سبب الحديث:
اشْتَهَرَ أَنَّ سَبَبَ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «مَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا»: أن رجلاً خَطَبَ امرأة يقال لها: أَمُّ قَيْسٍ، فَأَبَتْ أن تتزوَّجه حتى يُهاجِرَ، فهاجر، فتزوَّجته، فكانوا يسمُّونه (مُهَاجِرَ أَمِّ قَيْسٍ) [1].
المراجع
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 74).
المعنى الإجماليُّ للحديث:
يروي عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ عن رَسُولُ اللهِ ﷺ أنه قال: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ»؛ أي: الأعمال لا يُعتدُّ بها ولا تصحُّ شرعًا إلا بنيَّة. «وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى»؛ أي: إنه لا يَحْصُلُ للمرء مِنْ عَمَله إلَّا مَا نَوَاه به، فَإِنْ نَوَى خَيْرًا، حصل له خيرٌ، وَإِن نَوَى به شَرًّا، حَصَلَ له شَرٌّ. «فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِـهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِـهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»؛ أي: مَن قصد بهجرته من دار الكفر أو الخوف إلى دار الإسلام أو الأمن وجهَ الله، وقَع أجرُه على الله، ومن قَصَد بهجرته مَكسَبًا دنيويًّا؛ كالزواج بامرأة، فلا أجرَ له عند الله.
الشرح المفصَّل للحديث:
بيَّن النبيُّ ﷺ في هذا الحديث أن الأعمال إنما يرتفع شأنها ويَعظُم أجرها بالنيَّة، فقال : «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ»؛ أي: إن ثوابها وفضلَها يعود إلى نيَّة صالحة وإرادة صادقة، والمراد بالأعمال هنا: "أعمالُ الجوارح كلُّها، حتى تَدخُل في ذلك الأقوال؛ فإنها من عَمَل اللسان، وهو من الجوارح"، فالأعمالُ مرتبطةٌ ارتباطًا وثيقًا بالنيَّات، فلا يغترَّ إنسانٌ بحُسن علانيَته مع سوء سَريرته؛ فإنما يثاب الإنسان بنيَّته، "والنيَّة في اللغة: نوعٌ من القصد والإرادة، وفي كلام العلماء تقع بمعنيين: أحدهما: بمعنى تمييز العبادات بعضِها عن بعض؛ كتمييز صلاة الظهر من صلاة العصـر مثلًا، وتمييز صيام رمضان من صيام غيره، أو تمييز العبادات من العادات؛ كتمييز الغُسل من الجنابة من غُسل التبرُّد والتنظُّف، ونحو ذلك، والمعنى الثاني: بمعنى تمييز المقصود بالعمل، وهل هو اللهُ وحدَه لا شريكَ له، أم غيره، أم اللهُ وغيره"[1]، ولربما كانت نيَّةُ الْمَرْءِ خيرًا من عَمَله، ويَشهَد لذلك حديث النبيِّ ﷺ:
«مَثَلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، كَمَثَلِ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ؛ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا، فَهُوَ يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ فِي مَالِهِ، يُنْفِقُهُ فِي حَقِّهِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا، وَلَمْ يُؤْتِهِ مَالًا، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ هَذَا عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ الَّذِي يَعْمَلُ »، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «فَهُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ.....»[2]
فهذا رجلٌ لم يَبذُل جهدًا أو يقدِّم عملًا، أثابه الله عزَّ وجلَّ بنيَّته، ورفع أجره إلى مرتبة العاملين المنفِقين؛ فـ"رُبَّ عمل صغير تُعظّمه النية، ورُبَّ عملٍ كبير تصغِّره النية"[3]، فالأمر المعوَّل عليه في الأعمال كلِّها هو النيَّة، وأشار النبيُّ ﷺ إلى هذا المعنى بقوله:
«إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ؛ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ»
فالله تعالى إنما يَنظُر إلى القلوب؛ لأنها مَظِنَّة النيَّة. وأكثرُ من ذلك، فإن الإنسان يُضاعَفُ أجرُه وثوابُه على قدر نيَّاته، فمن دَخَل إلى مسجد يريد الصلاة ونَوَى بدخوله انتظارَ الصلاة واعتكافًا في المسجد، وذِكْرَ اللهَ، وكفَّ جوارِحِه عن المعاصي، وخَلْوةً مع الله - فإنه يُثاب على هذه النيَّات كلِّها، وأكَّد النبيُّ ﷺ هذا المعنى بقوله: «وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى» تأكيدًا لما قبله، وأن المرء يؤجَر بنيَّته، وليس في هذه الجملة تكريرٌ لما سبق من قوله ﷺ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ»؛ بل مُفاد الأولى: أن صلاح الأعمال وقَبولها متوقِّف على النيَّة، ومُفادُ الثانية: أن ثواب العبد وعقابه بحسب نيَّته، صالحةً كانت أو فاسدة.
ثم ضرب النبيُّ ﷺ مثالاً على ذلك فقال: «فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِـهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِـهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»؛ أي: مَن قصد بهجرته من مكَّةَ إلى المدينة المنوَّرة وجهَ الله، وقَع أجرُه على الله، ومن قَصَد بهجرته مَكسَبًا دنيويًّا، أو الزواج بامرأة، فهي حظُّه ومكسبُه، ولا َنصيبَ له في الآخرة.
"والهجرةُ بمعنى الترك والهجرةِ إلى الشـيء: الانتقالُ إليه عن غيره، وفي الشـرع: تركُ ما نهى الله عنه، وقد وقعت في الإسلام على وجهين؛ الأول: الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن؛ كما في هجرتَيِ الحبشة وابتداء الهجرة من مكَّةَ إلى المدينة، والثاني: الهجرةُ من دار الكفر إلى دار الإيمان، وذلك بعد أن استقرَّ النبيُّ ﷺ بالمدينة وهاجر إليه مَن أَمكَنه ذلك من المسلمين، وكانت الهجرة إذ ذاك تختصُّ بالانتقال إلى المدينة، إلى أن فُتحت مكةُ، فانقطع الاختصاص، وبقيَ عموم الانتقال من دار الكفر لمن قَدَر عليه باقيًا"[5].
فالإنسان قد يجتهد ويَبذُل كثيرًا من المشقَّة يَقصِد بذلك غيرَ وجه الله، فيكون عمله محبَطًا، وسببًا في هلاكه؛ فرُبَّ عمل صالح أُريد به ثناءُ الناس واستحسانهم لعمله كان سببًا في هلاك صاحبه ودخوله النار؛
ففي الحديث أن رَسُولَ ﷺ قال:
«إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَـى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ؛ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ، وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ، وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ؛ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ؛ وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ»[6]
فهذه الخصال من أفضل الأعمال وأعظمِها ثوابًا وأحبِّها إلى الله، ومع ذلك أَدخَلت صاحبها النار
«مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ، لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا، لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
يَعْنِي رِيحَهَا[7]، والسبب في هذا الوعيدِ الشديد: أن الله عزَّ وجلَّ غنيٌّ عن مثل هذه الأعمال التي يُشرَك فيها مع الله غيرُه
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ»[8]
فالله عزَّ وجلَّ لا يَقبَل من العمل إلا ما أُريد به وجهُه، فـ"قولوا لمن لم يكن صادقًا لا تتعب"[9].
ولِعَظم أمر النيَّة وخطورتها؛ فإنها تحتاج إلى مِران وتعلُّم؛ ولهذا رُوي عن السَّلف أنهم كانوا لا يعملون ولا يقولون حتى تتقدَّم النيَّة وتصحُّ[10]، فالواجب على المؤمن أن يدرِّب نفسه على تصحيح النيَّة في أعماله، وأن يَصبِر على المشاقِّ التي تواجهه في سبيل تحصيل ذلك؛ فالأمر ليس بالهيِّن اليسير؛ بل يحتاج إلى صبر وتصبُّر، وقد كان السلف الصالح رضوان الله عليهم يتعهَّدون قلوبهم حتى يُخلصوا نيَّاتِهم؛ "كانوا يتعلَّمون النيَّة للعمل كما تتعلَّمون العمل"[11]، فلو صَلَحت نيَّة المرء، أعانه الله تعالى على عمله، حتى وإن لم يتيسَّـر له أسبابه.
فـ"اعلم أن عون الله تعالى للعبد على قدر النيَّة، فمن تمَّت نيَّته، تمَّ عَوْنُ الله له، وإن نَقَصت نَقَص بقَدْرِه"[12].
المراجع
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/66).
- رواه أحمد (18024)، وابن ماجه (4228)، وصححه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (16).
- هذا قول عبدالله بن المبارك. انظر: "البحر المحيط الثجاج" للولوي (32/606).
- رواه مسلم (2564).
- "فتح الباري" لابن حجر (1/16).
- رواه مسلم (1905).
- رواه أحمد (8457)، وأبو داود (3664)، وابن ماجه (252)، وصححه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (105).
- رواه مسلم (2985).
- "تلبيس إبليس" لابن الجوزيِّ (137).
- "صيد الخاطر" لابن الجوزيِّ (481).
- "إحياء علوم الدين" لأبي حامد الغزاليِّ (4/364).
- "إحياء علوم الدين" لأبي حامد الغزاليِّ (4/364).
النقول:
1. قال ابن تيمية رحمه الله: "هذا حديث صحيح متَّفَقٌ على صحَّته، تلقَّته الأمَّة بالقَبول والتَّصديق مع أنّه من غرائب الصَّحيح؛ فإنّه وإن كان قد رُوِي عن النّبيِّ ﷺ من طرق متعدِّدة كما جمعها ابن منده وغيرُه من الحفَّاظ، فأهل الحديث متَّفقون على أنّه لا يصحُّ منها إلّا من طريق عمرَ بنِ الخطَّاب هذه المذكورةِ، ولم يَرْوه عنه إلَّا علقمةُ بنُ وقَّاص الليثيُّ، ولا عن علقمةَ إلّا محمّدُ بنُ إبراهيمَ، ولا عن محمّدٍ إلّا يحيى بنُ سعيدٍ الأنصاريُّ قاضي المدينة، ورواه عن يحيى بنِ سعيد أئمَّة الإسلام. يُقال: إنَّه روى هذا الحديث عن يحيى بنِ سعيدٍ نحوٌ من مِائتَيْ عالم مثلِ مالك، والثّوريِّ، وابن عُيَيْنةَ، وحمَّاد، وعبد الوهَّاب الثَّقَفيِّ، وأبي خالدٍ الأحمر، وزائدةَ، ويحيى بنِ سعيدٍ القطَّان، ويزيدَ بنِ هارونَ، وغيرُ هؤلاء خَلْقٌ من أهل مكَّةَ والمدينة والكوفة والبصرة والشّام وغيرها من شيوخ الشّافعيِّ وأحمدَ وإسحاقَ وطبقتهم، ويحيى بنِ مَعين، وعليِّ بنِ المدينيِّ، وأبي عُبيد[1].
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "هذا حديث صحيح متَّفَقٌ على صحته وعظيم موقعه، وجلالته وكثرة فوائده، رواه الإمام أبو عبد الله البخاريُّ في غير موضع من كتابه، ورواه أبو الحُسين مسلمُ بنُ الحجَّاج في آخِر كتاب الجهاد، وهو أحد الأحاديث التي عليها مَدَارُ الإسلام، قال الإمام أحمدُ والشافعيُّ رحمهما الله: يدخل في حديث (الأعمال بالنيات) ثُلث العلم. قاله البيهقيُّ وغيره؛ وسببُ ذلك أن كسب العبد يكون بقلبه ولسانه وجوارحه، والنيَّة أحد الأقسام الثلاثة. ورُوي عن الشافعيِّ رضي الله تعالى عنه أن قال: يَدخُل هذا الحديثُ في سبعين بابًا من الفقه. وقال جماعة من العلماء: هذا الحديث ثُلث الإسلام.
واستحبَّ العلماء أن تُستفتَح المصنَّفات بهذا الحديث، وممن ابتدأ به في أول كتابه: الإمام أبو عبد الله البخاريُّ. وقال عبد الرحمن بن مهديٍّ: ينبغي لكلِّ من صنَّف كتابًا أن يبتدئ فيه بهذا الحديث؛ تنبيهًا للطالب على تصحيح النيَّة.
وهذا حديث مشهور بالنسبة إلى آخره، غريبٌ بالنسبة إلى أوَّله؛ لأنه لم يَرْوِه عن النبيِّ ﷺ إلا عمرُ بنُ الخطَّاب - رضي الله عنه - ولم يَرْوِه عن عمرَ إلا علقمةُ بنُ أبي وقَّاص، ولم يَروِه عن علقمةَ إلا محمدُ بنُ إبراهيمَ التيميُّ، ولم يَروِه عن محمدِ بنِ إبراهيمَ إلا يحيى بنُ سعيدٍ الأنصاريُّ، ثم اشتَهَر بعد ذلك، فرواه عنه أكثرُ من مِائتي إنسان، أكثرُهم أئمَّةٌ"[2].
قال ابن تيمية رحمه الله: "ولفظ (النّيَّة) يُراد بها النّوع من المصدر، ويُراد بها الْمَنْويُّ (اسم المفعول)، واستعمالها في هذا لعلَّه أغلب في كلام العرب، فيكون المراد: إنّما الأعمال بحسب ما نواه العامل؛ أي: بحسب منويِّه؛ ولهذا قال في تمامه: «فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ»، فذَكَر ما ينويه العامل ويُريده بعمله، وهو الغاية المطلوبة له؛ فإنّ كلَّ متحرِّك بالإرادة لا بدَّ له من مراد"[3].
قال ابن رجب رحمه الله: "وبهذا يُعْلَمُ معنى ما رَوى الإمامُ أَحْمَدُ أَنَّ أُصُولَ الْإِسْلَامِ ثَلَاثَةُ أَحَادِيثَ: حَدِيثُ: «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»، وَحَدِيثُ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ، فَهُوَ رَدٌّ،»، وَحَدِيثُ: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ»؛ فَإِنَّ الدِّينَ كُلَّهُ يَرْجِعُ إلى فِعل المأمورات، وَتَرْكِ المحظورات، وَالتَّوَقُّفِ عن الشُّبُهَاتِ، وهذا كُلُّهُ تَضَمَّنَهُ حَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ.
وَإِنَّمَا يَتِمُّ ذلك بأمرين: أحدُهما: أن يكون العملُ في ظاهره على مُوَافَقَةِ السُّنّة، وهذا هو الذي تَضَمَّنَهُ حديثُ عائشةَ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ، فَهُوَ رَدٌّ»، والثاني: أن يكون العملُ في باطنه يُقصَد به وجهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، كما تَضَمَّنه حديثُ عُمَرَ: «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّات»، وقال الفُضيل في قوله تعالى:
{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}
قال: أَخلَصُه وأَصوَبه. وقال: إنّ العمل إذا كان خالصًا، ولم يكن صوابًا، لم يُقبَل، وإذا كان صوابًا، ولم يكن خالصًا، لم يُقبَل حتّى يكون خالصًا وصوابًا. قال: والخالصُ إذا كان للّه عزَّ وجلَّ، والصَّوابُ إذا كان على السُّنَّة... وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: إِنَّمَا تَفَاضَلُوا بِالْإِرَادَاتِ، وَلَمْ يَتَفَاضَلُوا بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ"[4].
قال ابن تيمية رحمه الله: "وهذا الحديثُ من أَجمَع الكَلِم الجوامعِ الّتي بُعث بها ﷺ؛ فإنَّ كلَّ عمل يعمله عامل من خير وشرٍّ هو بحسَبِ ما نواه، فإن قَصَد بعمله مقصودًا حسنًا، كان له ذلك المقصود الحسَنُ، وإن قصد به مقصودًا سيِّئًا، كان له ما نَوَاه"[5].
قال ابن حجر رحمه الله: "والهجرةُ بمعنى الترك والهجرةِ إلى الشـيء: الانتقالُ إليه عن غيره، وفي الشـرع: تركُ ما نهى الله عنه، وقد وقعت في الإسلام على وجهين؛ الأول: الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن؛ كما في هجرتَيِ الحبشة وابتداء الهجرة من مكَّةَ إلى المدينة، والثاني: الهجرةُ من دار الكفر إلى دار الإيمان، وذلك بعد أن استقرَّ النبيُّ ﷺ بالمدينة وهاجر إليه مَن أَمكَنه ذلك من المسلمين، وكانت الهجرة إذ ذاك تختصُّ بالانتقال إلى المدينة، إلى أن فُتحت مكةُ، فانقطع الاختصاص، وبقيَ عموم الانتقال من دار الكفر لمن قَدَر عليه باقيًا"[6].
قال ابن تيمية رحمه الله: "ولفظُ (النّيّة) يجري في كلام العلماء على نوعين: فتارةً يريدون بها تمييز عمل من عمل، وعبادةٍ من عبادة، وتارةً يريدون بها تمييزَ معبود عن معبود، ومعمولٍ له عن معمول له. فالأوَّل كلامهم في النّيّة: هل هي شرطٌ في طهارة الأحداث؟ وهل تُشترط نيَّة التّعيين والتَّبْيِيت في الصّيام؟ وإذا نوى بطهارته ما يُستحَبُّ لها، هل تَجْزِيه عن الواجب؟ أو أنّه لا بدَّ في الصّلاة من نيَّة التّعيين؟ ونحو ذلك، والثّاني: كالتّمييز بين إخلاص العمل للّه وبين أهل الرّياء والسُّمعة"[7].
قال ابن رجب رحمه الله: "وقد اختُلف في تقدير قوله: «الأعمال بالنّيّات»، فكثير من المتأخّرين يزعم أنّ تقديره: الأعمالُ صحيحةٌ أو معتبَرة ومقبولة بالنّيَّات، وعلى هذا؛ فالأعمال إنّما أريد بها الأعمال الشّرعيّةُ المفتقِرة إلى النّيّة، فأمّا ما لا يَفتقِر إلى النّيّة؛ كالعادات من الأكل والشُّرب، واللُّبس وغيرها، أو مثل ردِّ الأمانات والمضمونات؛ كالودائع والغصوب، فلا يحتاج شيء من ذلك إلى نيَّة، فيُخصُّ هذا كلُّه من عموم الأعمال المذكورة هاهنا.
وقال آخرون: بل الأعمالُ هاهنا على عُمومها، لا يُخصُّ منها شيء. وحكاه بعضهم عن الجمهور، وكأنّه يريد به جمهور المتقدِّمين، وقد وقع ذلك في كلام ابن جرير الطّبريِّ، وأبي طالب المكّيِّ وغيرهما من المتقدِّمين، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد. قال في رواية حنبلٍ: أُحِبُّ لكلِّ مَن عَمِل عملًا من صلاة، أو صيام، أو صدقة، أو نوع من أنواع البرِّ أن تكون النّيّةُ متقدِّمةً في ذلك قبل الفعل؛ قال النّبيُّ ﷺ: «الأعمال بالنّيّات»، فهذا يأتي على كلِّ أمر من الأمور.
وقال الفَضل بنُ زياد: سألتُ أبا عبد اللّه - يعني أحمدَ - عن النّيّة في العمل، قلت: كيف النّيّة؟ قال: يعالج نفسه، إذا أراد عملًا لا يريد به النّاس. وقال أحمدُ بنُ داودَ الحربيُّ: قال: حدَّث يَزيدُ بنُ هارونَ بحديث عمرَ: «الأعمال بالنّيّات»، وأحمدُ جالس، فقال أحمدُ ليزيدَ: يا أبا خالد، هذا الخِنَاق. وعلى هذا القول فقيل: تقدير الكلام: الأعمال واقعةٌ أو حاصلة بالنّيّات، فيكون إخبارًا عن الأعمال الاختياريّة أنّها لا تقع إلّا عن قصد من العامل هو سببُ عملها ووجودها، ويكون قوله بعد ذلك: «وإنّما لكلّ امرئ ما نوى» إخبارًا عن حكم الشّرع، وهو أنّ حظَّ العامل من عمله نيَّته، فإن كانت صالحةً، فعمله صالح، فله أجره، وإن كانت فاسدةً، فعمله فاسد، فعليه وِزره. ويُحتمل أن يكون التّقدير في قوله: «الأعمال بالنّيّات»: الأعمالُ صالحةٌ، أو فاسدة، أو مقبولة، أو مردودة، أو مُثاب عليها، أو غير مثاب عليها بالنّيّات، فيكون خبرًا عن حكم شرعيٍّ، وهو أنّ صلاح الأعمال وفسادها بحسب صلاح النّيّات وفسادها؛ كقوله: ﷺ «إنّما الأعمال بالخواتيم»؛ أي: إنّ صلاحها وفسادها وقبولها وعدمه بحسب الخاتمة. وقوله بعد ذلك: «وإنّما لكلّ امرئ ما نوى» إخبار أنّه لا يحصل له من عمله إلّا ما نواه به، فإن نوى خيرًا حصل له خير، وإن نوى به شرًّا حصل له شرٌّ، وليس هذا تكريرًا محضًا للجملة الأولى؛ فإنّ الجملة الأولى دلّت على أنّ صلاح العمل وفساده بحسب النّيّة الْمُقتضية لإيجاده، والجملة الثّانية دلّت على أنّ ثواب العامل على عمله بحسب نيَّته الصّالحة، وأنّ عقابه عليه بحسب نيّته الفاسدة، وقد تكون نيّته مباحةً، فيكون العمل مباحًا، فلا يَحصُل له ثواب ولا عقاب، فالعمل في نفسه صلاحه وفساده وإباحته بحسب النّيّة الحاملة عليه، المقتضية لوجوده، وثواب العامل وعقابه وسلامته بحسب النّيّة الّتي بها صار العمل صالحًا، أو فاسدًا، أو مباحًا"[8].
قال ابن بطَّال رحمه الله: "قال المؤِّلف: غرضُه في هذا الباب أيضًا الردُّ على من زعم من المرجئة أن الإيمان قول باللسان دون عقد بالقلب؛ ألا ترى أنه ﷺ لم يقتصر على قوله: «الأعمال بالنيات، ولكل امرئٍ ما نوى»، وإن كان ذلك كافيًا في البيان عن أن كلَّ ما لم تَصحَبْه نيَّة من الأعمال فهو ساقط غير معتدٍّ به، حتى أكَّد ذلك ببيان آخَرَ فقال: «من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه»[9].
قال ابن رجب رحمه الله: "واعلم أنّ النّيّة في اللّغة نوعٌ من القصد والإرادة، وإن كان قد فُرِّق بين هذه الألفاظ بما ليس هذا موضعَ ذِكْرِه. والنّيّة في كلام العلماء تقع بمعنيين: أحدُهما: بمعنى تمييز العبادات بعضِها عن بعض؛ كتمييز صلاة الظُّهر من صلاة العصر مثلًا، وتمييز صيام رمضانَ من صيام غيره، أو تمييز العبادات من العادات؛ كتمييز الغُسل من الجنابة من غسل التّبرُّد والتّنظُّف، ونحو ذلك، وهذه النّيّة هي الّتي توجد كثيرًا في كلام الفقهاء في كتبهم. والمعنى الثّاني: بمعنى تمييز المقصود بالعمل، وهل هو اللّه وحده لا شريك له، أم غيره، أم اللّه وغيره؟ وهذه النّيّة هي الّتي يتكلَّم فيها العارفون في كتبهم في كلامهم على الإخلاص وتوابعه، وهي الّتي توجد كثيرًا في كلام السَّلَف المتقدِّمين. وقد صنَّف أبو بكر بنُ أبي الدّنيا مصنَّفًا سمَّاه: كتاب "الإخلاص والنّيّة"، وإنّما أراد هذه النّيّة، وهي النّيّة الّتي يتكرَّر ذكرها في كلام النّبيِّ ﷺ تارةً بلفظ النّيّة، وتارةً بلفظ الإرادة، وتارةً بلفظ مقارب لذلك، وقد جاء ذكرها كثيرًا في كتاب اللّه عزّ وجلّ بغير لفظ النّيّة أيضًا من الألفاظ المقاربة لها. وإنّما فرَّق من فرّق بين النّيّة وبين الإرادة والقصد ونحوهما؛ لظنّهم اختصاصَ النّيّة بالمعنى الأوّل الّذي يذكره الفقهاء، فمنهم من قال: النّيّة تختصُّ بفعل النّاوي، والإرادة لا تختصُّ بذلك، كما يريد الإنسان من اللّه أن يغفر له، ولا ينوي ذلك. وقد ذكرنا أنّ النّيّة في كلام النّبيِّ ﷺ وسلف الأمّة إنّما يُراد بها هذا المعنى الثّاني غالبًا، فهي حينئذ بمعنى الإرادة؛ ولذلك يعبَّر عنها بلفظ الإرادة في القرآن كثيرًا
{مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ}
{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ}
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ۖ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} " [10].
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "ولفظةُ "إنما" للحصر، تُثبِت المذكورَ، وتنفي ما عداه، وهي تارةً تقتضي الحصرَ المطلَق، وتارة تقتضي حصرًا مخصوصًا، ويُفهم ذلك بالقرائن
{إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ}
فظاهره الحصرُ في النِّذارة، والرسول لا يَنحصِر في ذلك؛ بل له أوصافٌ كثيرة جميلة؛ كالبِشارة وغيرها
{إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ}
فظاهرُه - والله أعلم – الحصرُ، باعتبار مَن آثَرَها، وأما بالنسبة إلى ما في نفس الأمر، فقد تكون سببًا إلى الخيرات، ويكون ذلك من باب التغليب، فإذا وردت هذه اللفظة، فاعتبرها، فإن دلَّ السياق والمقصودُ من الكلام الحصر في شيءٍ مخصوص، فقل به، وإلا فاحمل الحصر على الإطلاق، ومن هذا قوله ﷺ: «إنما الأعمال بالنيات»، والمراد بالأعمال: الأعمالُ الشرعية. ومعناه: لا يُعتدُّ بالأعمال بدون النية؛ مثل الوضوء والغسل والتيمُّم، وكذلك الصلاةُ والزكاة والصوم والحجُّ والاعتكاف وسائر العبادات، فأما إزالة النجاسة، فلا تحتاج إلى نيَّة؛ لأنها من باب الترك، والتركُ لا يحتاج إلى نيَّة، وذهب جماعة إلى صحة الوضوء والغُسل بغير نيَّة. وفي قوله: «إنما الأعمال بالنيات» محذوفٌ، واختَلَف العلماء في تقديره، فالذين اشترطوا النيَّة قدَّروا: صحَّة الأعمال بالنيَّات، والذين لم يشترطوها قدَّروا: كمالُ الأعمال بالنيَّات. وقوله: «وإنما لكل امرئ ما نوى». قال الخطَّابيُّ: يُفيد معنًى خاصًّا غير الأول، وهو تعيين العمل بالنيَّة، وقال الشيخ محي الدين النوويُّ: فائدة ذكره أن تعيين المنويِّ شرطٌ، فلو كان على إنسان صلاة مَقضيَّة، لا يكفيه أن ينويَ الصلاة الفائتة؛ بل يُشترَط أن ينويَ كونَها ظُهرًا أو عصرًا أو غيرَهما، ولولا اللفظُ الثاني، لاقتضى الأوَّلُ صحة النيَّة بلا تعيين، أو أَوهَم ذلك، والله أعلم"[11].
قال ابن رجب رحمه الله: "وعن يَحْيَى بنِ أبي كَثِيرٍ، قال: تعلَّموا النّيَّة؛ فإنّها أبلغ من العمل. وعن زُبَيد الياميِّ، قال: إنّي لأحبُّ أن تكون لي نيّة في كلِّ شيء، حتّى في الطّعام والشّراب. وعنه أنّه قال: انوِ في كلّ شيء تريده الخير، حتّى خروجِك إلى الكُنَاسة. وعن داودَ الطّائيِّ، قال: رأيتُ الخير كلَّه إنّما يجمعه حُسن النّيّة، وكفاك بها خيرًا وإن لم تنصَب. قال داودُ: والبرُّ هِمَّة التَّقِيِّ، ولو تعلَّقت جميع جوارحه بحبِّ الدّنيا، لردَّته يومًا نيَّته إلى أصله. وعن سفيان الثّوريِّ، قال: ما عالجت شيئًا أشدَّ عليَّ من نيَّتي؛ لأنّها تنقلب عليَّ. وعن يوسفَ بنِ أسباطٍ، قال: تخليص النّيّة من فسادها أشدُّ على العاملين من طول الاجتهاد.
وعن مطرِّف بن عبد اللّه قال: صلاح القلب بصلاح العمل، وصلاحُ العمل بصلاح النّيَّة. وعن بعض السّلف قال: من سَرَّه أن يَكمُل له عملُه، فليُحسِنْ نيّته؛ فإنّ اللّه عزّ وجلَّ يَأجُر العبد إذا حَسُنت نيّته حتّى باللُّقْمة. وعن ابن المبارك، قال: رُبَّ عمل صغير تعظِّمه النّيّة، وربَّ عمل كبير تصغِّره النّيّة. وقال ابن عجلانَ: لا يصلح العمل إلّا بثلاث: التّقوى للّه، والنّيّة الحسنة، والإصابة. وقال الفُضيل بن عياض: إنّما يريد اللّه عزّ وجلّ منك نيّتك وإرادتك. وعن يوسف بن أسباط، قال: إيثار اللّه عزّ وجلّ أفضلُ من القتل في سبيله. خرَّج ذلك كلّه ابن أبي الدّنيا في كتاب "الإخلاص والنّيّة". وروى فيه بإسناد منقطع عن عمر رضي اللّه عنه، قال: أفضلُ الأعمال أداء ما افترض اللّه عزّ وجلّ، والورع عمَّا حرَّم اللّه عزّ وجلّ، وصِدق النّيّة فيما عند اللّه عزّ وجلّ"[12].
قال القاضي عياض رحمه الله: "قال بعض شيوخنا: قوله: «إنما الأعمال بالنيات» يرجع إلى معنيين؛ أحدهما: تجريد العمل من الشرك بالله بخالص التوحيد، والآخر: تجريده بخالص السنَّة"[13].
قال ابن تيمية رحمه الله: " وقد اتَّفق العلماء على أنّ العبادة المقصودة لنفسها كالصّلاة والصّيام والحجِّ، لا تَصِحُّ إلّا بنيّة، وتنازعوا في الطّهارة"[14].
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "وقوله: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله»: المتقرِّر عند أهل العربية: أن الشرط والجزاء والمبتدأ والخبر لا بدَّ أن يتغايرا، وههنا قد وقع الاتِّحاد، وجوابُه: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله» نيَّةً وقصدًا، «فهجرتُه إلى الله ورسوله» حُكمًا وشرعًا"[15].
قال ابن رجب رحمه الله: "وَقَوْلُهُ ﷺ: «فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»: لَمّا ذَكَر ﷺ أنّ الأعمال بحسب النّيّات، وأنّ حظَّ العامل من عمله نيَّته من خير أو شرٍّ، وهاتان كلمتان جامعتان، وقاعدتان كلّيَّتان، لا يخرج عنهما شيء، ذكر بعد ذلك مثالًا من أمثال الأعمال الّتي صورتها واحدة، ويختلف صلاحها وفسادها باختلاف النّيّات، وكأنّه يقول: سائر الأعمال على حذو هذا المثال. وأصل الهجرة: هجران بلد الشِّرك، والانتقال منه إلى دار الإسلام، كما كان المهاجرون قبل فتح مكّة يهاجرون منها إلى مدينة النّبيِّ ﷺ، وقد هاجر من هاجر منهم قبل ذلك إلى أرض الحبشة إلى النّجاشيِّ، فأخبر ﷺ أنّ هذه الهجرة تختلف باختلاف النّيّات والمقاصد بها، فمن هاجر إلى دار الإسلام حبًّا للّه ورسوله، ورغبةً في تعلّم دين الإسلام، وإظهار دينه حيث كان يَعجِز عنه في دار الشّرك، فهذا هو المهاجر إلى اللّه ورسوله حقًّا، وكفاه شرفًا وفخرًا أنّه حصل له ما نواه من هجرته إلى اللّه ورسوله. ولهذا المعنى اقتصر في جواب هذا الشّرط على إعادته بلفظه؛ لأنّ حصول ما نواه بهجرته نهاية المطلوب في الدّنيا والآخرة. ومن كانت هجرته من دار الشّرك إلى دار الإسلام لطلب دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها في دار الإسلام، فهجرته إلى ما هاجر إليه من ذلك، فالأوّل تاجِر، والثّاني خاطِب، وليس واحد منهما بمهاجِر. وفي قوله: «إلى ما هاجر إليه» تحقير لما طلبه من أمر الدّنيا، واستهانة به، حيث لم يُذكَر بلفظه. وأيضًا فالهجرة إلى اللّه ورسوله واحدة فلا تعدُّد فيها؛ فلذلك أعاد الجواب فيها بلفظ الشّرط. والهجرة لأمور الدّنيا لا تنحصر، فقد يهاجر الإنسان لطلب دنيا مباحة تارةً، ومحرَّمة تارةً، وأفراد ما يقصد بالهجرة من أمور الدّنيا لا تنحصر؛ فلذلك قال: «فهجرته إلى ما هاجر إليه» يعني كائنًا ما كان"[16].
قال ابن تيمية رحمه الله: " والمعنى الّذي دلَّ عليه هذا الحديثُ أصلٌ عظيم من أصول الدّين؛ بل هو أصل كلِّ عمل؛ ولهذا قالوا: مَدَار الإسلام على ثلاثة أحاديثَ، فذكروه منها"[17].
قال ابن رجب رحمه الله: "وقد روى وكيعٌ في كتابه، عن الأعمش، عن شقيق - هو أبو وائل - قال: خطب أعرابيٌّ من الحيِّ امرأةً يقال لها: أمُّ قَيس، فأبت أن تزوَّجَه حتّى يهاجِر، فهاجَر، فتزوَّجته، فكنَّا نسمِّيه (مهاجر أمِّ قيس). قال: فقال عبد اللّه - يعني ابن مسعود -: من هاجَر يبتغي شيئًا، فهو له. وهذا السّياق يقتضي أنّ هذا لم يكن في عهد النّبيِّ ﷺ، إنّما كان في عهد ابن مسعود؛ ولكن رُوي من طريق سفيان الثّوريِّ، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن ابن مسعود، قال: كان فينا رجل خطب امرأةً يقال لها: أمُّ قيس، فأبت أن تزوَّجه حتّى يهاجر، فهاجر، فتزوَّجها، فكنّا نسمِّيه (مهاجر أمِّ قيس). قال ابن مسعود: من هاجر لشيء فهو له. وقد اشتَهَر أنّ قصّة مهاجر أمِّ قيس هي كانت سببَ قول النّبيِّ ﷺ: «من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها،» وذكر ذلك كثير من المتأخِّرين في كتبهم، ولم نرَ لذلك أصلًا بإسناد يصحُّ، واللّه أعلم"[18].
قال ابن تيمية رحمه الله: "وقد تنازَعَ النّاس في قوله ﷺ: «إنّما الأعمال بالنّيّات»: هل فيه إضمارٌ أو تخصيص؟ أو هو على ظاهره وعمومه؟ فذهب طائفة من المتأخِّرين إلى الأوّل، قالوا: لأنّ المراد بالنّيّات الأعمال الشّرعيّة الّتي تجب أو تُستحبُّ، والأعمال كلُّها لا تُشترَط في صحَّتها هذه النّيّات؛ فإنّ قضاء الحقوق الواجبة من الغصوب والعواريِّ والودائع والدّيون تبرأ ذمَّة الدّافع، وإن لم يكن له في ذلك نيَّة شرعيّة؛ بل تبرأ ذمَّته منها من غير فعل منه كما لو تسلَّم المستحقُّ عين ماله، أو أطارت الرّيح الثّوب المودع أو المغصوب فأوقعته في يد صاحبه، ونحو ذلك. ثمّ قال بعض هؤلاء: تقديره: إنّما ثواب الأعمال المترتّبة عليها بالنّيّات، أو إنّما تُقبَل بالنّيّات. وقال بعضهم: تقديره: إنّما الأعمال الشّرعيّة أو إنّما صحّتها أو إنّما أجزاؤها، ونحو ذلك. وقال الجمهور: بل الحديث على ظاهره وعمومه؛ فإنّه لم يرد بالنّيّات فيه الأعمال الصّالحة وحدها؛ بل أراد النّيّة المحمودة والمذمومة، والعمل المحمود والمذموم؛ ولهذا قال في تمامه: «فمن كانت هجرته إلى اللّه ورسوله...» إلخ، فذكر النّيّة المحمودة بالهجرة إلى اللّه ورسوله فقط، والنّيّة المذمومة، وهي الهجرة إلى امرأة أو مال، وهذا ذكره تفصيلًا بعد إجمال، فقال: «إنّما الأعمال بالنّيّات، وإنّما لكلّ امرئ ما نوى»، ثمّ فصّل ذلك بقوله: «فمن كانت هجرته...» إلخ"[19].
قال ابن رجب رحمه الله: "وسائر الأعمال كالهجرة في هذا المعنى، فصلاحها وفسادها بحسب النّيّة الباعثة عليها؛ كالجهاد والحجّ وغيرهما، وقد سُئل النّبيُّ ﷺ عن اختلاف نيّات النّاس في الجهاد وما يُقصد به من الرّياء، وإظهار الشّجاعة والعصبيّة، وغير ذلك: أيُّ ذلك في سبيل اللّه؟ فقال: «من قاتل لتكون كلمةُ اللّه هي العليا، فهو في سبيل اللّه،» فخرج بهذا كلُّ ما سألوا عنه من المقاصد الدّنيويّة؛ ففي الصّحيحين عن أبي موسى الأشعريِّ أنّ أعرابيًّا أتى النّبيَّ ﷺ، فقال: يا رسول اللّه، الرّجل يقاتل للمَغنَم، والرّجل يقاتل للذِّكر، والرّجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل اللّه؟ فقال رسول اللّه ﷺ: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»"[20].
قال ابن تيمية رحمه الله: "والنّيَّة مَحَلُّها القلب باتِّفاق العلماء؛ فإن نوى بقلبه ولم يتكلَّم بلسانه، أجزأته النّيَّة باتّفاقهم"[21].
المراجع
- "مجموع الفتاوى" (18/ 247، 248).
- "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 24، 25).
- "مجموع الفتاوى" (18/ 255).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 71، 72).
- "مجموع الفتاوى" (18/ 254).
- "فتح الباري" لابن حجر (1/16).
- "مجموع الفتاوى" (18/ 256).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 63 - 65).
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (1/ 120).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 65، 66).
- "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 25، 26).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 70، 71).
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (6/ 332).
- "مجموع الفتاوى" (18/ 257).
- "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 26).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 72، 73).
- "مجموع الفتاوى" (18/ 249).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 74، 75).
- "مجموع الفتاوى" (18/ 252، 253).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 75).
- "مجموع الفتاوى" (18/ 262).