عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ ، قَالَ: ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قال: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ».

فوائد الحديث

الفوائد العلمية

1. هذا الحديث من الأحاديث الجامعة لقواعد الإسلام[1].

2. الإحسانُ: هو بذلُ جميع المنافع من أيِّ نَوْعٍ كان، لأيِّ مخلوق يَكُون؛ ولكنه يتفاوت بتفاوت المحسَن إليهم، وحقِّهم ومَقامِهم، وبحسَبِ الإحسان، وعِظَم موقعه، وعظيم نفعه، وبحَسَبِ إيمان المحسِن وإخلاصه، والسببِ الداعي له إلى ذلك[2].

3. المقصود الأعظم من خَلْقِ الموت والحياة هو الاختبار؛ ليَظهَر من أَحْسَنُ عملاً؛ قال تعالى:

{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}

[الملك:2]

4. الإحسان المأمور به نوعان؛ أحدهما: واجب، وهو الإنصاف، والقيامُ بما يجب عليك للخلق بحسب ما توجَّه عليك من الحقوق. والثاني: إحسان مستحبٌّ، وهو ما زاد على ذلك من بَذْلِ نفع بَدَنيٍّ، أو ماليٍّ، أو علميٍّ، أو توجيه لخير دينيٍّ، أو مصلحة دنيوية[3].

5. كلُّ معروف صدقة، وكلُّ ما أَدخَل السرورَ على الخَلق صَدَقةٌ وإحسان، وكلُّ ما أزال عنهم ما يَكرَهون، ودَفَع عنهم ما لا يرتضُون من قليلٍ أو كثير، فهو صَدَقة وإحسان[4].

6. يُستعمَل لفظ "الكتابة" في القرآن فيما هو واجبٌ حتمٌ؛ إمّا شرعًا؛ كقوله تعالى:

{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}

[النساء: 103]

وقوله:

{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}

[البقرة: 183]

أو فيما هو واقع قَدَرًا لا محالة؛ كقوله:

{ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}[5]

 [المجادلة: 21]

7. من أجَلِّ أنواع الإحسان: الإحسانُ إلى من أساء إليك بقول أو فعل؛ قال تعالى:

{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}

[فصلت: 34، 35]

8. من كانت طريقتُه الإحسانَ لم يكن له جزاء يُكافئه إلا الإحسان؛

{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}

[الرحمن: ٦٠]

9. الإحسان في العبادة لله تعالى: (أن تعبد الله كأنك تراه)، والإحسان في التعامل مع النفس ألا تُحمِّلها ما لا تُطيق، وتسعى لجعلها مطمئنَّة، والإحسان في التعامل مع الناس كلِّهم؛ مؤمنهم وكافرهم، مَن فوقَك أو من هم أسفلَ منك وتحت يدك، أن تُحسن معاشرة الزوجة والأولاد، بتقويمهم، والتلطُّف معهم، والقيام على شؤونهم، وتلمُّس حاجاتهم، والإحسان في التعامل مع البهائم والدوابِّ، بعدم تحميلها ما لا تُطيق، وإطعامها بما يكفيها، وإحسان ذبحها، والإحسان في التعامل مع الجمادات، بالحفاظ عليها، وهَلُمَّ جرًّا.

10. الإحسان هو فِعْلُ الْحَسَنِ، وهو ضِدُّ القبيح، فيَتَناول الْحَسَنَ شرعًا، والحسنَ عُرْفًا.

11. قوله: «فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ»: هاتان الحالتان من أعجب صور الإحسان، فهذا أَبْعَدُ شيء عن اعتبار الإحسان، وَهُوَ الإحسان في القتل لأيِّ حيوان من آدَمِيٍّ وغيرِه، في حَدٍّ وغيره، حتى إنه ربَّما لا يتصوَّر العقل التوجيهَ لإحسان القتل والذبح؛ فكيف يُتصوَّر الإحسان في إزهاق الروح، وإنهاء الحياة، وفوات النفس؟!

12. الإحسان في قتل ما يجوز قتلُه من النّاس والدّوابِّ يكون بإزهاق نفسه على أسرعِ الوجوه وأسهلِها من غير زيادة في التّعذيب؛ فإنّه إيلامٌ لا حاجة إليه، وهذا النّوع هو الّذي ذكره النّبيُّ ﷺ في هذا الحديث، ولعلَّه ذكره على سبيل المثال، أو لحاجته إلى بيانه في تلك الحال فقال: «إِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ»[6].

13. ظاهر الحديث يقتضي أنّ الله تعالى كتب على كلِّ مخلوق الإحسان، فيكون كلُّ شيء أو كلُّ مخلوق هو المكتوبَ عليه، والمكتوبُ هو الإحسان.

14. الإحسان في الصّبر على المقدورات يكون بالصّبر عليها من غير تسخُّط ولا جزع.

المراجع

  1. ( ) "شرح النوويِّ على مسلم" (13/ 107).
  2.  "بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار" للسعديِّ (ص: 142).
  3. "بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار" للسعديِّ (ص: 142).
  4. "بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار" للسعديِّ (ص: 142).
  5. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 380).
  6. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 382).


الفوائد الفقهية

15. لفظ "الكتابة" يقتضي الوجوبَ عند أكثر الفقهاء والأصوليّين خلافًا لبعضهم؛ فقوله: «كَتَبَ الْإِحْسَانَ»؛ أي: أَوْجَبَه، وقد أمر اللَّهُ تعالى به في كتابه، فقال:

{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ }

[النحل: 90]

وقال:

{وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}

[البقرة: 195]

16. هذا الأمر بالإحسان تارةً يكون للوجوب؛ كالإحسان إلى الوالدينِ والأرحام بمقدار ما يَحصُل به البِرُّ والصِّلة، والإحسانِ إلى الضَّيف بقدر ما يَحصُل به إكرامُه، وتارةً يكون للنَّدب؛ كصدقة التّطوُّع ونحوها[1].

17. حكى ابن حزم الإجماع على وجوب الإحسان في الذَّبيحة، وأسهلُ وجوه قتل الآدميِّ ضَرْبُه بالسَّيف على العُنق؛ قال اللّه تعالى في حقِّ الكفّار:

{ فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ}

[محمد: 4]

 وقد قيل: إنّه عيَّن الموضع الّذي يكون الضّرب فيه أسهلَ على المقتول، وهو فوق العظام ودون الدِّماغ، ووصَّى دُرَيْدُ بنُ الصِّمَّة قاتله أن يقتله كذلك[2].

18. يجب إحسانُ هَيئة وصورة ذبح الحيوان المأكول، بأن تَجتهِدوا في ذلك، بالرِّفق به، فلا تعذِّبوه بجرِّه لمكان الذبح، ولا تجعلوا البهائم ترى ما يُذبَح، ولا تجعلوه يتألَّم أثناء الذبح، ولا تبدؤوا بتقطيع الذبيحة وسلخها قبل أن تموت وتَخرُج رُوحها، ولتفعلوا ما يساعد على خروج الروح بسرعة، وذلك بقطع الوَدَجَيْنِ والحُلْقُوم والْمَرِّيء، فقطع هذه الأربعةِ الأشياءِ جميعًا أسهلُ بخروج الروح، وأيسر على هذه البهيمة، وإن كان يُجزئ قطع اثنين منهما، فإن ذلك قد يُؤلمها ويُتعبها ويجعلها تعاني في زهوق الروح، وتركها إلى أن تَبرُد.

19. هذا الحديث يدلُّ على وجوب الإحسان في كلِّ شيء من الأعمال؛ لكنّ إحسان كلِّ شيء بحسَبِه، فالإحسانُ في الإتيان بالواجبات الظّاهرة والباطنة يكون بالإتيان بها على وجه كمال واجباتها، فهذا الَقْدر من الإحسان فيها واجب، وأمّا الإحسان فيها بإكمال مستحبَّاتها فليس بواجب؛ فمثلاً: الإحسان الواجب في معاملة الخلق ومعاشرتهم يكون بالقيام بما أوجب اللّه من حقوق ذلك كلِّه، والقدر الزّائد على ذلك إحسان ليس بواجب[3].

20. الإحسان في ترك المحرَّمات يكون بالانتهاء عنها، وترك ظاهرها وباطنها؛ كما قال تعالى:

{وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ}

[الأنعام: 120]

فهذا القَدْر من الإحسان فيها واجب، والقدر الزّائد على ذلك إحسان ليس بواجب[4]. 

21. «فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ»: فيه دليل على نَفْيِ الْمُثْلَة مُكافأةً بالنسبة للآدميين قصاصًا، أو حدًّا، فلا يجوز التنكيل بالقتيل والْمُثْلَة بجُثَّته، وقد قال تعالى في القصاص:

{وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ ۖ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا}

[الإسراء: 33]

فلا يُسرف في القتل بأن يقتصَّ من غير القاتل، ولا ينكِّل بالقاتل، ولا يعذِّبه، ولا يُمثِّل به، ولا يتشفَّى منه؛ إلَّا أنه يُحتمَل أنه مُخَصَّص بقوله:

{فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ}[5]

[البقرة: 194]

فيُستثنى من الحديث القصاصُ وحدُّ الرجم للزاني الْمُحصَن، ففي القصاص يُفعل بالجاني كما فَعَل بالمقتول، ودليلُ ذلك قصَّة اليهوديِّ الذي رضَّ رأس الجارية، فأمر النبيُّ ﷺ أن يُرَضَّ رأسُه بين حجرين[6].

المراجع

  1. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 381).
  2. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 382).
  3. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 381، 382).
  4. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 382).
  5. "سبل السلام" للصنعانيِّ (2/ 527).
  6. رواه البخاريُّ (2413)، ومسلم (1672).


الفوائد العقدية

22. كتابة الله تعالى نوعان: كتابةٌ قَدَرية، وكتابةٌ شرعية، فالكتابةُ القَدَرية لابدَّ أن تقع؛ مثل 

قاله تعالي

{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}

[الأنبياء: ١٠٥]

والكتابةُ الشرعية قد تقع من بني آدَمَ وقد لا تَقَع؛ مثل حديث الباب[1].

المراجع

  1. "شرح الأربعين النووية" لابن عثيمين (ص: 186).


الفوائد اللغوية

23. الْقِتْلَةُ وَالذِّبْحَةُ بالكسر على وزن (فِعْلة) اسم هيئة، والمعنى: أحسنوا هيئة الذَّبْح، وهيئة القتل، وهذا يَدُلُّ على وجوب الإسراع في إزهاق النفوس التي يُباح إزهاقها على أسهل الوجوه.

24. «وَلْيُحِدَّ» هو بضمِّ الياء، والفعلُ مجزومٌ بعد لام الأمر بالسكون على الدال الْمُدغَمة في مثلها، فلا تَظهَر السكون بسبب الإدغام، ويجوز في اللغة فكُّ الإدغام (ولْيُحْدِدْ). يُقَالُ: أَحَدَّ السِّكِّينَ وحَدَّدها واستَحدَّها بمعنى.

مشاريع الأحاديث الكلية