: «فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ»[2]. فالواحدة مُجزِئة والثانية سُنَّة والثالثةُ أعلى الكمال، وما زاد على ذلك ظلمٌ.
2- ثم أخبر عثمان رضي الله عنه أنَّه رأى النبيُّ ﷺ يتوضَّأ هكذا، وأنه أراد أن يُعَلِّم النَّاس صفةَ وضوءِ النبيِّ ﷺ كما رآها.
3- ثم ذكر عثمان رضي الله عنه أنَّ النبيَّ ﷺ أخبرهم أن مَن توضأ مثل هذا الوضوء ثم صلَّى ركعتين بخشوعٍ وإخلاصٍ لا يُحدِّث فيهما نفسَه بأحاديث الدُّنيا، بل إذا شغله شيءٌ مما يعرض للمسلم في صلاته طَرَده عنه ولم يسترسل فيه، كان جزاؤه أن يُغفر له جميع ذنوبه الماضية.
وظاهر الحديث يفيد أنَّ ذلك يشمل جميع الذُّنوب: الصغائر والكبائر، إلا أنَّ أشباهه من الأحاديث خصَّصت ذلك بالصغائر لا الكبائر
«الصلَواتُ الخَمسُ، وَالجُمُعَة إِلى الجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَينَهُنَّ مَا اجتَنَبَ الكَبَائِرَ»[3]
فجعلوا هذا القيد في هذه الأمور مقيِّدًا للمطلق في غيرها"[4]
4- ولمَّا كانت مغفرةُ الذنوب حاصلةً بالوضوء، كانت الصلاةُ والمشيُ إلى المسجد زائدةً في الأجر على التكفير؛ فيحصل له بالوضوء والصلاة تكفير الذنوب، وله كذلك أجرُ الصَّلاةِ والمشيِ إلى المسجد، لا ينقص من أجرهما شيءٌ، ولا يكتفي الربُّ سبحانه أنْ غفر له ذنوبَه، بل يجازيه كذلك على الصلاة والمشي.
اتباع
1- (1) لم يمنع الحياءُ عثمانَ رضي الله عنه مع ما عُرف من شدة حيائه من أن يتوضَّأ أمام النَّاس ليعلمهم صفة الوضوء. فلا يمنعك الحياءُ من طلب العلم أو نشره أو تصحيح خطأٍ أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر.
2- (1) تعلَّم من هذا الحديث صفةَ الوضوءِ المسنون، واحرص على اتِّباعه.
3- (1) خيرُ الوضوءِ ما كان ثلاثًا ثلاثًا، فاتَّبعه ولا تزِد على ذلك.
4- (1) غسل الكفين من سُنن الوضوء التي حرص عليها النبيُّ ﷺ وإن لم تُذكر في القرآن. فاحرص على جمع سنن الوضوء ومستحباته واتباعها.
5- المضمضة والاستنشاق ومسح الأذنين واجبة في الغسل والوضوء، لأن الأنف والفم من الوجه وغسل الوجه واجب، والأذنان من الرأس فيجب مسحهما.
6- (1) الترتيبُ بين الفروض والسنن فرضٌ يجب مراعاته.
7- (1) احرص على الموالاة في الوضوء، فلا تقطع وضوءك لشيءٍ ثم تستكمل، فإذا قطعت وضوءك قطعًا غير يسير حتى نشفت الأعضاء، فاستأنف من جديد.
8- (1) المرافق والكعبين يدخلان في الوضوء، فاحرص على استيعابهما بالغسل.
9- (1) الكعب هو العظمان البارزان في أسفل الساق، وليس ما اصطلح بعض النَّاس عليه من تسمية آخر باطن القدم كعبًا، فذلك يُسمى العَقِب لا الكعب.
10- (1) لم يتلفظ عثمان رضي الله عنه بالنِّية لأنَّ محلها القلب، والنطق بها بِدعةٌ.
11- (1) يُستفاد من فعل عثمان رضي الله عنه أنَّ النبيَّ ﷺ لم يكن يقول شيئًا على وضوئه من الأوراد التي يقولها النَّاس، "ولم يُحفظ عنه أنه كان يقول على وضوئه شيئًا غير التسمية، وكلُّ حديث في أذكار الوضوء الذي يُقال عليه، فكذِبٌ مختلَقٌ لم يقل رسول الله ﷺ شيئًا منه، ولا علَّمه لأمَّته، ولا ثَبَت عنه، غير التسمية في أوَّله، وقوله: «أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوَّابين، واجعلني من المتطهِّرين» في آخره"[5]
12- (2) ينبغي للمعلم والمُرَبِّي والداعية أن يلجأ إلى التعليم العملي الذي يرسخ في الأذهان وتصل إليه الأفهام، كما فعل عثمان رضي الله عنه.
13-(3) ينبغي للداخل للعبادة دفع الخواطر المتعلِّقة بأشغال الدنيا، وجهاد النفس في ذلك، فإن الإنسان يحضُره في حال صلاته ما هو مشغوف به.
14- (3) المقصود من أحاديث النَّفس ما كان منها متعلقًا بأمور الدنيا، أما التفكُّر في الآخرة وعذابها ونعيمها والحساب والصراط ونحو ذلك، فليس مما يُنهى عنه[6]
15- (3) إذا تعلَّق فكرُك بشيءٍ من أمور الدنيا وأنت في الصلاة فاقطعه عنك، وركِّز في صلاتك وتدبُّر معاني الآيات التي تقرأها أو تسمعها من الإمام، فإذا فعلتَ ذلك لم يضرَّك ولم يؤثر على صلاتك.
16-(3) فرصةٌ عظيمة لمغفرة الذنوب، بوضوءٍ وركعتين خفيفتين! فهل من مُشَمِّر؟
17- (3) بادر إلى إسباغ الوضوء
«أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟» قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى المكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى المسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ»[7]
18- (3) إن الإسلام دين الطهارة والنظافة والجمال، حتى إنه جعل الطهارةَ من أَجَلِّ العبادات، وأعظمِ القُرُبات التي يَتقرَّب بها العبدُ إلى خالقه سبحانه، وعليها تتوقَّف صحَّةُ كثيرٍ من العبادات.
19- (4) الجنة لا يَدخُلها خبيث، ولا من فيه شيء من الخُبث؛ فمن تطهَّر في الدنيا، ولَقِي الله طاهرًا من نجاساته، دَخَلها بغير معوِّق، ومن لم يتطهَّر في الدنيا، فإن كانت نجاسته عينيةً كالكافر، لم يَدخُلها بحال، وإن كانت نجاستُه كَسْبيةً عارضةً، دَخَلها بعدما يتطهَّر في النار من تلك النجاسة، ثم يَخرُج منها، حتى إن أهل الإيمان إذا جازوا الصراط، حُبِسوا على قنطرة بين الجنَّة والنار، فيُهَذَّبون ويُنَقَّوْنَ من بقايا بَقِيت عليهم، قَصُرت بهم عن الجنَّة، ولم توجب لهم دخولَ النار، حتى إذا هُذِّبوا ونُقُّوا، أُذِن لهم في دخول الجنة[8]
20- (4) يتفضل الله سبحانه على عباده بأن يغفر لهم الذنوب ويكافئهم على صلاتهم ومشيهم إليها، فكيف يردُّ ذلك الفضلَ عاقلٌ؟!
المراجع
- "زاد المعاد" لابن القيم (1/ 187، 188).
- رواه أبو داود (135)، والنسائي (140)، وابن ماجه (422).
- رواه مسلم (233).
- "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 87).
- "زاد المعاد" لابن القيم (1/ 187، 188).
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العيني (3/ 7).
- رواه مسلم (251).
- "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن القيم (1/ 56).