1. لولا أنه سبحانه يُداوي عباده بأدوية الْمِحَن والابتلاء، لَطَغَوْا، وبَغَوْا، وعَتَوْا، والله سبحانه إذا أراد بعبد خيرًا، سقاه دَواء من الابتلاء والامتحان على قَدْرِ حاله، يَستفرِغ به من الأدواء المهلِكة، حتى إذا هذَّبه ونقَّاه وصفَّاه، أهَّله لأشرف مراتب الدنيا، وهي عُبوديتُه، وأرفع ثواب الآخرة، وهو رؤيته وقُربه.
2. أكثرُ الناس آثَر حلاوة الدنيا المنقطِعة على الحلاوة الدائمة التي لا تَزول، ولم يحتمل مرارة ساعة لحلاوة الأبد، ولا ذُلَّ ساعة لعِزِّ الأبد، ولا محنةَ ساعة لعافية الأبد، فإنَّ الحاضر عنده شَهَادة، والمنتظَر غَيْبٌ، والإيمانَ ضَعيف، وسُلطان الشهوة حاكم، فتَولَّد من ذلك إيثارُ العاجلة، ورفضُ الآخرة، وهذا حال النَّظَر الواقع على ظواهر الأمور، وأوائلها، ومبادئها، وأما النَّظَرُ الثاقب الذي يَخرِق حُجُب العاجلة، ويُجاوزه إلى العواقب والغايات، فله شأنٌ آخَرُ[1].
3. قال بعضُ السَّلف: رأيتُ المعاصيَ نذالةً، فتركتُها مروءةً، فاستحالت دِيانةً[2].
4. قال بعض السلف: تركتُ الذنوب حياءً أربعين سنة، ثم أدركني الوَرَع[3].
5. قال بعضهم: مَن عَمِل في السرِّ عَمَلًا يَسْتَحْيِي منه إذا ظهر عليه، فليس لنفسه عنده قَدْرٌ[4].
6. قال بعضهم: ما أَكرَم العبادُ أنفسهم بمثل طاعة الله، ولا أهانوها بمثل معاصي الله - عزَّ وجلَّ - فمن ارتكب المحارم، فقد أهان نفسه[5].
7. ادْعُ نفسك إلى ما أَعَدَّ الله لأوليائه وأهلِ طاعته من النعيم الْمُقيم، والسعادة الأَبَدية، والفوز الأكبر، وما أَعَدَّ لأهل البَطالة والإضاعة من الخِزْيِ والعِقاب والحَسَرات الدائمة، ثم اخْتَرْ أيَّ القِسمينِ أَلْيَقُ بك، وكلٌّ يَعمَل على شاكِلته، وكلُّ أحد يصبو إلى ما يناسِبه، وما هو الأَوْلى به، ولا تَستطِلْ هذا العلاج؛ فشِدَّةُ الحاجة إليه من الطَّبيب والعَليل دَعَت إلى بَسْطِه[6].
8. اصبر على الأعمال الصالحات؛ فهي طريقك للجنة، وما فيها من النعيم والْمَلَذَّات.
9. ما أجملَ السَّيْرَ في طريقٍ معلومٍ نهايتُه، مهما كان فيه من الْمَكَاره والأشواك والجراح والعقبات.
10. أَعَدَّ الله لعباده الصالحين ما يَسُرُّهم مما لا يتصوَّره مخلوق، من الْمَسرَّات، وأصناف اللذَّات، ونيل رضوان الله بوجوه ناضرة إلى ربها ناظرة؛ فهم أهل الجنة وكُفؤها، لم يَحجُبهم عنها المكاره والبلاءات والشهوات وطلب الراحة ونعيم الدنيا الزائل.
11. قال مُحَمَّدُ بنُ الْمُنْذر: "لَمَّا خُلقت النَّار، فَزِعت الْمَلَائِكَة وطارت أفئدتهم، وَلَمَّا خُلق آدمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - سَكَن ذَلِك عَنْهُم"[7].
12. قال ميمون بن مهران: "لَمَّا خلق الله جَهَنَّم، أمرها فزفرت زفرة، فلم يبْقَ في السموات السبع ملَكٌ إلَّا خَرَّ على وجهه، فقال لهم الربُّ: ارفعوا رؤوسكم، أما علمْتُم أَنِّي خلقتكم للطاعة، وهذه خلقتها لأهل المعصية؟ قالوا: ربَّنا لا نأمنها حتى نرى أهلها؛ فذلك قوله تعالى:
{وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} "[8]
13. كان النبيُّ ﷺ يستعيذ من حرِّ جهنَّمَ؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ يَقُولُ فِي صَلَاتِهِ:
«اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ»[9].
14. اعلم أن الأحاديث قد تكاثرت في أن البكاء من خشية الله مقتضٍ للنجاة من النار، والبكاء من نار جهنَّم هو البكاء من خشية الله؛ لأنّه بكاءٌ من خشية عقاب الله وسَخَطه، والبُعد عنه وعن رحمته وجواره ودار كرامته[10].
15. عليك بصالح الأعمال؛ لتنجوَ من شدَّة الأهوال، وإياك والمعاصيَ، فاحذر من نارٍ، شديدٍ حرُّها، بعيدٍ قعرُها.
16. الباطل محبوبٌ للنفس الأمَّارة بالسُّوء، والحقُّ مكروهٌ لها، فإذا تجاوَز الإنسان هذا المكروه، وأَكرَه نفسه الأمَّارة بالسوء على فعل الواجبات، وعلى ترك المحرَّمات، فحينئذٍ يَصِل إلى الجنَّة[11].
17. وَإِنَّ جِنَانَ الخُلْدِ تَبْقَى وَمَنْ بِهَا = مُقِيْمًا عَلَى طُوْلِ الْمَدَى لَيْسَ يَرْحَلُ
أُعِدَّتْ لِمَنْ يَخْشَى الإِلَهَ وَيَتَّقِي = وَمَاتَ عَلَى التَّوحِيدِ فَهْوَ مُهَلَّلُ
18. إِذَا أَذْكَرَتْكَ النَّفْسُ دُنْيَا دَنِيَّةً = فَلا تَنْسَ رَوْضَاتِ الْجِنَانِ وَخُلْدَهَا
أَلَسْتَ تَرَى الدُّنْيَا وَتَنْغَيِصَ عَيْشِهَا = وَإِتْعَابَها لِلمُكْثِرِين وَكَدَّهَا
وَأَدْنَى بَنِي الدُّنْيَا إِلَى الغَيِّ وَالعَمَى = لَمَنْ يَبْتَغِي مِنْهَا سَنَاهَا وَمَجْدَهَا
هَوَى النَّفْسِ فِي الدُّنْيَا إِلَى أَنْ تَغُولَهَا = كَمَا غَالَتِ الدُّنْيَا أَبَاهَا وَجَدَّهَا
19. سَارَ الْمُجِدُّونَ فِي الخَيْرَاتِ وَاجْتَهَدُوا = يَا فَوْزَهُم في جِنَانِ الخُلْدِ وَالنِّعَمِ
صَفَتْ لأهْلِ التُّقَى أَوْقَاتُهُم سَعِدُوا = نَالُوا الهَنَا وَالْمُنَى بالخَيْرِ والكَرَمِ
20. اعْمَلْ لِدَارِ الْبَقَا رِضْوَانُ خَازِنُهَا = الجَارُ أحمدُ والرحمنُ بانِيها
أرضٌ لَهَا ذَهَبٌ والْمِسْكُ طِينَتُها = والزَّعْفَرَانُ حَشِيشٌ نَابِتٌ فيها
أنهارُها لَبَنٌ مَحْضٌ ومِنْ عَسَلٍ = وَالخَمْرُ يَجْري رَحِيقًا في مَجاريها
مَنْ يَشْتَرِي الدَّارَ بِالْفِرْدَوْسِ يَعْمُرُهَا = بِرَكْعَةٍ في ظَلامِ اللَّيْلِ يُخْفِيها
أَوْ سَدِّ جَوْعَةِ مِسْكِينٍ بِشَبْعَتِهِ = فِي يَوْمِ مَسْغَبَةٍ عَمَّ الغَلا فِيها
21. وإِنْ ضَاقَتِ الدُّنيا عَلَيْكَ بِأَسْرِهَا = وَلم يَكُ فِيها مَنْزِلٌ لَكَ يُعْلَمُ
فَحَيَّ على جَنَّاتِ عَدْنٍ فَإنَّها = مَنَازِلُكَ الأُولَى وفِيهَا الْمُخَيَّمُ
22. الموْتُ بابٌ وكلُّ الناسِ داخِلُهُ = يا ليْتَ شعرِيَ بعدَ البابِ ما الدَّارُ؟
الدَّارُ جنَّةُ خُلْدٍ إنْ عمِلتَ بِمَا = يُرْضِي الإلَهَ، وإنْ قصَّرْتَ، فالنّارُ
23. وَخُذْ من تُقَي الرَّحمنِ أَعظمَ جُنَّةٍ = لِيومٍ بهِ تَبْدُو عِيَانًا جَهنَّمُ
وَيُنْصَبُ ذاكَ الجَسرُ من فوقِ مَتنِهَا = فَهَاوٍ وَمَخْدُوشٌ وَنَاجٍ مُسَلَّمُ
وَيَأتِي إِلَهُ العَالمينَ لِوعْدِهِ = فَيَفْصِلُ ما بَينَ العِبادِ وَيَحْكُمُ
وَيأخُذُ للمَظْلُومِ رَبُّكَ حقَّهُ = فيا بُؤسَ عبدٍ للخلائقِ يَظلمُ
24. فعلى الرحمنِ توكَّلْنا = وإليهِ نَجِدُّ ونجتَهِدُ
وله أسلَمْنا عن طوعٍ = وبهِ نعتزُّ ونعتَضِدُ
وإليهِ أَنَبْنا في ذُلٍّ = من هَوْلِ جهنَّمَ نرتَعِدُ
ندعُوه نرجُو جنَّتَهُ = فالخُلْدُ مَنالٌ مُبْتَعَدُ
لكنَّ الرحمةَ واسعةٌ = يُؤتَاها العبدُ المجتَهِدُ
25. حكمتَ فأقسطْتَ في العالمينَ = وبالعَدْلِ فليحْكُمِ الحَاكِمونَ
فنارُك يَصْلَى بها الكافرونَ = وجناتُ عَدْنٍ بها المؤمنونَ
تباركتَ يا ربَّ هذا الوُجُودِ = ومن باسمِه سبَّح العَالمونَ
26. لله يَوْمٌ تَقْشَعِرُّ جُلُودُهُمْ = وَتَشِيبُ مِنْه ذَوَائِبُ الأطْفالِ
يَوْمُ النَّوازِلِ والزَّلازِلِ وَالْحَوا = مِلِ فيِه إذْ يَقِذفْنَ بالأحْمَالِ
يَوْمُ التَّغابُنِ والتَّبايُنِ والتَّنَا = زُلِ وَالأمُورِ عَظيمَةِ الأهْوَالِ
يومٌ ينادَى فيه كُلُّ مُضلَّلٍ = بمقطَّعاتِ النارِ والأغلالِ
لِلْمُتَّقِينَ هُناكَ نُزْلُ كَرامَةٍ = عَلَتِ الوُجُوهَ بنَضرةٍ وَجَمالِ
المراجع
- "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم (4/ 179، 180).
- "مجموع رسائل ابن رجب" (1/ 203).
- "مجموع رسائل ابن رجب" (1/ 203).
- "مجموع رسائل ابن رجب" (1/ 203).
- "مجموع رسائل ابن رجب" (1/ 203).
- "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم (4/ 179، 180).
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (15/ 165).
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (15/ 165).
- رواه النسائيُّ (5520)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح وضعيف سنن النسائيِّ".
- "مجموع رسائل ابن رجب" (4/ 143).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 87 - 89).