عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»
هذا الحديث قال عنه العلماء: إنه رُبع الإسلام [1].
يدور الإسلام على أربعة أحاديثَ: هذه الثلاثة: حديث: «الحلال بيّن والحرام بيِّن»، وحديث: «الأعمال بالنيَّة»، وحديث: «مِن حُسن إسلام المرءِ ترْكُه ما لا يَعنيه»، وحديث: «لا يؤمن أحدكم حتى يُحِبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه»، وقيل: حديث «ازهد في الدنيا يحبَّك الله، وازهد ما في أيدي الناس يحبَّك الناس» [2].
المؤمن للمؤمن كالبُنيانِ المرصُوصِ يشُدُّ بعضُه بعضًا، والمؤمنون كالجسدِ الواحدِ، إذا اشتكَى منهُ عضوٌ تَداعى له سائرُ الجسد بالسَّهرِ والحُمَّى، والمحبَّةُ بين المؤمنين من أهمِّ ما يربطهم ويميِّزهم.
في الحديث بيان أن أُخوَّة الإسلام التي يجتمِعُ تحتَ ظِلالِها المسلِمون في شتَّى بِقاعِ الأرض تُوجِبُ عليهم أُمورًا وواجباتٍ تُجاهَ إخوتِهم المسلِمين، فلا يَكمُلُ إيمانُ المرءِ إلَّا إذا أحبَّ لأخيهِ ما يُحِب لنفْسهِ مِن الخيرِ، ويَكرهُ لأخيهِ ما يَكرَهُ لنفْسِه مِن الأذَى والشرِّ، وهو معنًى عظيمٌ من معاني الأُخوَّة الإيمانية التي ربط بها الإسلامُ بين أتباعه.
في الحديث بيان أنه على المسلم أن يحبَّ لأخيه مِن الطاعات والأشياء المباحات ما يحبُّه لنفْسه، ويَدُلُّ عليه ما جاء في رواية النَّسائِيِّ في هذا الحديث: «حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يُحِبَّ لِنَفْسِهِ» [3].
الحديث ظاهرُه التساوي - يعني: يحب لأخيه مثلَ ما يحب لنفْسه - وحقيقتُه التفضيلُ؛ لأن الإنسانَ يحبُّ أن يكونَ أفضلَ الناس، فإذا أحبَّ لأخيه مثلَه، فقد دخلَ هو في جُملة المفضولين؛ ألا ترى أن الإنسانَ يجب أن يَنتصِف من حقِّه ومَظْلمته، فإذا كمَل إيمانه وكانت لأخيه عنده مَظْلِمة أو حقٌّ، بادر إلى إنصافه من نفْسِه، وآثَرَ الحقَّ، وإن كان عليه فيه بعضُ المشقَّة [4].
المراد بهذا الحديث كفُّ الأذى والمكروه عن الناس، ويُشبِه معناه قولُ الأحنف بن قَيس، قال: كنتُ إذا كرِهتُ شيئًا من غيري، لم أفعلْ بأحدٍ مثلَه [5].
ليس المرادُ من الحديث أن يمحوَ العبدُ من طَبْعه حبَّ الخير لنفْسه؛ فهذه طبيعة إنسانية لا يمكِن القضاءُ عليها؛ وإنما يمكِن تهذيبُها بحيث يتمنَّى الخيرَ لأخيه المسلم، ويحبُّه له من جهة لا يُزاحمه فيها، ولا يأتي على حظِّه المباح، بحيث لا تَنقُص النعمة على أخيه شيئًا من النِّعمة عليه، وذلك سهل على القلب السليم؛ وإنما يَعسُر على الْقَلْب الفاسد [6].
إن قيل: كيف يُتصوَّر هذا وكلُّ أحدٍ يُقدِّم نفْسه فيما يختاره لها، ويحبُّ أن يَسبِق غيره في الفضائل، وقد سابَق عمرُ أبا بكرٍ؟ فالجواب: أن المراد حصولُ الخير في الجُملة، واندفاعُ الشرِّ في الجملة، فينبغي للإنسان أن يحبَّ ذلك لأخيه كما يحبُّه لنفْسه، فأما ما هو من زوائد الفضائل، وعُلوِّ المناقب، فلا جُناحَ عليه أن يُؤثِر سبْقَ نفْسِه لغيره في ذلك [7].
نظَّمت شريعة الإسلام علاقة الناس بربهم سبحانه؛ حتى ينالوا السعادة في الدنيا والآخرة، وفي الوقت نفسه شرع لهم الإسلام ما ينظِّم علاقتهم بعضهم ببعض؛ حتى تَسُود الأُلفة والمحبَّة في المجتمع المسلم، ولا يتحقَّق ذلك إلا إذا حرص كلُّ فرد من أفراده على مصلحة غيره حرصَه على مصلحته الشخصية، وبذلك ينشأ المجتمع الإسلاميُّ القويُّ المترابط، ذو الأساس المتين.
إن المسلم يتَّسِع الخير في قلبه لكل البشر؛ ليشمل محبَّة الخير لغير المسلمين، فيحبُّ لهم أن يمنَّ الله عليهم بنعمة الإيمان، وأن يُنقذهم الله من ظُلمات الشرك والعصيان.
من مقتضيات هذا الحديث أن يُبغض المسلم لأخيه ما يُبغضه لنفسه، وهذا يدفعه إلى تجنُّب الصفات الذميمة التي يُبغض أن يعامله الناس بها؛ كالحسد، والحِقد، والبُغض للآخرين، والأنانية، والجشع، وغيرها.
إن من ثمرات العمل بهذا الحديث العظيم أن ينشأ في الأمة مجتمع فاضل، يَنعَم أفراده فيه بأواصر المحبة الوُثقى، وترتبط لَبِناته حتى تغدوَ قوية متماسكة كالجسد الواحد، الذي لا تقهره الحوادث، ولا تغلبه النوائب، فتتحقَّق للأمة وَحْدتُها.
1. انظر: "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للنَّوويِّ (11/ 27).
2. "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للنَّوويِّ (11/ 27).
3. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 16، 17).
4. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (1/ 65).
5. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (1/ 65).
6. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 17).
7. "كشف المشكل من حديث الصحيحينِ" (3/ 232).
14. قوله ﷺ: «لا يُؤْمِنُ أحَدُكُم» معناه: لا يؤمِنُ الإيمانَ الكاملَ التامَّ؛ وإلا فأصلُ الإيمان يحصُل لمَن لم يكنْ بهذه الصفة [1].
15. المقصود بقوله: «لا يؤمن أحدكم» الكمال الواجب؛ لأن نفيَ الإيمان في مثل هذا المقام يدلُّ على أنه قد نقص من إيمانه الواجب، وليس معنى ذلك أن الإيمان قد انمحى، أو أنه صار لا يُجزئ؛ بل الإيمان في أصله صحيح؛ ولكن نقص منه قدر واجب، في مشيئة الله، إن شاء عذَّب الإنسان عليه، وإن شاء غفر، إلا أن يكون له حسنات تمحو، أو شفاعة.
16. "المراد بنَفي الإيمان نفيُ بُلوغ حقيقته ونهايته؛ فإن الإيمان كثيرًا ما يُنفى لانتفاء بعض أركانه وواجباته،
كقوله ﷺ:
«لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ»
[2] [3].
17. اختلف العلماء في مرتكِب الكبائر: هل يُسمَّى مؤمنًا ناقص الإيمان، أم لا يسمَّى مؤمنًا؛ وإنّما يُقال: هو مسلم، وليس بمؤمن؟ على قولين، وهما روايتان عن الإمام أحمدَ [4].
18. مَن ارتكب الصّغائر، لا يزول عنه اسم الإيمان بالكُلّيّة؛ بل هو مؤمن ناقص الإيمان، يَنقُص من إيمانه بحسَبِ ما ارتكب من ذلك [5].
19. القول بأنّ مرتكِب الكبائر يُقال له: مؤمن ناقص الإيمان. مرويٌّ عن جابرِ بنِ عبد اللّه، وهو قول ابن المبارك وإسحاقَ وأبي عُبَيد وغيرهم، والقول بأنّه مسلم، ليس بمؤمن. مرويٌّ عن أبي جعفرٍ محمّدِ بنِ عليٍّ، وذَكَر بعضهم أنّه المختار عند أهل السُّنَّة [6].
20. قال ابن عبَّاس: الزّاني يُنزَع منه نور الإيمان. وقال أبو هريرة: يُنزَع منه الإيمان، فيكون فوقه كالظُّلَّة، فإن تاب عاد إليه. وقال عبد اللّه بن رواحة وأبو الدَّرداء: الإيمان كالقميص، يَلبَسه الإنسان تارةً، ويَخلَعه تارةً أخرى، وكذا قال الإمام أحمدُ وغيره، والمعنى: أنّه إذا كَمُل خصال الإيمان، لَبِسه، فإذا نَقَص منها شيء نزعه، وكلُّ هذا إشارة إلى الإيمان الكامل التّامِّ الّذي لا يَنقُص من واجباته شيء [7].
21. في الحديث بيانُ علامةٍ من علامات الإيمانِ، وهي حُبُّ الخير للمسلم.
22. إن الإيمان يَزيد ويَنقُص، ومما يَنقُصه الحسدُ، والأنانيةُ، وفسادُ ذات البَين، ومن مكمِّلاته حبُّ الخير، وصلاحُ ذات البَين.
1. انظر: "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للنوويِّ (2/ 16).
2. رواه البخاريُّ (2475)، ومسلم (100).
3. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 303).
4. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 303).
5. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 303).
6. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 303).
7. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 303).
23. هذه الخَصلةُ في الحديث تصِلُ بصاحبِها إلى درجاتِ الكمالِ في الأخلاقِ، فيتطهَّرُ بها مِن الآفاتِ التي تُصِيبُ القلوبَ؛ كالحقدِ، والحسدِ، والغِلِّ، والكِبرِ؛ فتَمامُ مَحبَّةِ الخيرِ للمسلِمين لا تقعُ إلا لصاحبِ القلبِ السليمِ، فإذا أحبَّ المؤمِنُ لنفْسِه فضيلةً مِن دِينٍ أو غيرِه، أحبَّ أنْ يكون لأخيهِ نظيرُها مِن غيرِ أنْ تزولَ عنه.
24. من واجبات المعلِّم والمربِّي العملُ على صلاح ذات البين، وتوثيق الروابط بين أفراد المجتمع المسلم.