عن حُمْرَانَ، مَوْلَى عُثْمَانَ، أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رضي الله عنه دَعَا بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأ،َ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْمِرْفَقِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ،ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا،ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»، وزاد مسلم في رواية: «وَكَانَتْ صَلاَتُهُ وَمَشْيُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ نَافِلَةً»

عناصر الشرح

غريب الاحديث

(الوَضُوء) بفتح الواو: اسم للماء، و(الوُضوء) بضمِّ الواو: اسم لفعل التوضُّؤ[1]

المراجع

  1.  "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 80).

المعني الاجمالي للحديث

(يروي حُمْرَانُ، مَوْلَى عُثْمَانَ، أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ دَعَا بِوَضُوءٍ)؛ أي: طلب إناءً فيه ماءٌ لكي يتوضَّأ به، (فَتَوَضَّأ،َ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ) والكف: راحة اليد مع الأصابع (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ مَضْمَضَ)؛ أي: أدار الماء في فَمِه ثم أخرجه، (وَاسْتَنْثَرَ)؛ أي: أخرج من أنفه الماء الذي استنشقه، (ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْمِرْفَقِ) المرفق: هو مِفصَل العَضُد من الذراع، ويدخل في الغَسْل (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ)؛ أي: إلى المرفق ثلاث مرات، (ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ)؛ أي: أمَرَّ يده على رأسه مبلولة بالماء، (ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ) والكعبان عظمان بارزان في أسفل الساق ويدخلان في الغسل (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ)؛ أي: إلى الكعبين، (ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ r تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا) ؛ أي مثل فعل وضوئي هذا، (ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ») حديث النفس: هو الوساوس والخطرات، والمراد به هنا ما كان في شؤون الدنيا؛ أي: فلا يسترسل في ذلك، وإلا فالأفكار يتعذَّر السلامة منها، «غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»؛ أي: ستر الله ما سبق من ذنبه ومعصيته، وتجاوز عنه. وزاد مسلم في رواية: «وَكَانَتْ صَلاَتُهُ وَمَشْيُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ نَافِلَةً»؛ أي: أن الغفران قد حصل له بالوضوء، فثواب صلاته ومشيه زيادة في الفضل.

الشرح المفصل للحديث

كان الصّحابة - رضوان الله عليهم - يحرصون أشدَّ الحرص على تبليغ الشرع، ونقل السُّنَّة، وتعليم الناس دينهم، ونشر صحيح الدّين وتعاليم النبيّ ﷺ، ومن أهمِّ الأمور التي حرصوا على نقلها وتبليغها الوضوءُ، فهو من أَجَلِّ العبادات، وأعظمِ القُرُبات التي يَتقرَّب بها العبدُ إلى خالقه سبحانه، وعليه تتوقَّف صحَّةُ الصلاة، وحُسن كثير من الطاعات، وقد أخبر تعالى أن الطهارة تجلب محبَّة اللهِ تعالى؛

قال تعالى:

(  إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّـٰبِينَ وَيُحِبُّ ٱلۡمُتَطَهِّرِينَ  )

[البقرة: 222]

، وقد قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ»[1]؛ "فالجنة لا يَدخُلها خبيث، ولا من فيه شيء من الخُبث؛ فمن تطهَّر في الدنيا، ولَقِي الله طاهرًا من نجاساته، دَخَلها بغير معوِّق، ومن لم يتطهَّر في الدنيا، فإن كانت نجاسته عينيةً كالكافر، لم يَدخُلها بحال، وإن كانت نجاستُه كَسْبيةً عارضةً، دَخَلها بعدما يتطهَّر في النار من تلك النجاسة، ثم يَخرُج منها، حتى إن أهل الإيمان إذا جازوا الصراط، حُبِسوا على قنطرة بين الجنَّة والنار، فيُهَذَّبون ويُنَقَّوْنَ من بقايا بَقِيت عليهم، قَصُرت بهم عن الجنَّة، ولم توجب لهم دخولَ النار، حتى إذا هُذِّبوا ونُقُّوا، أُذِن لهم في دخول الجنة.

والله سبحانه بحِكمته جعل الدخولَ عليه موقوفًا على الطهارة، فلا يَدخُل المصلِّي عليه حتى يتطهَّر، وكذلك جعل الدخولَ إلى جنَّته موقوفًا على الطِّيب والطهارة، فلا يَدخُلها إلا طيِّب طاهر؛ فهما طهارتان: طهارةُ البَدَن، وطهارة القَلب؛ ولهذا شُرع للمتوضِّئ أن يقول عَقِيب وضوئه: «أَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحّمدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنَ المُتَطَهِّرِينَ». فطهارةُ القلب بالتوبة، وطهارة البدن بالماء، فلمَّا اجتمع له الطُّهران، صَلَح للدخول على الله تعالى، والوقوف بين يديه ومناجاته"[2]

وقد جاء الأمر بالوضوء في الكتاب والسنَّة؛

قال تعالى:

( يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قُمۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ فَٱغۡسِلُواْ وُجُوهَكُمۡ وَأَيۡدِيَكُمۡ إِلَى ٱلۡمَرَافِقِ وَٱمۡسَحُواْ بِرُءُوسِكُمۡ وَأَرۡجُلَكُمۡ إِلَى ٱلۡكَعۡبَيۡنِۚ  ) 

[المائدة: 6].

وإن هذا الحديث أصل عظيم في صفة الوضوء، ففيه يروي التابعيُّ (حُمْرَانُ، مَوْلَى عُثْمَانَ، أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - دَعَا بِوَضُوءٍ)؛ أي: طلب إناءً فيه ماءٌ لكي يتوضَّأ به، حيث (الوَضُوء) بفتح الواو: اسم للماء، أما (الوُضوء) بضمِّ الواو، فهو اسم لفعل التوضُّؤ، (فَتَوَضَّأ،َ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ) والكفُّ: راحة اليد مع الأصابع، و"قوله: (فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ). هذا دليل على أن غَسْلَهما في أوَّل الوُضوءِ سُنَّةٌ، وَهُوَ كذلك باتِّفاق العلماء"[3]

(ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ مَضْمَضَ)؛ بأن أدخل الماء في فمه وحرّكه وأداره ثمّ ألقاه لغسله غسلًا جيّدًا، ثمّ ألقى الماء وأخرجه من فمه، و"قوله: (ثمّ مضمض) مقتضٍ للتّرتيب بين غسل اليدين والمضمضة"[4]

(وَاسْتَنْثَرَ)؛ "قال جمهور أهل اللغة والفُقهاءُ والمحدِّثون: الِاسْتِنْثَارُ هو إخراجُ الماء من الأنف بعد الاستنشاق"[5]، والاستنشاق أن يجذب الماء بريح أنفه لإيصاله إلى أعلى الأنف والخياشيم، والاستنثار إخراجه؛ لينظّف أنفه ممّا به من الأذى.

(ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ)، وحدُّ الوجه من منابت شعر الرّأس إلى أسفل الذّقن، ومن شحمتَيِ الأُذنين يمينًا ويسارًا، والمراد: تعميم الوجه كلِّه بالماء. "وقوله: (ثلاثًا)، يُفيد استحباب هذا العدد في كلِّ ما ذُكِر فيه"[6]

"وكان ﷺ يمسح أُذُنيه مع رأسه، وكان يمسح ظاهرَهما وباطنهما، ولم يَثبُت عنه أنه أخذ لهما ماء جديدًا؛ وإنما صحَّ ذلك عن ابن عمر، ولم يصحَّ عنه في مسح العُنق حديثٌ البتَّةَ"[7]

و"قوله: (ثمّ غسل وجهه) دليل على التّرتيب بين غسل الوجه والمضمضة والاستنشاق، وتأخُّره عنهما، فيؤخذ منه التّرتيب بين المفروض والمسنون، وقد قيل في حِكمة تقديم المضمضة والاستنشاق على غسل الوجه المفروض: إنّ صفات الماء ثلاث - أعني: المعتبرة في التّطهير -: لون يُدرَك بالبصر، وطعم يُدرَك بالذَّوق، ورِيح يُدرَك بالشَّمِّ، فقُدِّمت هاتان السُّنَّتان ليُختبَر حال الماء، قبل أداء الفرض به، وبعض الفقهاء رأى التّرتيب بين المفروضات، ولم يَرَه بين المفروض والمسنون، كما بين المفروضات"[8]

(ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْمِرْفَقِ) المرفق: هو مِفصَل العَضُد من الذراع، ويدخل في الغسل؛ فالمعنى: ثم غسل يده اليمنى مع المرفق. (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ)؛ أي: إلى المرفق ثلاث مرات، وفيه "تقديم اليمنى على اليسرى، والتّعبير بكلمة (ثمّ)، وكذا في الرجلين أيضًا"[9]

(ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ)؛ أي: أمَرَّ يده على رأسه مبلولة بالماء، ثمّ مسح برأسه، والمسح دون الغسل وأقلّ منه، والمراد بالرّأس: منابت شعر الرّأس، ولم يُشرع غسل الرأس كباقي الأعضاء لِما في غسله من المشقَّة الشديدة، لاسيَّما أيام الشتاء، وهذا من التخفيف على العباد والرحمة بهم، ولم يكرَّر مسحه في الأحاديث التي وصفت وضوء النبيِّ ﷺ فاختُلف هل يمسح مرة واحدة أو ثلاثًا؟ على قولين. "والصحيح أنه ﷺ لم يكرِّر مسح رأسه؛ بل كان إذا كرَّر غَسْلَ الأعضاء، أَفرَد مسح الرأس، هكذا جاء عنه صريحًا، ولم يصحَّ عنه ﷺ خلافُه البتَّةَ؛ بل ما عدا هذا إما صحيح غير صريح؛ كقول الصحابي: (توضَّأ ثلاثًا ثلاثًا)، وكقوله: (مسح برأسه مرتين)، وإما صريح غير صحيح"[10]

واختُلف في مسح الرأس: هل يُجزئ مسح بعض الرأس، أو لا بدَّ من مسحه كلِّه؟

و"قوله: (ثمّ مسح رأسه) ظاهره: استيعاب الرّأس بالمسح؛ لأنّ اسم (الرّأس) حقيقة في العضو كلِّه، والفقهاء اختلفوا في القدر الواجب من المسح"[11]

"واتَّفَق مالك والشافعيُّ وأبو حنيفة على أن الرأس لا يجزئ مَسحه إلا بِماء جديد يأخذه له المتوضِّئ كما يأخذه لسائر الأعضاء، ومن مَسح رأسه بما فَضَل من البَلل في يديه من غَسْل ذراعيه، لم يُجْزِه. وقال الْأَوْزَاعِيُّ وجماعةٌ من التابعين: يُجزئه"[12]

والأصل أن المرأة كالرجل في مسح الرأس ما دام أنه لم يَرِدْ حديث يفرِّق بينهما.

(ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ) والكعبان عظمان بارزان في أسفل الساق يُغسلان (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ)؛ أي: إلى الكعبين، و"قوله: (ثلاثًا) يدلُّ على استحباب التَّكرار في غسل الرّجلين ثلاثًا، وبعض الفقهاء لا يرى هذا العدد في الرِّجل كما في غيرها من الأعضاء، وقد ورد في بعض الرّوايات: (فغسل رجليه حتّى أنقاهما)، ولم يذكر عددًا، فاستُدلَّ به لهذا المذهب، وأكَّد من جهة المعنى بأنّ الرِّجل لقُربها من الأرض في المشي عليها، يَكثُر فيها الأوساخ والأدران، فيُحال الأمر فيها على مجرَّد الإنقاء من غير اعتبار العدد، والرّواية الّتي ذُكر فيها العدد زائدة على الرّواية الّتي لم يُذكَر فيها، فالأخذ بها متعيِّن، والمعنى المذكور لا ينافي اعتبار العدد" [13]

"والأصل في الواجب غَسْلُ الأعضاء مرَّةً مرَّةً، والزّيادة عليها سُنَّة؛ لأن الأحاديث الصّحيحة وردت بالغسل ثلاثًا ثلاثًا، ومرَّةً مرَّة، ومرَّتين مرّتين، وبعض الأعضاء ثلاثًا ثلاثًا، وبعضها مرَّتين مرَّتين، وبعضها مرَّة مرَّة، فالاختلاف على هذه الصّفة دليل الجواز في الكلِّ، فإن الثّلاث هي الكمال، والواحدة تُجزئ"[14]

"وصحَّ عنه - عليه السلام - أنه توضَّأ مرَّةً مرَّة، ولم يَزِد على ثلاث؛ بل أخبر أن «مَنْ زَادَ عَلَيْهَا، فَقَدْ أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ»، فالْمُوَسْوِس مسيءٌ متعدٍّ ظالم بشهادة رسول الله ﷺ، فكيف يتقرَّب إلى الله بما هو مسيء به متعدٍّ فيه لحدوده؟!"[15]

أما الْمُوالاة بين أعضاء الوضوء، فهي واجبة، "ويُوالي بين أعضائه، فإن فرَّق تفريقًا يسيرًا لم يضرَّ؛ لأنه لا يمكِن الاحتراز منه"[16]

قال صالح ابن الإمام أحمد : "سألت أبي عن الرَّجُل يَنسى مَسح رأسه حتى يُصلي. قال: إن كان قد جفَّ الوضوء، أعاد الوضوء كله، وإن كان لم يَجفَّ، مَسح رأسه وغسل رجليه"[17]

"وفي ضبط التفريق الكثير والقليل: أنه إذا مَضى بين العُضوينِ زَمنٌ يَجفُّ فيه العضو المغسول مع اعتدال الزمان وحال الشخص، فهو تفريق كثير، وإلَّا فقليل، ولا اعتبارَ بتأخُّر الجفاف بسبب شدَّة البرد، ولا بتسارُعه لشدَّة الحرِّ، ولا بحال الْمَبْرود والْمَحْموم، ويُعتبر التفريق مِن آخر الفعل الْمَأْتِيِّ به من أفعال الوضوء، حتى لو غَسل وجهه ويديه، ثم اشتغل لحظة، ثم مَسح رأسه بعد جَفاف الوجه وقبل جَفاف اليد، فتفريق قليل، وإذا غَسَل ثلاثًا ثلاثًا، فالاعتبار مِن الغَسْلةِ الأخيرة"[18]

وقد قال ﷺ:

«إن أمتي يُدْعَوْن يومَ القيامة غُرًّا محجَّلين من آثار الوضوء، فمَن استطاع منكم أن يُطيل غُرَّته فلْيَفْعَل»

[19]

(ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا) ؛ أي مثل فعل وضوئي هذا، فأظهر عثمان - رضي الله عنه - أنّ وضوءه كان محاكاةً ومطابقةً لوضوء النبيِّ ﷺ وتعليمًا لمن حوله، (ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ») بأن يؤدّيهما بإخلاص وخشوع وطمأنينة، «لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ» حديث النفس: هو الوساوس والخطرات، والمراد به هنا ما كان في شؤون الدنيا؛ أي: فلا يسترسل في ذلك، وإلا فالأفكار يتعذَّر السلامة منها؛ فـ"حديث النّفس يعمُّ الخواطر المتعلِّقة بالدّنيا، والخواطر المتعلِّقة بالآخرة، والحديث محمول - واللّه أعلم - على ما يتعلَّق بالدّنيا؛ إذ لا بدَّ من حديث النّفس فيما يتعلَّق بالآخرة؛ كالفكر في معاني المتلوِّ من القرآن العزيز، والمذكور من الدّعوات والأذكار، ولا نريد بما يتعلَّق بأمر الآخرة كلَّ أمر محمود، أو مندوب إليه؛ فإنّ كثيرًا من ذلك لا يتعلَّق بأمر الصّلاة، وإدخاله فيها أجنبيٌّ عنها، وقد رُوِيَ عن عمر - رضي اللّه عنه - أنّه قال: "إنّي لأجهِّز الجيش وأنا في الصّلاة" أو كما قال، وهذه قُربة؛ إلّا أنّها أجنبيّة عن مقصود الصّلاة"[20]

"قوله: (ولا يحدِّث فيهما نفسه) إشارة إلى الخواطر والوساوس الواردة على النّفس، وهي على قسمين؛ أحدهما: ما يَهجُم هجمًا يتعذَّر دفعه عن النّفس، والثّاني: ما تسترسل معه النّفس، ويمكِن قَطْعُه ودفعه، فيمكِن أن يُحمَل هذا الحديث على هذا النّوع الثّاني، فيخرج عنه النّوع الأوّل؛ لعُسر اعتباره، ويَشهَد لذلك لفظة (يحدّث نفسه) فإنّه يقتضي تكسُّبًا منه وتفعُّلًا لهذا الحديث"[21]

«غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»؛ أي: غَفَر الله له ما تقدَّم من ذنبه من الصّغائر دون الكبائر والمظالم؛ لأنّ المظالم لا بد أن تُرَدَّ، والكبائر لا بدَّ لها من توبة.

"قوله: «غُفر له ما تقدَّم من ذنبه» ظاهره العُموم في جميع الذّنوب، وقد خصُّوا مثله بالصّغائر، وقالوا: إنّ الكبائر إنّما تكفَّر بالتّوبة، وكأنّ المستند في ذلك أنّه وَرَد مقيَّدًا في مواضعَ؛

كقوله ﷺ:

«الصلَواتُ الخَمسُ، وَالجُمُعَة إِلى الجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَينَهُنَّ مَا اجتَنَبَ الكَبَائِرَ

[22]

، فجعلوا هذا القيد في هذه الأمور مقيِّدًا للمطلق في غيرها"[23]

و"هذا الثّواب الموعود به يترتَّب على مجموع أمرين؛ أحدُهما: الوضوء على النّحو المذكور، والثّاني: صلاة ركعتين بعده بالوصف المذكور بعده في الحديث؛ فالثّواب المخصوص يترتَّب على مجموع الأمرين، ومطلَق الثّواب قد يحصل بما دون ذلك"[24]

 وزاد مسلم في رواية: «وَكَانَتْ صَلاَتُهُ وَمَشْيُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ نَافِلَةً»؛ "أي: أن الوضوء لَمَّا كفَّر ذنوبه، كانت صلاتُه - وإن كانت فريضةً – نافلةً؛ أي: زائدة له في الأجر على كفَّارة الذنوب، والنافلةُ: الزيادةُ في كلام العرب؛ أي: لم يبقَ له ما تكفِّر، فإما أن تكون مُدَّخرةً تكفِّرُ ما بعدها أو تُرفع له بها درجات"[25]

"ولم يُحفظ عنه أنه كان يقول على وضوئه شيئًا غير التسمية، وكلُّ حديث في أذكار الوضوء الذي يُقال عليه، فكذب مختلَق لم يقل رسول الله ﷺ شيئًا منه، ولا علَّمه لأمَّته، ولا ثَبَت عنه غير التسمية في أوَّله، وقوله: «أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوَّابين، واجعلني من المتطهِّرين» في آخره"[26]

وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل الوضوء، منها:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ:

«أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟» قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى المكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى المسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ»

[27]

وعن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ:

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ افْتَرَضَهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى، مَنْ أَحْسَنَ وُضُوءَهُنَّ وَصَلَّاهُنَّ لوقتهن وَأتمَّ ركوعَهنَّ وخُشُوعَهنَّ، كَانَ لَهُ عَلَى اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَلَيْسَ لَهُ عَلَى اللَّهِ عَهْدٌ، إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ»

[28].

وعن عثمانَ بنِ عفَّانَ رضي الله عنه قال:

سَمعتُ رسول الله ﷺيقول: «ما من امرئٍ مسلمٍ تحضُرُه صلاة مكتوبةٌ، فيُحسن وُضوءَها، وخشوعها، وركوعها، إلا كانت كفَّارةً لِما قبلها من الذنوب ما لم يُؤتِ كبيرة، وذلك الدهرَ كلَّه»

[29]

المراجع

  1. رواه مسلم (223).
  2.  "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن القيم (1/ 56).
  3.  "شرح النووي على مسلم" (3/ 105).
  4.  "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 81).
  5.  "شرح النووي على مسلم" (3/ 105).
  6.  "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 82).
  7.  "زاد المعاد" لابن القيم (1/ 187، 188).
  8.  "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 81، 82).
  9.  "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العيني (3/ 7).
  10.  "زاد المعاد" لابن القيم (1/ 186).
  11.  "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 83، 84).
  12.  "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 132).
  13. "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 84).
  14.  "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العيني (3/ 8).
  15. "إغاثة اللهفان" لابن القيم (1/ 127).
  16.  "المهذَّب" للشيرازي (1/478).
  17.  "مسائل الإمام أحمد رواية ابنه أبي الفضل صالح" (1/ 167).
  18.  "المجموع شرح المهذَّب" للنووي (1/ 453).
  19.  رواه البخاريُّ (136)، ومسلم (246)، وانظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/ 476).
  20.  "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 86).
  21.  "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 86).
  22.  رواه مسلم (233).
  23.  "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 87).
  24.  "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 84 - 86).
  25.  "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (2/ 18).
  26.  "زاد المعاد" لابن القيم (1/ 187، 188).
  27.  رواه مسلم (251).
  28.  رواه أحمد (23080)، وابن ماجه (1401)، وأبو داود (425) وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب (370).
  29.  رواه مسلم (228).

النقول

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "(الوضوء) بفتح الواو: اسم للماء، وبضمِّها: اسم للفعل على الأكثر. وإذا كان بفتح الواو اسمًا للماء - كما ذكرناه - فهل هو اسم لمطلَق الماء، أو للماء بقيد كونه متوضَّئًا به، أو مُعَدًّا للوضوء به؟ فيه نظر يحتاج إلى كشف. وينبني عليه فائدة فقهيّة، وهو أنّه في بعض الأحاديث الّتي استُدلَّ بها على أنّ الماء المستعمل طاهر، قول جابر: "فصبَّ عليَّ من وَضوئه"، فإنّا إن جعلنا "الوَضوء" اسمًا لمطلَق الماء، لم يكن في قوله: "فصبَّ عليَّ من وَضوئه" دليلٌ على طهارة الماء المستعمَل؛ لأنّه يصير التّقدير: فصبَّ عليَّ من مائه. ولا يلزم أن يكون ماؤه هو الّذي استُعمل في أعضائه؛ لأنّا نتكلَّم على أنّ "الوَضوء" اسم لمطلَق الماء، وإذا لم يلزم ذلك، جاز أن يكون المراد بوَضوئه: فضلة مائه الّذي توضَّأ ببعضه، لا ما استعمله في أعضائه، فلا يبقى فيه دليل من جهة اللّفظ على ما ذكر من طهارة الماء المستعمَل، وإن جعلنا "الوَضوء" بالفتح: الماء مقيَّدًا بالإضافة إلى الوُضوء بالضّمّ؛ أعني: استعماله في الأعضاء، أو إعداده لذلك، فهاهنا يمكِن أن يقال: فيه دليل؛ لأنّ "وَضوءه" بالفتح متردِّد بين مائه الْمُعَدِّ للوُضوء بالضَّمِّ، وبين مائه المستعمل في الوضوء، وحمله على الثّاني أولى؛ لأنّه الحقيقة، أو الأقرب إلى الحقيقة، واستعماله بمعنى المعدِّ مجاز، والحمل على الحقيقة أو الأقرب إلى الحقيقة أَوْلى"[1]

قال النوويُّ رحمه الله:"قوله: (فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ). هذا دليل على أن غَسْلَهما في أوَّل الوُضوءِ سُنَّةٌ، وَهُوَ كذلك باتِّفاق العلماء، وقوله: (ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ). قال جمهور أهل اللغة والفُقهاءُ والمحدِّثون: الِاسْتِنْثَارُ هو إخراجُ الماء من الأنف بعد الاستنشاق"[2]

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "قوله: (ثمّ تمضمض) مقتضٍ للتّرتيب بين غسل اليدين والمضمضة، وأصل هذه اللّفظة مُشعِر بالتّحريك، ومنه: (مضمض النُّعاس في عينيه)، واستُعملت في هذه السُّنَّة – أعني: المضمضة في الوضوء - لتحريك الماء في الفم، وقال بعض الفقهاء: المضمضة: أن يجعل الماء في فيه ثمّ يمجُّه - هذا أو معناه - فأدخل المجَّ في حقيقة المضمضة. فعلى هذا؛ لو ابتلعه، لم يكن مؤدِّيًا للسُّنَّة، وهذا الّذي يَكثُر في أفعال المتوضِّئين، ويمكِن أن يكون ذَكَر ذلك بناءً على أنّه الأغلب والعادة، لا أنّه يتوقَّف تأدِّي السُّنَّة على مجِّه، واللّه أعلم"[3]

قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "قوله: (ثمّ غسل وجهه) عطف بكلمة (ثمّ)؛ لأنّها تقتضي التّرتيب والْمُهلة، فإن قلت: ما الحكمة في تأخير غسل الوجه عن المضمضة والاستنشاق؟ قلت: ذكروا أن حكمة ذلك اعتبار أوصاف الماء؛ لأن اللّون يُدرَك بالبصر، والطعم يُدرَك بالفم، والرّيح يُدرَك بالأنف، فقدَّم الأقوى منها، وهو الطَّعم، ثمّ الرّيح، ثمّ اللّون"[4]

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "قوله: (ثمّ غسل وجهه) دليل على التّرتيب بين غسل الوجه والمضمضة والاستنشاق، وتأخُّره عنهما، فيؤخذ منه التّرتيب بين المفروض والمسنون، وقد قيل في حِكمة تقديم المضمضة والاستنشاق على غسل الوجه المفروض: إنّ صفات الماء ثلاث - أعني: المعتبرة في التّطهير -: لون يُدرَك بالبصر، وطعم يُدرَك بالذَّوق، ورِيح يُدرَك بالشَّمِّ، فقُدِّمت هاتان السُّنَّتان ليُختبَر حال الماء، قبل أداء الفرض به، وبعض الفقهاء رأى التّرتيب بين المفروضات، ولم يَرَه بين المفروض والمسنون، كما بين المفروضات"[5]

قال ابن القيم رحمه الله: "وكان يمسح أُذُنيه مع رأسه، وكان يمسح ظاهرَهما وباطنهما، ولم يَثبُت عنه أنه أخذ لهما ماء جديدًا؛ وإنما صحَّ ذلك عن ابن عمر، ولم يصحَّ عنه في مسح العُنق حديثٌ البتَّةَ، ولم يُحفظ عنه أنه كان يقول على وضوئه شيئًا غير التسمية، وكلُّ حديث في أذكار الوضوء الذي يُقال عليه، فكذب مختلَق لم يقل رسول الله ﷺ شيئًا منه، ولا علَّمه لأمَّته، ولا ثَبَت عنه غير التسمية في أوَّله، وقوله: «أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوَّابين، واجعلني من المتطهِّرين» في آخره"[6]

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "قوله: (ويديه إلى المرفقين). المرفق فيه وجهان؛ أحدُهما: بفتح الميم وكسر الفاء، والثّاني: عكسُه، لغتان. وقوله: (إلى المرفقين)، ليس فيه إفصاح بكونه أدخلهما في الغسل، أو انتهى إليهما، والفقهاء اختلفوا في وجوب إدخالهما في الغسل، فمذهب مالك والشّافعيِّ: الوجوب، وخالف زفر وغيره، ومنشأ الاختلاف فيه: أنّ كلمة (إلى) المشهور فيها: أنّها لانتهاء الغاية، وقد تَرِد بمعنى (مع)، فمن النّاس من حملها على مشهورها، فلم يُوجب إدخال المرفقين في الغسل، ومنهم من حملها على معنى (مع)، فأوجب إدخالها، وقال بعض النّاس: يفرَّق بين أن تكون الغاية من جنس ما قبلها أو لا،

فإن كانت من الجنس دخلت؛ كما في آية الوضوء، وإن كانت من غير الجنس لم تَدخُل؛ كما في قوله

عزّ وجلّ:

   ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّيۡلِۚ

[البقرة: 187]

وقال غيره: إنّما دخل المرفقان ههنا؛ لأنّ (إلى) ههنا غاية للإخراج، لا للإدخال، فإنّ اسم (اليد) ينطلق على العضو إلى الْمَنْكِب، فلو لم تَرِد هذه الغاية، لوجب غسل اليد إلى المنكِب، فلمّا دخلت، أَخرَجت عن الغسل ما زاد على المرفق، فانتهى الإخراج إلى المرفق، فدخل في الغسل. وقال آخرون: لَمّا تردَّد لفظ (إلى) بين أن تكون للغاية، وبين أن تكون بمعنى (مع)، وجاء فعل رسول اللّه ﷺ أنّه (أدار الماء على مرفقيه)، كان ذلك بيانًا للمُجمَل، وأفعال الرّسول ﷺ في بيان الواجب المجمَل محمولة على الوجوب، وهذا عندنا ضعيف؛ لأنّ (إلى) حقيقة في انتهاء الغاية، مجاز بمعنى (مع)، ولا إجمال في اللّفظ بعد تبيُّن حقيقته، ويدلُّ على أنّها حقيقة في انتهاء الغاية: كثرة نصوص أهل العربيّة على ذلك، ومن قال: إنّها بمعنى (مع) فلم ينصَّ على أنّها حقيقة في ذلك، فيجوز أن يريد المجاز"[7]

قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "قوله: (ويديه إلى المرفقين)؛ أي: كل واحدة، كما جاء هكذا مبيَّنًا في رواية معمر عن الزُّهْريِّ، وكذا في رواية مسلم من طريق يونس، وفيهما تقديم اليمنى على اليسرى، والتّعبير في كلٍّ منهما بكلمة (ثمّ)، وكذا في الرجلين أيضًا. قوله: (ثمّ مسح برأسه) وفي الرّوايتين المذكورتين، وفي الرّوايتين المذكورتين، ثمّ مسح رأسه بلا باء الجرِّ، والفرق بينهما أن في الأول لا يقتضى استيعاب المسح، بخلاف الثّاني. قوله: (نحو وضوئي هذا). قال النّوويُّ: إنّما قال: (نحو وضوئي)، ولم يقل: (مثل)؛ لأن حقيقة مُماثلته لا يقدر عليها غيره، وفيه نظر؛ لأنّه جاء في رواية البخاريِّ في الرقاق من طريق المعاذ بن عبدالرّحمن عن حمران عن عثمان، رضي الله تعالى عنه، ولفظه: (من توضَّأ مثل هذا الوضوء)، وجاء في رواية مسلم أيضًا، من طريق زيد بن أسلم عن حمران: (من توضَّأ مثل وضوئي هذا)، والتّقدير: مثل وضوئي، وكلُّ واحد من لفظة (نحو ومثل) من أداة التّشبيه، والتشبيه لا عموم له، سواء قال: (نحو وضوئي هذا)، أو (مثل وضوئي)، فلا يلزم ما ذكره النّوويُّ. وقال بعضهم: فالتعبير بـ(نحو) من تصرُّف الرواة؛ لأنّها تُطلَق على الْمِثلية مجازًا، ليس بشيء؛ لأنّه ثبت في اللّغة مجيء (نحو) بمعنى (مثل). يقال: هذا نحو ذاك؛ أي: مثله"[8]

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "قوله: (ثمّ مسح رأسه) ظاهره: استيعاب الرّأس بالمسح؛ لأنّ اسم (الرّأس) حقيقة في العضو كلِّه، والفقهاء اختلفوا في القدر الواجب من المسح، وليس في الحديث ما يدلُّ على الوجوب؛ لأنّه في آخره إنّما ذكر ترتيب ثواب مخصوص على هذه الأفعال، وليس يلزم من ذلك عدم الصِّحَّة عند عدم كلِّ جزء من تلك الأفعال، فجاز أن يكون ذلك الثّواب مرتَّبًا على إكمال مسح الرّأس، وإن لم يكن واجبًا إكمالُه، كما يترتَّب على المضمضة والاستنشاق، وإن لم يكونا واجبينِ عند كثير من الفقهاء، أو الأكثرين منهم،

فإن سلك سالك ما قدَّمناه في المرفقين، من ادِّعاء الإجمال في الآية، وأنّ الفعل بيان له، فليس بصحيح؛ لأنّ الظّاهر من الآية مبيَّن، إمّا على أن يكون المراد مطلقَ المسح، على ما يراه الشّافعيُّ؛ بناءً على أنّ مقتضى الباء في الآية التّبعيض، أو غير ذلك، أو على أنّ المراد الكلُّ، على ما قاله مالك؛ بناءً على أنّ اسم (الرّأس) حقيقة في الجملة، وأنّ (الباء) لا تعارض ذلك، وكيفما كان، فلا إجمال"[9]

قال الترمذيُّ رحمه الله: "قد رُوي من غير وَجْه هذا الحديثُ عن عبد الله بن زيد وغيره أن النبيَّ ﷺ  أخَذ لِرَأسه ماء جديدًا، والعملُ على هذا عند أكثر أهل العلم، رأوا أن يأخذ لرأسه ماء جديدًا"[10]

قال ابن عبدالبر رحمه الله: "واتَّفَق مالك والشافعيُّ وأبو حنيفة على أن الرأس لا يجزئ مَسحه إلا بِماء جديد يأخذه له المتوضِّئ كما يأخذه لسائر الأعضاء، ومن مَسح رأسه بما فَضَل من البَلل في يديه من غَسْل ذراعيه، لم يُجْزِه. وقال الْأَوْزَاعِيُّ وجماعةٌ من التابعين: يُجزئه"[11]

قال ابن قدامة رحمه الله: "ويَمسح رأسه بماءٍ جديد غيرِ ما فَضَل عن ذراعيه، وهو قول أبي حنيفة والشافعيِّ، والعملُ عليه عند أكثر أهل العلم، قاله الترمذيُّ، وجَوَّزَه الحسنُ وعُرْوَةُ والأوزاعيُّ؛ لِمَا ذكرنا من حديث عثمانَ، ويتخرَّجُ لنا مثل ذلك إذا قلنا: إن الْمُستعمَلَ لا يَخْرُجُ عن طُهُورِيَّتِه، سِيَّمَا الْغَسْلةُ الثانية والثالثة"[12]

قال ابن القيم رحمه الله: "والصحيح أنه لم يكرِّر مسح رأسه؛ بل كان إذا كرَّر غَسْلَ الأعضاء، أَفرَد مسح الرأس، هكذا جاء عنه صريحًا، ولم يصحَّ عنه ﷺ خلافُه البتَّةَ؛ بل ما عدا هذا إما صحيح غير صريح؛ كقول الصحابي: (توضَّأ ثلاثًا ثلاثًا)، وكقوله: (مسح برأسه مرتين)، وإما صريح غير صحيح"[13]

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "قوله: (ثمّ غسل كلتا رجليه) صريح في الرّدِّ على الرّوافض في أنّ واجب الرّجلين المسح، وقد تبيَّن هذا من حديث عثمان، وجماعة وصفوا وضوء رسول اللّه ﷺ، ومن أحسن ما جاء فيه: حديثُ عمرو بن عَبَسة - بفتح العين والباء - أنّ رسول اللّه ﷺ قال: «ما منكم من أحد يقرِّب وضوءه - إلى أن قال - ثمّ يغسل رجليه، كما أمره اللّه عزّ وجلّ»، فمن هذا الحديث، انضمَّ القَول إلى الفعل، وتبيَّن أنّ المأمور به الغسل في الرّجلين"[14]

قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "إن هذا الحديث أصل عظيم في صفة الوضوء، والأصل في الواجب غسل الأعضاء مرَّةً مرَّةً، والزّيادة عليها سنَّة؛ لأن الأحاديث الصّحيحة وردت بالغسل ثلاثًا ثلاثًا، ومرَّةً مرَّة، ومرَّتين مرّتين، وبعض الأعضاء ثلاثًا ثلاثًا، وبعضها مرَّتين مرَّتين، وبعضها مرَّة مرَّة، فالاختلاف على هذه الصّفة دليل الجواز في الكلِّ، فإن الثّلاث هي الكمال، والواحدة تجزئ"[15]

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "قوله: (ثلاثًا) يدلُّ على استحباب التّكرار في غسل الرّجلين ثلاثًا، وبعض الفقهاء لا يرى هذا العدد في الرّجل، كما في غيرها من الأعضاء، وقد ورد في بعض الرّوايات: (فغسل رجليه حتّى أنقاهما)، ولم يذكر عددًا، فاستدلَّ به لهذا المذهب، وأكَّد من جهة المعنى بأنّ الرِّجل لقُربها من الأرض في المشي عليها، يَكثُر فيها الأوساخ والأدران، فيُحال الأمر فيها على مجرَّد الإنقاء من غير اعتبار العدد، والرّواية الّتي ذُكر فيها العدد زائدة على الرّواية الّتي لم يُذكَر فيها، فالأخذ بها متعيِّن، والمعنى المذكور لا ينافي اعتبار العدد، فليعمل بما دلَّ عليه لفظ (مثل)" [16]

قال صالح ابن الإمام أحمد رحمه الله: "سألت أبي عن الرَّجُل يَنسى مَسح رأسه حتى يُصلي. قال: إن كان قد جفَّ الوضوء، أعاد الوضوء كله، وإن كان لم يَجفَّ، مَسح رأسه وغسل رجليه"[17]

قال الشيرازيُّ رحمه الله: "ويُوالي بين أعضائه، فإن فرَّق تفريقًا يسيرًا لم يضرَّ؛ لأنه لا يمكِن الاحتراز منه"[18]

قال النوويُّ رحمه الله: "وفي ضبط التفريق الكثير والقليل أربعة أوجه؛ الصحيح الذي قَطع به المصنِّف والجمهور: أنه إذا مَضى بين العُضوينِ زَمنٌ يَجفُّ فيه العضو المغسول مع اعتدال الزمان وحال الشخص، فهو تفريق كثير، وإلَّا فقليل، ولا اعتبارَ بتأخُّر الجفاف بسبب شدَّة البرد، ولا بتسارُعه لشدَّة الحرِّ، ولا بحال الْمَبْرود والْمَحْموم، ويُعتبر التفريق مِن آخر الفعل الْمَأْتِيِّ به من أفعال الوضوء، حتى لو غَسل وجهه ويديه، ثم اشتغل لحظة، ثم مَسح رأسه بعد جَفاف الوجه وقبل جَفاف اليد، فتفريق قليل، وإذا غَسَل ثلاثًا ثلاثًا، فالاعتبار مِن الغَسْلةِ الأخيرة"[19]

قال ابن قدامة رحمه الله: "والْمُوالاة الواجبة أن لا يَترك غَسْلَ عضو حتى يمضيَ زمن يَجفُّ فيه العضو الذي قبله في الزمان المعْتَدِل؛ لأنه قد يُسْرِع جفافُ العضو في بعض الزمان دون بعض، ولأنه يُعتبر ذلك فيما بين طرفَيِ الطهارة. وقال ابن عقيل في رواية أخرى: "إنّ حَدَّ التفريق المبطِل ما يَفحُش في العادة؛ لأنه لم يُحَدَّ في الشرع، فيُرجع فيه إلى العادة"... وإن نَشفتْ أعضاؤه لاشتغاله بِواجِب في الطهارة أو مسنون، لَم يُعَدَّ تفريقًا"[20]

قال ابن القيم رحمه الله: "وصحَّ عنه - عليه السلام - أنه توضَّأ مرَّةً مرَّة، ولم يَزِد على ثلاث؛ بل أخبر أن «مَنْ زَادَ عَلَيْهَا، فَقَدْ أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ»، فالْمُوَسْوِس مسيءٌ متعدٍّ ظالم بشهادة رسول الله ﷺ، فكيف يتقرَّب إلى الله بما هو مسيء به متعدٍّ فيه لحدوده؟!"[21]

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "قوله: (نحو وضوئي هذا): لفظة (نحو) لا تطابق لفظة (مثل)؛ فإنّ لفظة (مثل) يقتضي ظاهرها المساواة من كلِّ وجه، إلّا في الوجه الّذي يقتضي التّغاير بين الحقيقتين، بحيث يُخرجهما عن الوَحْدة، ولفظة (نحو)

لا تُعطي ذلك، ولعلّها استُعملت بمعنى الْمِثل مجازًا، أو لعلّه لم يترك ممّا يقتضي المثليّة إلّا ما لا يقدح في المقصود. يَظهَر في الفعل المخصوص أنّ فيه أشياءَ مُلْغاةً عن الاعتبار في المقصود من الفعل، فإذا تُركت هذه الأشياء، لم يكن الفعل مماثلًا حقيقةً لذلك الفعل، ولم يقدح تركها في المقصود منه، وهو رفع الحدث، وترتُّب الثّواب؛ وإنّما احتجنا إلى هذا وقلنا به؛ لأنّ هذا الحديث ذكر لبيان فعل يُقتدى به، ويحصل الثّواب الموعود عليه، فلا بدَّ أن يكون الوضوء المحكيُّ المفعول محصِّلًا لهذا الغرض؛ فلهذا قلنا: إمّا أن يكون استعمل (نحو) في حقيقتها، مع عدم فوات المقصود، لا بمعنى (مثل)، أو يكون ترك ما عُلم قطعًا أنّه لا يُخِلُّ بالمقصود، فاستعمل (نحو) في (مثل) مع عدم فوات المقصود، واللّه أعلم.

ويمكِن أن تقال: إنّ الثّواب يترتَّب على مقارنة ذلك الفعل؛ تسهيلًا وتوسيعًا على المخاطَبين، من غير تضييق وتقيُّد بما ذكرناه أوّلًا، إلّا أنّ الأوّل أقرب إلى مقصود البيان.

هذا الثّواب الموعود به يترتَّب على مجموع أمرين؛ أحدُهما: الوضوء على النّحو المذكور، والثّاني: صلاة ركعتين بعده بالوصف المذكور بعده في الحديث، والمرتَّب على مجموع أمرين لا يَلزَم ترتُّبه على أحدهما إلّا بدليل خارج. وقد أدخل قوم هذا الحديث في فضل الوضوء، وعليهم في ذلك هذا السّؤال الّذي ذكرناه،

ويُجاب عنه بأنّ كون الشّيء جزءًا ممّا يترتَّب عليه الثّواب العظيم كافٍ في كونه ذا فضل، فيَحصُل المقصود من كون الحديث دالًّا على فضيلة الوضوء، ويظهر بذلك الفرق بين حصول الثّواب المخصوص، وحصول مطلَق الثّواب؛ فالثّواب المخصوص يترتَّب على مجموع الوضوء على النّحو المذكور، والصّلاة الموصوفة بالوصف المذكور، ومطلق الثّواب قد يحصل بما دون ذلك"[22]

قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "قوله: (لا يحدث فيهما)؛ أي: في الرّكعتين، قال القاضي عياض: يريد بحديث النّفس الحديث المجتلَب والمكتسَب، وأما ما يقع في الخاطر غالبًا، فليس هو المرادَ. وقال بعضهم: هذا الّذي يكون من غيره قصد يرجى أن تُقبَل معه الصّلاة، ويكون دون صلاة من لم يحدِّث نفسه بشيء؛ لأن النّبيَّ ﷺ إنّما ضمن الغفران لِمُراعي ذلك؛ لأنّه قلَّ مَن تَسلَم صلاته من حديث النّفس، وإنّما حصلت له هذه المرتبة لمجاهدة نفسه من خَطَرات الشّيطان ونَفْيها عنه، ومحافظته عليها؛ حتّى لا يشتغل عنها طَرْفة عَين، وسَلِم من الشّيطان باجتهاده وتفريغه قلبَه. قيل: ويُحتمَل أن يكون المراد به إخلاصَ العمل لله تعالى، ولا يكون لطلب الجاه، وأن يُراد ترك العُجب بأن لا يرى لنفسه منزلة رفيعة بأدائها؛ بل ينبغي أن يَحقِر نفسه كي لا تغترَّ فتتكبَّر. وُيقال: إن كان المراد به أن لا يخطر بباله شيء من أمور الدّنيا، فذلك صعب، وإن كان المراد به أنه بعد خطوره به لا يستمرُّ عليه، فهو عمل المخلِصين. قلت: التّحقيق فيه أن حديث النّفس قسمان: ما يَهجُم عليها ويتعذَّر دفعها، وما يسترسل معها ويمكِن قطعه، فيُحمَل الحديث عليه دون الأول لعُسر اعتباره. وقوله: (يحدِّث) من باب التفعيل، وهو يقتضي التكسُّب من أحاديث النّفس، ودفع هذا ممكِن، وأما ما يَهجُم من الخطرات والوساوس، فإنّه يتعذَّر دفعه فيُعفى عنه، ونقل القاضي عياض عن بعضهم بأن المراد: من لم يحصل له حديث النّفس أصلًا ورأسًا، وردَّه النّوويُّ فقال: الصّواب حصول هذه الفضيلة مع طريان الخواطر العارضة غير المستقرَّة، ثمّ حديث النّفس يعمُّ الخواطر الدّنيويّة والأخروية، والحديث محمول على المتعلِّق بالدنيا فقط، وقد جاء في رواية في هذا الحديث، ذكره الحكيم التّرمذيُّ في كتاب الصّلاة، تأليفه: (لا يحدِّث فيهما نفسه بشيء من الدّنيا، ثمّ دعا إليه، إلَّا استُجيب له). انتهى. فإذا حدَّث نفسه فيما يتعلَّق بأمور الآخرة؛ كالفكر في معاني المتلوِّ من القرآن العزيز، والمذكور من الدّعوات والأذكار، أو في أمر محمود أو مندوب إليه، لا يضرُّ ذلك، وقد ورد عن عمر، رضي الله تعالى عنه، أنه قال: "لأجهِّز الجيش وأنا في الصّلاة"، أو كما قال"[23]

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "قوله: (ولا يحدِّث فيهما نفسه) إشارة إلى الخواطر والوساوس الواردة على النّفس، وهي على قسمين؛ أحدهما: ما يَهجُم هجمًا يتعذَّر دفعه عن النّفس، والثّاني: ما تسترسل معه النّفس، ويمكِن قَطْعُه ودفعه، فيمكِن أن يُحمَل هذا الحديث على هذا النّوع الثّاني، فيخرج عنه النّوع الأوّل؛ لعُسر اعتباره، ويَشهَد لذلك لفظة (يحدّث نفسه) فإنّه يقتضي تكسُّبًا منه وتفعُّلًا لهذا الحديث، ويمكِن أن يُحمَل على النّوعين معًا، إلّا أنّ العُسر إنّما يجب دَفْعه عمَّا يتعلَّق بالتّكاليف، والحديث إنّما يقتضي ترتُّب ثواب مخصوص على عمل مخصوص، فمن حصل له ذلك العمل، حصل له ذلك الثّواب، ومن لا، فلا، وليس ذلك من باب التّكاليف حتّى يَلزَم رفع العُسر عنه. نعم، لا بدَّ وأن تكون تلك الحالة ممكِنةَ الحصول – أعني: الوصف المرتَّب عليه الثّواب المخصوص - والأمر كذلك؛ فإنّ المتجرِّدين عن شواغل الدّنيا، الّذين غلب ذكر اللّه - عزَّ وجلَّ - على قلوبهم وغمرها، تحصل لهم تلك الحالة، وقد حُكي عن بعضهم ذلك"[24]

قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "قوله: (غُفر له ما تقدَّم من ذنبه) يعني: من الصّغائر دون الكبائر، كذا هو مبيَّن في مسلم، وظاهر الحديث يعمُّ جميع الذّنوب؛ ولكنه خُصَّ بالصغائر، والكبائرُ إنّما تكفَّر بالتّوبة، وكذلك مظالم العباد، فإن قيل: حديث عثمان - رضي الله تعالى عنه - الآخر الّذي فيه: (خرجت خطاياه من جسده حتّى تخرج من تحت أظفاره) مرتَّب على الوضوء وحده، فلو لم يكن المراد بما تقدَّم من ذنبه في هذا الحديث العموم في الصّغائر والكبائر، لكان الشّيء مع غيره كالشيء لا مع غيره، فإن فيه الوضوء والصّلاة، وفي الأول الوضوء وحده، وذلك لا يجوز. أُجيب: بأن قوله: (خرجت خطاياه) لا يدلُّ على خروج جميع ما تقدَّم له من الخطايا، فيكون بالنّسبة إلى يومه، أو إلى وقت دون وقت، وأما قوله: (ما تقدَّم من ذنبه) فهو عامٌّ بمعناه، وليس له بعض متيقَّن؛ كالثلاثة في الجَمع؛ أعني: الخطايا، فيُحمَل على العموم في الصّغائر. وقال بعضهم: وهو في حقِّ من له كبائرُ وصغائر، ومن ليس له إلاّ صغائر كفِّرت عنه، ومن ليس له إلا كبائر خفِّفت عنه منها بمقدار ما لصاحب الصّغائر، ومن ليس له صغائر ولا كبائر يُزاد في حسناته بنظير ذلك. قلت: الأقسام الثّلاثة الأخيرة غير صحيحة، أما الّذي ليس له إلّا صغائر، فله كبائر أيضًا؛ لأن كل صغيرة تحتها صغيرة فهي كبيرة، أما الّذي ليس له إلاّ كبائر، فله صغائر؛ لأن كل كبيرة تحتها صغيرة، وإلَّا لا يكون كبيرة، وأما الّذي ليس له إلاّ صغائر فله كبائر أيضًا؛ لأن ما فوق الصّغيرة الّتي ليس تحتها صغيرة، فهي كبائر. فافهم"[25]

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "حديث النّفس يعمُّ الخواطر المتعلِّقة بالدّنيا، والخواطر المتعلِّقة بالآخرة، والحديث محمول - واللّه أعلم - على ما يتعلَّق بالدّنيا؛ إذ لا بدَّ من حديث النّفس فيما يتعلَّق بالآخرة؛ كالفكر في معاني المتلوِّ من القرآن العزيز، والمذكور من الدّعوات والأذكار، ولا نريد بما يتعلَّق بأمر الآخرة كلَّ أمر محمود، أو مندوب إليه؛ فإنّ كثيرًا من ذلك لا يتعلَّق بأمر الصّلاة، وإدخاله فيها أجنبيٌّ عنها، وقد رُوِيَ عن عمر - رضي اللّه عنه - أنّه قال: "إنّي لأجهِّز الجيش وأنا في الصّلاة" أو كما قال، وهذه قُربة؛ إلّا أنّها أجنبيّة عن مقصود الصّلاة"([26]).

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "قوله: «غُفر له ما تقدَّم من ذنبه» ظاهره العُموم في جميع الذّنوب، وقد خصُّوا مثله بالصّغائر، وقالوا: إنّ الكبائر إنّما تكفَّر بالتّوبة، وكأنّ المستند في ذلك أنّه وَرَد مقيَّدًا في مواضعَ؛

كقوله ﷺ:

«الصلَواتُ الخَمسُ، وَالجُمُعَة إِلى الجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَينَهُنَّ مَا اجتَنَبَ الكَبَائِرَ»

[27]،

فجعلوا هذا القيد في هذه الأمور مقيِّدًا للمطلق في غيرها"[28]

قال القاضي عياض رحمه الله: "وقوله: «وكانت صلاتُه نافِلةً له»؛ أي: أن الوضوء لَمَّا كفَّر ذنوبه، كانت صلاتُه - وإن كانت فريضةً – نافلةً؛ أي: زائدة له في الأجر على كفَّارة الذنوب، والنافلةُ: الزيادةُ في كلام العرب؛ أي: لم يبقَ له ما تكفِّر، فإما أن تكون مُدَّخرةً تكفِّرُ ما بعدها أو تُرفع له بها درجات"[29]

قال ابن الجوزيِّ رحمه الله: "وَقَوله: «كَانَت صلَاته ومشيه إِلَى الْمَسْجِد نَافِلَة»؛ أي: أن الغفران قد حصل له بالوضوء، فثواب صلاته ومشيه زيادة في الفضل"[30]

قال ابن القيم رحمه الله: "فالجنة لا يَدخُلها خبيث، ولا من فيه شيء من الخُبث؛ فمن تطهَّر في الدنيا، ولَقِي الله طاهرًا من نجاساته، دَخَلها بغير معوِّق، ومن لم يتطهَّر في الدنيا، فإن كانت نجاسته عينيةً كالكافر، لم يَدخُلها بحال، وإن كانت نجاستُه كَسبيةً عارضةً، دَخَلها بعدما يتطهَّر في النار من تلك النجاسة، ثم يَخرُج منها، حتى إن أهل الإيمان إذا جازوا الصراط، حُبِسوا على قنطرة بين الجنَّة والنار، فيُهَذَّبون ويُنَقَّوْنَ من بقايا بَقِيت عليهم، قَصُرت بهم عن الجنَّة، ولم توجب لهم دخولَ النار، حتى إذا هذِّبوا ونُقُّوا، أُذِن لهم في دخول الجنة، والله سبحانه بحِكمته جعل الدخولَ عليه موقوفًا على الطهارة، فلا يَدخُل المصلِّي عليه حتى يتطهَّر، وكذلك جعل الدخولَ إلى جنَّته موقوفًا على الطِّيب والطهارة، فلا يَدخُلها إلا طيِّب طاهر؛ فهما طهارتان: طهارةُ البَدَن، وطهارة القَلب؛ ولهذا شُرع للمتوضِّئ أن يقول عَقِيب وضوئه: «أَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحّمدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنَ المُتَطَهِّرِينَ». فطهارةُ القلب بالتوبة، وطهارة البدن بالماء، فلمَّا اجتمع له الطُّهران، صَلَح للدخول على الله تعالى، والوقوف بين يديه ومناجاته"[31]

المراجع

  1.  "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 80).
  2.  "شرح النووي على مسلم" (3/ 105).
  3. "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 81).
  4.  "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العيني (3/ 6).
  5.  "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 81، 82).
  6.  "زاد المعاد" لابن القيم (1/ 187، 188).
  7.  "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 82، 83).
  8.  "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العيني (3/ 7).
  9.  "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 83، 84).
  10.  "سنن الترمذي" (1/ 90).
  11.  "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 132).
  12.  "المغني" لابن قدامة (1/ 96).
  13.  "زاد المعاد" لابن القيم (1/ 186).
  14.  "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 84).
  15.  "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العيني (3/ 8).
  16.  "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 84).
  17.  "مسائل الإمام أحمد رواية ابنه أبي الفضل صالح" (1/ 167).
  18.  "المهذَّب" للشيرازي (1/478).
  19.  "المجموع شرح المهذَّب" للنووي (1/ 453).
  20.  "المغني" لابن قدامة (1/ 102).
  21.  "إغاثة اللهفان" لابن القيم (1/ 127).
  22.  "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 84 - 86).
  23.  "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العيني (3/ 7).
  24.  "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 86).
  25.  "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العيني (3/ 7، 8).
  26.  "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 86).
  27.  رواه مسلم (233).
  28.  "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 87).
  29.  "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (2/ 18).
  30.  "كشف المشكل من حديث الصحيحين" لابن الجوزي (1/ 160، 161).
  31.  "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن القيم (1/ 56).

مشاريع الأحاديث الكلية