المعنى الإجماليُّ للحديث:
يروي أَنَسُ بنُ مالكٍ عن النبيِّ ﷺ أنه قال: «حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ»، ويروي أَبو هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «حُجِبَتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ، وَحُجِبَتِ الجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ»؛ أي: أن الجنَّة قد أُحيطت بالمكاره، والنار قد أُحيطت بالشَّهوات، فلا يوصَل إلى الجنة إلا بارتكاب المكاره، من فعل الطاعات والواجبات، واجتناب المنهيَّات والمحرَّمات، وأُطِلق عليها مَكَارهُ؛ لِمَشقَّتها على العامل، وصُعوبتِها عليه. ولا يوصَل إلى النار إلا بتعاطي الشهوات، وهي الْمَلذَّات التي مَنَع الشرع من تعاطيها، أو التي قد تؤدِّي إلى ترك الواجبات، أو الوقوع في المحرَّمات، فالجنة والنار محجوبتان، فمن هتَك الحجاب، وصَل إلى المحجوب.
الشرح المفصَّل للحديث:
لقد جعَلَ الله تعالى الجنَّةَ جزاءً للمُؤمنين الصابرين، وجعل النارَ جزاءً للكافرين والعاصين؛ فقد خَلَق اللهُ الخَلْقَ، وأرسل إليهم الرُّسل، وأنزل عليهم الكُتب، وبيَّن لهم طريقَيِ الخَير والشَّرِّ؛
{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}
ورتَّب لهم الثواب والعقاب على أعمالهم؛ فقال تعالى:
{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}
فيَصيرون إلى النار بعَدْلِه، أو إلى الجنَّة برحمتِه وفضله، وأَعَدَّ الله الجنَّة للصالحين من عباده وأوليائه، جَعَلَنا اللهُ من أهلها؛ قال تعالى:
{وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}
وأخفى لهم فيها ثَوَابًا لا يَعلَم مِقدارَه إلا اللهُ تعالى؛ جزاءً على أعمالهم؛ عن الحسن، قال: "أخفى القَوم أعمالًا في الدنيا، فأخفى الله لهم ما لا عَيْنٌ رأت، ولا أُذن سَمعت"[1]، وجَعَل النَّارَ من نَصيب الكفَّار والْمُذنبين من خلقه، أعاذنا الله منها؛ قال تعالى:
{ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}
"وقد امتحن اللهُ سبحانه عباده في هذه الدار بالمحرَّمات من الشهوات والشُّبهات، وجعل في النَّفس داعيًا إلى حُبِّها، مع تمكُّن العبد منها، وقُدرته عليها، فمن أدَّى الأمانة، وحَفِظ حدودَ الله، ومَنَع نفسه ما يُحبُّه من محارم الله، كان عاقبتُه الجنةَ؛ كما قال تعالى:
{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ 40 فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ}
فلذلك؛ يحتاج العبدُ في هذه الدار إلى مُجاهدة عظيمة، يُجاهد نفسه في الله - عزَّ وجلَّ - فمن كانت نفسُه شريفةً، وهِمَّته عاليةً، لم يَرْضَ لها بالمعاصي؛ فإنَّها خيانةٌ، ولا يرضى بالخيانة إلَّا مَن لا نَفْسَ له. قال بعضُ السَّلف: رأيتُ المعاصي نذالةً، فتركتُها مروءةً، فاستحالت دِيانةً. وقال آخَرُ منهم: تركتُ الذنوب حياءً أربعين سنة، ثم أدركني الوَرَع. وقال آخَرُ: مَن عَمِل في السرِّ عَمَلًا يَسْتَحْيِي منه إذا ظهر عليه، فليس لنفسه عنده قَدْرٌ. قال بعضهم: ما أَكرَم العبادُ أنفسهم بمثل طاعة الله، ولا أهانوها بمثل معاصي الله - عزَّ وجلَّ - فمن ارتكب المحارم، فقد أهان نفسه"[2].
وفي هذا الحديث روى أَنَسُ بنُ مالكٍ عن النبيِّ ﷺ أنه قال:
«حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ»
وفي رواية أَبي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ:
«حُجِبَتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ، وَحُجِبَتِ الجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ»
"وهو من جوامع كَلِمه ﷺ وبديع بلاغته في ذمِّ الشَّهوات، وإن مالت إليها النُّفوس، والحضِّ على الطَّاعات، وإن كرهتها النُّفوس، وشقَّ عليها"[3].
وقد ورد إيضاح ذلك من وجهٍ آخَرَ عن أبي هُريرةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ:
«لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ، قَالَ لِجِبْرِيلَ: اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، وَعِزَّتِكَ، لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَهَا، ثُمَّ حَفَّهَا بِالْمَكَارِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، وَعِزَّتِكَ، لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ. قَالَ: فَلَمَّا خَلَقَ اللَّهُ النَّارَ، قَالَ: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، وَعِزَّتِكَ، لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ فَيَدْخُلُهَا، فَحَفَّهَا بِالشَّهَوَاتِ، ثُمَّ قَالَ: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، وَعِزَّتِكَ، لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لَا يَبْقَى أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَهَا»[4].
"قوله ﷺ «حُفَّت الجنَّة بالمكاره، وحُفَّت النّار بالشّهوات» هكذا رواه مسلم (حُفَّت)، ووقع في البخاريِّ (حُفَّت)، ووقع فيه أيضًا (حُجِبَتْ)، وكلاهما صحيح. قال العلماء: هذا من بَديع الكلام وفَصيحه وجوامعه الّتي أوتيها ﷺ من التَّمثيل الحَسَن، ومعناه: لا يوصَل الجنَّة إلَّا بارتكاب المكاره، والنَّار بالشّهوات، وكذلك هما محجوبتان بهما، فمن هَتَك الحجاب، وَصَل إلى المحجوب، فهتكُ حجاب الجنّة باقتحام المكاره، وهتك حجاب النّار بارتكاب الشّهوات، فأمّا المكاره، فيَدخُل فيها الاجتهاد في العبادات، والمواظبة عليها، والصّبر على مشاقِّها، وكَظم الغيظ، والعفو، والحِلم، والصَّدقة، والإحسان إلى المسيء، والصّبر عن الشَّهوات، ونحو ذلك، وأمّا الشّهوات الّتي النّارُ محفوفةٌ بها، فالظّاهر أنّها الشّهوات المحرَّمة؛ كالخمر والزِّنا، والنَّظَر إلى الأجنبيَّة، والغِيبة، واستعمال الملاهي، ونحو ذلك، وأمّا الشّهوات المباحة، فلا تَدخُل في هذه؛ لكن يُكرَه الإكثار منها؛ مخافةَ أن يَجُرَّ إلى المحرَّمة، أو يقسِّيَ القلب، أو يَشغَل عن الطَّاعات، أو يُحْوِج إلى الاعتناء بتحصيل الدنيا"[5].
و"إنّ المراد بالْمَكَاره هنا ما أُمِر المكلَّف بمجاهدة نفسه فيه فعلًا وتركًا؛ كالإتيان بالعبادات على وجهها، والمحافظة عليها، واجتناب المنهيَّات قولًا وفعلًا، وأَطلَق عليها الْمَكاره لمشقَّتها على العامل، وصُعوبتها عليه، ومن جُملتها الصَّبر على الْمُصيبة، والتَّسليم لأمر اللّه فيها، والْمُراد بالشَّهوات ما يُستلَذُّ من أمور الدُّنيا ممَّا مَنَع الشَّرع من تعاطيه، إمَّا بالأصالة، وإمَّا لكون فِعْلِه يَستلزِم تركَ شيء من المأمورات، ويَلتحِق بذلك الشُّبُهاتُ، والإكثارُ ممَّا أُبيح؛ خشيةَ أن يوقِع في المحرَّم، فكأنّه قال: لا يوصَل إلى الجنَّة إلَّا بارتكاب المشقَّات الْمُعبَّر عنها بالمكروهات، ولا إلى النَّار إلَّا بتعاطي الشَّهَوات، وهما محجوبتانِ، فمن هَتَك الحِجاب، اقتَحَم.
ويُحتمَل أن يكون هذا الخبرُ، وإن كان بلفظ الخبر، فالمراد به النَّهْيُ، وقولُه: (حُفَّت) بالْمُهملة، والفاء من الحِفَاف، وهو ما يُحيط بالشَّيء حتَّى لا يُتوصَّل إليه إلَّا بتَخطِّيه، فالجنَّةُ لا يُتوصَّل إليها إلَّا بقَطع مَفَاوِزِ الْمَكاره، والنَّارُ لا يُنجَّى منها إلَّا بترك الشَّهوات"[6].
"قوله: «وحفَّت الجنَّة بالمكاره»، وفي لفظ: «حُجِبت الجنَّة بالمكاره»؛ يعني: أُحِيطت بها، فالنارُ قد أُحيطت بالشَّهوات، والجنَّة قد أُحيطت بالمكاره، والشَّهَوات: هي ما تميل إليه النفس، من غير تعقُّل، ولا تبصُّر، ولا مُراعاة لدِين، ولا مراعاة لِمُروءة؛ فالزِّنى شَهْوةُ الفَرْج، تميل إليها النفس كثيرًا، فإذا هَتَكَ الإنسان هذا الحِجاب، فإنه سيكون سببًا لدخوله النارَ. وكذلك شُرْبُ الخَمر، تهواه النفس، وتميل إليه؛ ولهذا جَعَل الشارع له عقوبةً رادعة بالجَلْدِ، فإذا هَتَك الإنسان هذا الحجابَ وشَرِب الخمر، أدَّاه ذلك إلى النار، وكذلك حبُّ المال، شهوة من شهوات النفس، فإذا سَرَق الإنسان بدافع شَهْوةِ حبِّ جَمْعِ المال، فلِرغبةِ أن يستوليَ على المال الذي ترغبه نفسه، فإذا سَرَق فقد هَتَك هذا الحجاب، فيَصِل إلى النار، ومن ذلك الغشُّ من أجل أن يَزيد ثمن السلعة، هذا تهواه النفس، فيَفعَله الإنسان، فيَهتِك الحجاب الذي بينه وبين النار، فيدخل النار. والاستطالة على الناس، والعُلُوُّ عليهم، والترفُّع عليهم، كلُّ إنسان يحبُّ هذا، وتهواه النفس، فإذا فَعَله الإنسان، فقد هَتَك الحجاب الذي بينه وبين النار، فيصل إلى النار؛ ولكن ما دواء هذه الشهوة التي تميل إليها النفس الأمَّارة بالسوء؟ دواؤها ما بعدَها، قال: «وحُفَّت الجنَّة بالمكاره» أو «حُجبت بالمكاره»؛ يعني: أُحِيطت بما تَكرَهُه النُّفوس؛ لأن الباطل محبوبٌ للنفس الأمَّارة بالسُّوء، والحقَّ مكروهٌ لها، فإذا تَجَاوز الإنسان هذا المكروه، وأَكرَه نفسه الأمَّارة بالسوء على فعل الواجبات، وعلى ترك المحرَّمات، فحينئذٍ يَصِل إلى الجنَّة. ولهذا تجد الإنسانَ يَستثقِل الصَّلواتِ مثلًا، ولا سيَّما في أيام الشتاء وأيام البَرد، ولا سيَّما إذا كان في الإنسان نومٌ كثير، بعد تَعَب وجَهْدٍ، فتجد الصلاةَ ثقيلةً عليه، ويَكرَه أن يقوم ويَترُك الفِراش اللَّيِّن الدافئ؛ ولكن إن هو كَسَر هذا الحاجبَ، وقام بهذا المكروه، وصل إلى الجنَّة... لأن الجنة حُفَّت بالمكاره؛ فاجتنابُ المحرَّمات مكروهٌ إلى النفوس، وشديدٌ عليها، لا سيَّما مع قوَّة الداعي، فإذا أَكرَهت نفسك على ترك هذه المحرَّمات، فهذا من أسباب دخول الجنة"[7].
"فلولا أنه سبحانه يُداوي عباده بأدوية الْمِحَن والابتلاء، لَطَغَوْا، وبَغَوْا، وعَتَوْا، والله سبحانه إذا أراد بعبد خيرًا، سقاه دَواء من الابتلاء والامتحان على قَدْرِ حاله، يَستفرِغ به من الأدواء المهلِكة، حتى إذا هذَّبه ونقَّاه وصفَّاه، أهَّله لأشرف مراتب الدنيا، وهي عُبوديتُه، وأرفع ثواب الآخرة، وهو رؤيته وقُربه. ومن علاجها: أن يَعلَم أن مرارة الدنيا هي بعَينها حلاوة الآخرة، يَقلِبها الله سبحانه كذلك، وحلاوة الدُّنيا بعينها مرارةُ الآخرة، ولأن ينتقل من مرارة منقطِعة إلى حلاوة دائمة، خيرٌ له من عكس ذلك، فإن خَفِيَ عليكَ هذا، فانظر إلى قول الصادق المصدوق: «حفَّت الجنة بالمكاره، وحفَّت النار بالشهوات»، وفي هذا الْمَقام تَفَاوتَت عقول الخلائق، وظهرت حقائق الرجال؛ فأكثرُهم آثَر الحلاوة المنقطِعة على الحلاوة الدائمة التي لا تَزول، ولم يحتمل مرارة ساعة لحلاوة الأبد، ولا ذُلَّ ساعة لعِزِّ الأبد، ولا محنةَ ساعة لعافية الأبد، فإنَّ الحاضر عنده شَهَادة، والمنتظَر غَيْبٌ، والإيمانَ ضَعيف، وسُلطان الشهوة حاكم، فتَولَّد من ذلك إيثارُ العاجلة، ورفضُ الآخرة، وهذا حال النَّظَر الواقع على ظواهر الأمور، وأوائلها، ومبادئها، وأما النَّظَرُ الثاقب الذي يَخرِق حُجُب العاجلة، ويُجاوزه إلى العواقب والغايات، فله شأنٌ آخَرُ. فادْعُ نفسك إلى ما أَعَدَّ الله لأوليائه وأهلِ طاعته من النعيم الْمُقيم، والسعادة الأَبَدية، والفوز الأكبر، وما أَعَدَّ لأهل البَطالة والإضاعة من الخِزْيِ والعِقاب والحَسَرات الدائمة، ثم اخْتَرْ أيَّ القِسمينِ أَلْيَقُ بك، وكلٌّ يَعمَل على شاكِلته، وكلُّ أحد يصبو إلى ما يناسِبه، وما هو الأَوْلى به، ولا تَستطِلْ هذا العلاج؛ فشِدَّةُ الحاجة إليه من الطَّبيب والعَليل دَعَت إلى بَسْطِه، وبالله التوفيق"[8].
المراجع
- "تفسير الكشاف" للزمخشريِّ (3/ 513).
- "مجموع رسائل ابن رجب" (1/ 203).
- "فتح الباري" لابن حجر (11/ 320).
- رواه أبو داود (4744) واللفظ له، والترمذيُّ (2560)، والنسائيُّ (3763)، وأحمدُ (8648)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح أبي داود".
- "شرح النوويِّ على مسلم" (17/ 165).
- "فتح الباري" لابن حجر (11/ 320، 321).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 87 - 89).
- "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم (4/ 179، 180).
النقول:
قال ابن حجر رحمه الله: "وهو من جوامع كَلِمه ﷺ وبديع بلاغته في ذمِّ الشَّهوات، وإن مالت إليها النُّفوس، والحضِّ على الطَّاعات، وإن كرهتها النُّفوس، وشقَّ عليها"[1].
قال النوويُّ رحمه الله: "قوله ﷺ «حُفَّت الجنَّة بالمكاره، وحُفَّت النّار بالشّهوات» هكذا رواه مسلم (حُفَّت)، ووقع في البخاريِّ (حُفَّت)، ووقع فيه أيضًا (حُجِبَتْ)، وكلاهما صحيح. قال العلماء: هذا من بَديع الكلام وفَصيحه وجوامعه الّتي أوتيها ﷺ من التَّمثيل الحَسَن، ومعناه: لا يوصَل الجنَّة إلَّا بارتكاب المكاره، والنَّار بالشّهوات، وكذلك هما محجوبتان بهما، فمن هَتَك الحجاب، وَصَل إلى المحجوب، فهتكُ حجاب الجنّة باقتحام المكاره، وهتك حجاب النّار بارتكاب الشّهوات، فأمّا المكاره، فيَدخُل فيها الاجتهاد في العبادات، والمواظبة عليها، والصّبر على مشاقِّها، وكَظم الغيظ، والعفو، والحِلم، والصَّدقة، والإحسان إلى المسيء، والصّبر عن الشَّهوات، ونحو ذلك، وأمّا الشّهوات الّتي النّارُ محفوفةٌ بها، فالظّاهر أنّها الشّهوات المحرَّمة؛ كالخمر والزِّنا، والنَّظَر إلى الأجنبيَّة، والغِيبة، واستعمال الملاهي، ونحو ذلك، وأمّا الشّهوات المباحة، فلا تَدخُل في هذه؛ لكن يُكرَه الإكثار منها؛ مخافةَ أن يَجُرَّ إلى المحرَّمة، أو يقسِّيَ القلب، أو يَشغَل عن الطَّاعات، أو يُحْوِج إلى الاعتناء بتحصيل الدنيا"[2]).
قال ابن حجر رحمه الله: "إنّ المراد بالْمَكَاره هنا ما أُمِر المكلَّف بمجاهدة نفسه فيه فعلًا وتركًا؛ كالإتيان بالعبادات على وجهها، والمحافظة عليها، واجتناب المنهيَّات قولًا وفعلًا، وأَطلَق عليها الْمَكاره لمشقَّتها على العامل، وصُعوبتها عليه، ومن جُملتها الصَّبر على الْمُصيبة، والتَّسليم لأمر اللّه فيها، والْمُراد بالشَّهوات ما يُستلَذُّ من أمور الدُّنيا ممَّا مَنَع الشَّرع من تعاطيه، إمَّا بالأصالة، وإمَّا لكون فِعْلِه يَستلزِم تركَ شيء من المأمورات، ويَلتحِق بذلك الشُّبُهاتُ، والإكثارُ ممَّا أُبيح؛ خشيةَ أن يوقِع في المحرَّم، فكأنّه قال: لا يوصَل إلى الجنَّة إلَّا بارتكاب المشقَّات الْمُعبَّر عنها بالمكروهات، ولا إلى النَّار إلَّا بتعاطي الشَّهَوات، وهما محجوبتانِ، فمن هَتَك الحِجاب، اقتَحَم، ويُحتمَل أن يكون هذا الخبرُ، وإن كان بلفظ الخبر، فالمراد به النَّهْيُ، وقولُه: (حُفَّت) بالْمُهملة، والفاء من الحِفَاف، وهو ما يُحيط بالشَّيء حتَّى لا يُتوصَّل إليه إلَّا بتَخطِّيه، فالجنَّةُ لا يُتوصَّل إليها إلَّا بقَطع مَفَاوِزِ الْمَكاره، والنَّارُ لا يُنجَّى منها إلَّا بترك الشَّهوات، وقال ابن العربيِّ: معنى الحديث أنَّ الشَّهواتِ جُعِلت على حِفَافَيِ النَّار، وهي جوانبُها، وتَوهَّم بعضُهم أنّها ضُرِب بها الْمَثَلُ، فجَعَلَها في جوانبها من خارجٍ، ولو كان ذلك ما كان مَثَلًا صحيحًا؛ وإنّما هي من داخلٍ، وهذه صورتها المكاره والشّهوات، فمن اطَّلَع الحجاب، فقد واقَعَ ما وراءه، وكلُّ من تصوَّرها من خارج، فقد ضلَّ عن معنى الحديث، ثمَّ قال: فإن قيل: فقد جاء في البخاريِّ «حُجِبت النَّار بالشَّهوات»، فالجواب أنّ المعنى واحد؛ لأنَّ الأعمى عن التَّقوى الّذي قد أَخَذت الشَّهواتُ سَمْعَه وبَصَرَه، يَراها ولا يرى النَّار الَّتي هي فيها؛ وذلك لاستيلاء الجَهَالة والغَفلة على قلبه، فهو كالطَّائر يرى الحبَّة في داخل الفَخِّ، وهي محجوبةٌ به، ولا يرى الفَخَّ؛ لغَلَبة شهوة الحبَّة على قلبه، وتعلُّق بالِه بها. قلتُ: بالَغَ كعادته في تضليلِ من حَمَل الحديث على ظاهره، وليس ما قاله غيرُه ببعيدٍ، وأنّ الشّهواتِ على جانب النّار من خارجٍ، فمَن واقَعَها وخَرَق الحجاب، دَخَل النّار، كما أنّ الّذي قاله القاضي محتمَلٌ، واللّه أعلمُ"[3].
قال ابن عثيمين رحمه الله: "«وحفَّت الجنَّة بالمكاره»، وفي لفظ: «حُجِبت الجنَّة بالمكاره»؛ يعني: أُحِيطت بها، فالنارُ قد أُحيطت بالشَّهوات، والجنَّة قد أُحيطت بالمكاره، والشَّهَوات: هي ما تميل إليه النفس، من غير تعقُّل، ولا تبصُّر، ولا مُراعاة لدِين، ولا مراعاة لِمُروءة؛ فالزِّنى شَهْوةُ الفَرْج، تميل إليها النفس كثيرًا، فإذا هَتَكَ الإنسان هذا الحِجاب، فإنه سيكون سببًا لدخوله النارَ. وكذلك شُرْبُ الخَمر، تهواه النفس، وتميل إليه؛ ولهذا جَعَل الشارع له عقوبةً رادعة بالجَلْدِ، فإذا هَتَك الإنسان هذا الحجابَ وشَرِب الخمر، أدَّاه ذلك إلى النار، وكذلك حبُّ المال، شهوة من شهوات النفس، فإذا سَرَق الإنسان بدافع شَهْوةِ حبِّ جَمْعِ المال، فلِرغبةِ أن يستوليَ على المال الذي ترغبه نفسه، فإذا سَرَق فقد هَتَك هذا الحجاب، فيَصِل إلى النار، ومن ذلك الغشُّ من أجل أن يَزيد ثمن السلعة، هذا تهواه النفس، فيَفعَله الإنسان، فيَهتِك الحجاب الذي بينه وبين النار، فيدخل النار.
الاستطالة على الناس، والعُلُوُّ عليهم، والترفُّع عليهم، كلُّ إنسان يحبُّ هذا، وتهواه النفس، فإذا فَعَله الإنسان، فقد هَتَك الحجاب الذي بينه وبين النار، فيصل إلى النار؛ ولكن ما دواء هذه الشهوة التي تميل إليها النفس الأمَّارة بالسوء؟ دواؤها ما بعدَها، قال: «وحُفَّت الجنَّة بالمكاره» أو «حُجبت بالمكاره»؛ يعني: أُحِيطت بما تَكرَهُه النُّفوس؛ لأن الباطل محبوبٌ للنفس الأمَّارة بالسُّوء، والحقَّ مكروهٌ لها، فإذا تَجَاوز الإنسان هذا المكروه، وأَكرَه نفسه الأمَّارة بالسوء على فعل الواجبات، وعلى ترك المحرَّمات، فحينئذٍ يَصِل إلى الجنَّة. ولهذا تجد الإنسانَ يَستثقِل الصَّلواتِ مثلًا، ولا سيَّما في أيام الشتاء وأيام البَرد، ولا سيَّما إذا كان في الإنسان نومٌ كثير، بعد تَعَب وجَهْدٍ، فتجد الصلاةَ ثقيلةً عليه، ويَكرَه أن يقوم ويَترُك الفِراش اللَّيِّن الدافئ؛ ولكن إن هو كَسَر هذا الحاجبَ، وقام بهذا المكروه، وصل إلى الجنَّة. وكذلك النَّفْسُ الأمَّارة بالسُّوء، تدعو صاحبها إلى الزنى شهوةً، وتحبُّه النفس الأمَّارة بالسوء؛ لكن إذا عَقَلَها صاحبها، وأَكرَهها على تجنُّب هذه الشهوة، فهذا كُره له؛ ولكن هو الذي يوصِله إلى الجنة؛ لأن الجنة حُفَّت بالمكاره؛ فاجتنابُ المحرَّمات مكروهٌ إلى النفوس، وشديدٌ عليها، لا سيَّما مع قوَّة الداعي، فإذا أَكرَهت نفسك على ترك هذه المحرَّمات، فهذا من أسباب دخول الجنة"[4].
قال ابن القيم رحمه الله: "فلولا أنه سبحانه يُداوي عباده بأدوية الْمِحَن والابتلاء، لَطَغَوْا، وبَغَوْا، وعَتَوْا، والله سبحانه إذا أراد بعبد خيرًا، سقاه دَواء من الابتلاء والامتحان على قَدْرِ حاله، يَستفرِغ به من الأدواء المهلِكة، حتى إذا هذَّبه ونقَّاه وصفَّاه، أهَّله لأشرف مراتب الدنيا، وهي عُبوديتُه، وأرفع ثواب الآخرة، وهو رؤيته وقُربه. ومن علاجها: أن يَعلَم أن مرارة الدنيا هي بعَينها حلاوة الآخرة، يَقلِبها الله سبحانه كذلك، وحلاوة الدُّنيا بعينها مرارةُ الآخرة، ولأن ينتقل من مرارة منقطِعة إلى حلاوة دائمة، خيرٌ له من عكس ذلك، فإن خَفِيَ عليكَ هذا، فانظر إلى قول الصادق المصدوق: «حفَّت الجنة بالمكاره، وحفَّت النار بالشهوات»، وفي هذا الْمَقام تَفَاوتَت عقول الخلائق، وظهرت حقائق الرجال؛ فأكثرُهم آثَر الحلاوة المنقطِعة على الحلاوة الدائمة التي لا تَزول، ولم يحتمل مرارة ساعة لحلاوة الأبد، ولا ذُلَّ ساعة لعِزِّ الأبد، ولا محنةَ ساعة لعافية الأبد، فإنَّ الحاضر عنده شَهَادة، والمنتظَر غَيْبٌ، والإيمانَ ضَعيف، وسُلطان الشهوة حاكم، فتَولَّد من ذلك إيثارُ العاجلة، ورفضُ الآخرة، وهذا حال النَّظَر الواقع على ظواهر الأمور، وأوائلها، ومبادئها، وأما النَّظَرُ الثاقب الذي يَخرِق حُجُب العاجلة، ويُجاوزه إلى العواقب والغايات، فله شأنٌ آخَرُ.
فادْعُ نفسك إلى ما أَعَدَّ الله لأوليائه وأهلِ طاعته من النعيم الْمُقيم، والسعادة الأَبَدية، والفوز الأكبر، وما أَعَدَّ لأهل البَطالة والإضاعة من الخِزْيِ والعِقاب والحَسَرات الدائمة، ثم اخْتَرْ أيُّ القِسمينِ أَلْيَقُ بك، وكلٌّ يَعمَل على شاكِلته، وكلُّ أحد يصبو إلى ما يناسِبه، وما هو الأَوْلى به، ولا تَستطِلْ هذا العلاج؛ فشِدَّةُ الحاجة إليه من الطَّبيب والعَليل دَعَت إلى بَسْطِه، وبالله التوفيق"[5].
قال ابن رجب رحمه الله: "فاللهُ سبحانه امتَحَن عباده في هذه الدار بهذه المحرَّمات من الشهوات والشُّبهات، وجعل في النَّفس داعيًا إلى حُبِّها، مع تمكن العبد منها، وقُدرته عليها، فمن أدَّى الأمانة، وحَفِظ حدودَ الله، ومَنَع نفسه ما يُحبُّه من محارم الله، كان عاقبتُه الجنةَ؛ كما قال تعالى:
{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ 40 فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ}
فلذلك؛ يحتاج العبدُ في هذه الدار إلى مُجاهدة عظيمة، يُجاهد نفسه في الله - عزَّ وجلَّ - فمن كانت نفسُه شريفةً، وهِمَّته عاليةً، لم يَرْضَ لها بالمعاصي؛ فإنَّها خيانةٌ، ولا يرضى بالخيانة إلَّا مَن لا نَفْسَ له. قال بعضُ السَّلف: رأيتُ المعاصي نذالةً، فتركتُها مروءةً، فاستحالت دِيانةً. وقال آخَرُ منهم: تركتُ الذنوب حياءً أربعين سنة، ثم أدركني الوَرَع. وقال آخَرُ: مَن عَمِل في السرِّ عَمَلًا يَسْتَحْيِي منه إذا ظهر عليه، فليس لنفسه عنده قَدْرٌ. قال بعضهم: ما أَكرَم العبادُ أنفسهم بمثل طاعة الله، ولا أهانوها بمثل معاصي الله - عزَّ وجلَّ - فمن ارتكب المحارم، فقد أهان نفسه"[6].
المراجع
- "فتح الباري" لابن حجر (11/ 320).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (17/ 165).
- "فتح الباري" لابن حجر (11/ 320، 321).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 87 - 89).
- "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم (4/ 179، 180).
- "مجموع رسائل ابن رجب" (1/ 203).